ما وراء الخبر

الخليفيون ومشروع الترحيل “الأبدي” للشيخ عيسى قاسم: محنة المرض.. والأسئلة الحائرة

 

البحرين اليوم – (متابعات)

مع قضية سفر/تسفير آية الله الشيخ عيسى قاسم بحجّة “العلاج”؛ تقفز إلى الذاكرة مقاطعُ “مرعبة” من التاريخ القريب. يتذكّر كثيرون رحلة العلاج التي قضاها الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري، والتي انتهت برجوعه إلى البلاد وهو في وضع خطير، وسرعان ما انتقل إلى الرفيق الأعلى. هذا الاسترجاع يبدو اضطراريّاً في الوقت الراهن، وفي وضعيّة الشيخ قاسم على وجه الخصوص. ففي حالة الشيخ الجمري لم يبادر “المعنيّون” بقائد انتفاضة التسعينات للقيام بأي عمل لتوثيق “المسؤوليّة” المباشرة للخليفيين فيما حصل للراحل، ليس فقط لجهة تعريضه للاعتقال وسوء المعاملة والتعذيب والحصار العسكري، وما ترتب على ذلك من ضغوط جسدية ومضاعفات نفسيّة؛ ولكن أيضاً لجهة طبيعة الاعتبار الرمزي للشيخ الذي اكتسح وجدان الناس، وكان وثيق الصلة بمشاعرهم الخاصة والعامة. قبل رحيله وبعده، لم تكن هناك من صنائع وتأسيسات ومبادرات “رسمية” تخلّد ذكرى الشيخ الجمري، تضعه في السياق الطبيعي والعمومي من قيامة “الدولة الحديثة”، ومن الانتفاض الشعبي الذي أنجز انعطافة مؤثرة في العام 2000م، وقبل أن يقع الانقلاب الأسود على الدستور وتنكشف سوءات ما كان يُحاك خلف الأستار. ولازالت هذه المظلومية قائمة حتى اليوم، وبشركاء متعددين.

بمعزل عن “خصوصية” الحدث الذي يمثله الوضع الصحي “الحرج” للشيخ قاسم؛ إلا أن قسماً من محبيه – ممن ستغلب عليهم العواطف الجياشة – سيكون عليهم التحلي بقدر واسع من التفهّم وسعة الصدر وهم يتابعون ردود الأفعال والقراءات الأخرى لقضيّة خروجه للعلاج، فالمسألة هنا أشد خطورة مما كانت عليه في قصة الراحل الجمري، والسلسلة الاستهدافية التي تعرض لها أبوسامي تفوق، بمراحلة جذرية، ما تعرض له أبوجميل، ولاسيما وأنّ “أثر” الجرائم الخاصة والعامة التي اقترفها الخليفيون بحق الشيخ قاسم لازالت قائمة، وهي مرشحة لأن تكون مواد إضافية يُؤسس عليها الخليفيون لما هو أكثر خطورة، وإجراماً، فيما حال تحقق المخطط بتسفير الشيخ ونفيه نفيا مؤبدا.

تسفير الشيخ قاسم: كذبة حمد الجديدة

بالعودة إلى سياق الحدث، فقد أكد وزير الخارجية الخليفي، خالد أحمد يوم الجمعة 6 يوليو 2018، وعلى حسابه في موقع (تويتر)، أن إجراءات ترحيل الشيخ اقسم، بحجّة العلاج، يتم الترتيب لها بعد “توجيهات” من الحاكم الخليفي حمد عيسى. لم يتحدث خالد عن الترحيل بالطبع، وقد كان كان لافتاً أنه استعمل وصف “الشيخ” في الحديث عن أبي سامي – على غير الحال الهجومي الذي داوم عليه الإعلام الخليفيّ ضد الشيخ منذ سنوات وخاصة بعد الاستهداف المفتوح في يونيو 2016م – وذلك في محاولة لتسويق الكذبة الجديدة بشأن “رحمة ومكرمة” حمد عيسى للسماح بسفر الشيخ للعلاج وتحمُّل التكاليف. وكان هناك حرص من خالد أحمد على تصوير هذا الخروج على أنه برغبة من الشيخ قاسم وبإرادته، في محاولة شرّيرة لنزع القيمة المعنوية والمرجعية للشيخ قاسم، وجعله في كنف النظام و”نفقته الخاصة”، بما يعني ذلك إسقاط كلّ المواقف الحاسمة التي أعلنها الشيخ في الحفاظ على الذات والهوية والتاريخ والوجود الشيعي من الارتماء أو الاستمالة باتجاه سلطة غير شرعية، بل ومجرمة أيضاً.

هذا العنوان هو ما ينبغي على الجميع التوقف عنده مليّا، وبعقل مسؤول، وخصوصا أن أحصنة طروادة و”شلّة الأنس” و”حزب المرجفين”، سرعان ما تلقفوا حدث تسفير الشيخ ليُعيدوا الهرج والمرج، وإعلاء الزعاريد حول “عطف” و”كرم” حمد، هذا الذي وقف وراء كل الجرائم والدماء والمعاناة المتواصلة حتى اليوم. لقد كان متوقعا أن يخرج أشخاص عديو الضمير، وكثيرو المصالح الشخصية والوجاهية، للتنظير الأخرق حول بروز “ثغرة” صالحة لرفع رسائل الاستعطاف والتذلل لإنهاء “الأزمة” ورفع الحصار العسكري عن بلدة الدراز، مشفوعا ذلك بسيل من عبارات النفاق لحمد، جنبا إلى جنب الهجوم القميء على المعارضين والأصوات الأخرى التي ترى في تسفير الشيخ أبعادا خطيرة، على شخصه وعلى ما يمثله وطنيا ودينيا وثوريا.

ثمة أسئلة عديدة يحتاج الإجابة عليها إلى صدق كبير وشفافية أكبر. قبل يوم من الإعلان عن سفر/تسفير الشيخ، كان العلامة السيدعبدالله الغريفي أطلق تطمينات في خطابه الأسبوعي بشأن “تسهيل” ترتيب علاج الشيخ قاسم، وقد فهم مراقبون على أن هذا الكلام يشير، مباشرة، إلى “الاتصالات” و”الوساطات” التي تحرّك عليها السيد الغريفي في الفترة الأخيرة، وأفضت إلى الصيغة المعلنة مؤخرا، والتي تتضمن ترحيل الشيخ تحت عنوان العلاج. والأسئلة الحائرة هنا هي:

هل هذه الإجراءات كانت، في المبدأ، محلّ رضا الشيخ قاسم، وأنها نالت قبوله المباشر؟ أم أن ضغوط المقربين والأصدقاء دفعت الشيخ للنزول عند رغبتهم، رغم تحفظه الأوليّ؟ هل أن الوضع الصحي لسماحة الشيخ يفرض عليه مغادرة البحرين، لعدم توفر العلاج المناسب فيها، ولماذا الآن، وقد انتكس وضعه الصحي قبلا، ولم يستدع الخروج؟ ولماذا يشوب هذه الأخبار غموض في حيثياتها، وفي سياقها الأصلي المتعلق بسبب المعاناة الصحية للشيخ، أي الاستهداف الشخصي بالحصار والحرب الإعلامية، واستهداف أبنائه من شعبه بالقتل والاعتقال والتعذيب؟ ثم ألم يكن الشيخ قد رفض في وقت سابق فكرة الخروج الطوعي من البلاد، كما رفض أن يكون علاجه بمنّة من أحد، كائتا من كان؟

موقف الشيخ قاسم من الخروج 

إنّ جزءا كبيرا من الجريمة التي يقترفها البعض بحق الشيخ قاسم، هو فصْل خروجه للعلاج عن هذه الأسئلة ومحتوياتها. فالأمر المتيقن هو أن الشيخ قاسم كان له موقف مبدئي في رفض الخروج من البحرين طواعية، وتحت أية ذريعة أو ظرف. ومنذ إقدام حمد عيسى على نزع الجنسية عنه، وإصدار أمره بقتل المعتصمين حول منزله واعتقال المئات منهم؛ كانت هناك عروض عديدة على الشيخ للخروج من البلاد، بزعم “الخوف على حياته”. إلا أن الشيخ كان واضحاً في رفض ذلك، وبضرس قاطع. فهذا الأمر لو حصل فسيكون ترحيلا انهزاميا، واستسلاما واضحا، ورضوخا للتهديدات. كما أن الشيخ يدرك بأن موقعه الرمزي الأكبر في البلاد، يمثل العنوان الأخير لأصالة الوطن والدين، وسيكون خروجه الطوعي، وتحت وابل التهديد، بمثابة إجهاز كامل على كل القضية التي رفعها فيما يتعلق بالدفاع عن الوجود الأصيل في هذه البلاد.

فضلا عن ذلك، فإن المعرفة الدقيقة لتركيبة الشيخ قاسم المعنوية والفكرية والشخصية، تؤكد بأنه ما كان ليوافق على الخروج الطوعي بعد أن سقط عدد من الشهداء الفدائيين أمام منزله. وإلا فإنه لو كان ميّالا لهذا الخيار، ولا يجدد غضاضة في الذهاب إليه؛ لقبل به أولاً وفي أول تصاعد للأحداث، وقبل أن يحتشد الناس حول منزله ويكونون تحت خطر التهديد القاتل المتكرر. إلا أن الشيخ، بحسب مسلكه العملي، وجد أن سيلا من الدماء كان يستحق الدفاع عن “القضية” التي كان يمثل عنوانها الأكبر، وهو رأى – رغم تحفظه المعهود في قضية الدماء – أن “بركان” التحدي لا ينبغي أن يتوقف، ولو تصاعدت التهديدات، وهو وجد أن تمسكه بالبقاء، ورفضه لكل دعوات أو ضغوطات الخروج من البلاد؛ ستكون إسهاما حيا في الحفاظ على هذه الدماء والتضحيات، وبالتالي التمسك بالموقع الثابت في قضية الصراع من أجل الوجود والهوية.

وقبل ذلك وبعده، فإن الشيخ قاسم لا يمكن أن يقبل أن يظهر حمد – المسؤول الأول عن استهدافه ونزع جنسيته، وقتل أبنائه من المواطنين – على أنه صاحب “الفضل والتكرُّم” في علاج الشيخ، وكأنه (أي حمد) بريