مقالات

قواعد الاشتباك السياسي في البحرين: التذكير بالسلطة نموذجا

 

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

التذكير بالسلطة ومركزية سطوة نظام الحكم قاعدة ينتهجها نظام الحكم في البحرين في أغلب مفاصل المشهد السياسي المتأزم منذ عقود. وهذه القاعدة لا تبدو غريبة على أي نظام استبدادي خصوصا عندما يصبح هذا النظام في وضعية الانحناء والتضعضع أمام المعطيات السياسية الأكبر من حجمه.

عملية التذكير بالسلطة ومركزية الحاكم في اتخاذ القرار وتمضية السياسات؛ تتخذ صيغا وأشكالا متعددة تبدأ من الدرجة الصفر المعنية باستخدام القدر الأكبر من القوة والبطش والقهر والإكراه والتنكيل وإنزال العذاب المادي على كل المخالفين، وعندما تصبح هذه الدرجة عاجزة عن تحقيق هدفها عبر مقاومة الناس للسلطة ووجها الدموي وعبر كسر تابو السلطة نفسها – حيث تفقد آلية التذكير بالسلطة القامعة عديمة الفائدة وغير مجدية – تبدأ الدرجة المعكوسة أو الوجه الآخر للتذكير بالسلطة، حيث تلجأ السلطة بإعادة إنتاج نفسها وإعادة إنتاج تسلطها وشراستها عبر تحويل واقع القمع والظلم إلى يافطة الإصلاح والعفو وفتح الأبواب للتفاهم والتقارب والبدء في مشروع تجديد سياسي ملهم.

 

المقاومة بالصبر الإستراتيجي

 

بالنظر إلى المشهد السياسي المرتبك والمعقد في البحرين؛ نجد أن الإطار الذي كانت الاحداث تتلاحق في ظهورها بشكل محير وعلى شكل ألغاز لدى البعض؛ يمكن إرجاعها للمبدأ السلطوي أعلاه، وهو التذكير بمركزية السلطة ومركزية “الملك”، أو الديوان الملكي أو رئاسة الوزراء، وهذا ما حدث منذ فبراير 2011 عندما تحدى الناس سلطة الحاكم وسلطة النظام وكسرت جدار الخوف؛ فكشرت السلطة عن أنيابها عبر حملة قمع دموية لم يسبق لها مثيل لإجبار الناس على التراجع عن ثورتهم.

الآن وبعد أكثر من سبع سنوات؛ بات واضحا أن حيلة الناس ومقاومتهم لم تستجيب تماما لإشعار التذكير بسلطة القمع والإكراه، بل إن أولئك الذين تم التنكيل بهم تعذيبا وسجنا ونفيا ومطاردة التجأوا إلى حيلة “الصبر الإستراتيجي”، وهي الحيلة الأكثر فاعلية لمقاومة وجه السلطة الدموي. فالصبر الإستراتيجي يقوم على فكرة بسيطة ومجدية سياسيا وهي تغيير قواعد الاشتباك اليومي التي تتيح للحاكم ممارسة آلية التذكير الدموي، واستبدالها بقواعد اشتباك سياسية تفقد الحاكم قدرته على تمرير مشاريعه السياسية وتفرض عليه عزلة خانقة تتضخم فيها قدرته العسكرية حتى تكاد تنفجر في داخلها عبر صراعات داخلية على مراكز القوة في داخل النظام. هذه الحيلة لا تبدو سهلة ما لم يكن هناك وعي لدى قيادات المقاومة ولدى الناس بأهمية استبدال قواعد الاشتباك اليومي، وأهمية تحويل التذكير السلطوي إلى كابوس على النظام نفسه.

الانتقال بين أوجه التذكير لا يحدث بشكل خطي بقدر ما يكون متوزعا على فترات ضعف النظام واختلال توازنه تحت ظروف متعددة. والأنظمة القوية والمتماسكة يندر أن تحدث فيها انتقالات متعددة، كما في الأنظمة الهشة والضعيفة التي يقف في مقدمتها النظام السياسي في البحرين. فخلال السبع سنوات الماضية اعتمد النظام على الوجه القمعي وآلية الإرهاب الرسمي لتذكير الجماهير المنتفضة عليه وسيلة وحيدة وأولية، لكنه وبسبب تآكله الداخلي لم يقو على الاستمرار الدائم لهذا التذكير، بل راوح كثيرا بين آلية العنف وآلية الحوار أو بين الدرجة الصفر والدرجة المعكوسة.

 

الإشاعات مجهولة الأبوين

 

خلال الأسبوع الماضي برزت إشاعات متكررة حول إمكانية إقدام النظام على إطلاق مجموعة كبيرة من المعتقلين بمن فيهم المعتقلون المحكومون بسنوات طويلة تصل إلى 15 سنة، وعملت بعض الجهات المحسوبة على النظام على ترويج هذه الإشاعة دون أن تسندها إلى مصدر رسمي أو معتبر. مثل هذه الإشاعات حتى وإن كان لها نصيب ولو قليل من الواقعية؛ إلا أنها تبقي حالها حال الإشاعات مجهولة الأبوين، حيث يمكن للنظام التنصل منها في أي وقت، وألا يلتزم بمحتواها، لكنه في الوقت نفسه يسمح لها بالانتشار والتداول دون تعليق منه عليها، لأنها تصدر بعناية ودراسة ووفقا لأهداف مدروسة تراعي أمرين مهمين أو رئيسيين هما:

  • أولا: التذكير بمركزية السلطة وقوتها الفائقة وأن حل الأمور في كل الأحوال يبقى مرتهنا بقرار المركز السياسي. وبعبارة أخرى، إن أمور الأزمة وانحلالها أو تعقدها هي مسألة محصورة بيد “الملك” أو من يخوله، وبالتالي فإن مقاومة الناس وصمودهم لا يعني شيئا في معادلة التذكير بالسلطة.
  • ثانيا: إن أغلب هذه الإشاعات تصدر في فترات اضطراب داخلية بين أطراف النظام سواء في كمية العنف المستخدم ضد الناس أو في طريقة إنهاء بعض الأزمات العالقة. فتحدث تلك الإشاعات فسحة لإعادة التموضع السياسي بين تلك الأطراف.

في مثل هذه الأخبار التي تتداول بسرعة فائقة وتتفاعل معها الناس تصبح الاحتمالات شبه مغلقة، ويمكن تصور ثلاثة احتمالات يمكن أن تقع:

  • الاحتمال الأول أن تكون هذه الأخبار إشاعات مثل كثير من الإشعاعات التي تنتشر في أوقات الضيق والحرج.
  • الاحتمال الثاني أن تكون بالفعل هناك رغبة في إحداث انفراج أمني أو ما يعبر عنه بالمبادرة نحو الحلول.
  • الاحتمال الثالث أن تكون هناك مراوغة صغيرة في الإفراج عن بعض الأشخاص الذين أوشكوا على إنهاء مدة سجنهم واستغلال ذلك في إطلاق إشاعات واسعة مثل التي انتشرت.

في حال الاحتمال الأول فإن التعاطي معه صار بحكم الخبرة واضحا، ولا يحتاج لكثير من الحديث أو التعليق. وقد نحتاج هنا إلى تحليل اسباب إطلاق الاشاعات ودورها في تخريب الرأي العام.

ولكن الأمر في الاحتمالين الآخرين مختلف تماما، ويتطلب موقفا سياسيا وإعلاميا يقوم على فحص أسس الاحتمال والدوافع التي قد تقف من ورائه. قد يحدث بالفعل انفراج أمني جزئي ومحدود نتيجة لثلاث مسببات هي:

  • أولا: وجود مفاوضات يقودها فريق من الداخل مع بعض الأطراف السياسية في السلطة.
  • ثانيا: أن حدوث هذا الإنفراج الأمني بالطريقة التي تسوقها الأخبار هي نتيجة للخلاف المشتعل بين أطراف السلطة، الأمر الذي يدفع بأحدهما لكسب الرأي العام والتوجهات الشعبية لتقوية ذاته أمام الأطراف الأخرى بعد فشل الآليات الداخلية في حسم الخلافات. وهذا التحليل يقوم على فكرة أن الخلافات الداخلية تستمر بين النخبة الحاكمة، وعندما تصل إلى حد التفجر تلجأ بعض الأطراف بالاستقواء بالطرف الشعبي لحسم الصراع أو الخلاف.
  • ثالثا: أن يكون هذ الإنفراج الأمني نتيجة لضغوط اقتصادية وحقوقية.

 

المقاومة بالمعرفة

 

في كل الأحوال؛ فإن مواجهة آلية التذكير بالسلطة عبر الإشاعات لابد أن تكون مصحوبة بمواجهة جذرية وصارمة بهدف كسر آلية السلطة وتعطيل أدوتها السلطوية، وهذا يتطلب إنتاج خطاب سياسي متماسك ينبني على مراعاة العديد من المعطيات المرصودة سلفا، وفي الوقت نفسه إنتاج معرفة جماهيرية تستهدف تقوية جدار المقاومة السياسية لآليات السلطة.

  1. إن حدوث هذا الإنفراج الأمني وإطلاق سراح المعتقلين هو أمر مفرح ومطلب إنساني لا يعطي النظام أو وسائطه أية امتيازات إضافية ولا يتطلب الشكر والامتنان للسلطة ولا حتى تقديرها سياسيا وإعلاميا.
  2. التشديد على الموقف السياسي الموحد حول التحول الديمقراطي الشامل والحقيقي بما في ذلك مبدأ حق الناس في اختيار شكل نظامهم وحكوماتهم.
  3. إن الأساس والمبدأ هو عدم اعتقال الناس أو حبسهم وأن مكان هؤلاء الطبيعي هو خارج السجن. وأن من حقهم مقاضاة السلطة في تعويضهم ومحاسبة المتورطين في اعتقالهم وتعذيبهم.
  4. إن هذا الاحتمال إنْ حدث فهو انفراج أمني فقط. وأن الجوهر الأساسي هو الحل السياسي وتحول في المواقف السياسية.
  5. إن حدوث هذا الحدث هو نتيجة طبيعة لإستراتيجية الصبر الإستراتيجي وهو ثمرة صبر الأمهات والمعتقلين وصبر أبناء الشعب.
  6. إن أي جهة تحاول تلبس الموقف أو استثماره سياسيا يجب عليها أن تعي جيدا أنها ستكون مسئولة عن مصير هذا الشعب ومطالبه.

هذه النقاط تمثل في النهاية سياجا منتجا لسلطة الشعب ووسيلة فاعلة لتذكير السلطة أيضا بأن هناك سلطة شعبية أقوى من سلطة النظام. فكما إن السلطة تعتمد آلية التذكير بالسلطة وسيلةً لتحقيق مواقع متقدمة في التوازن السياسي؛ فمن المهم أيضا أن تكون للقواعد الجماهيرية دراية بمعرفة إدارة المعركة سياسيا وإنتاج سلطة مضادة لسلطة القهر والإكراه والإرهاب الرسمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى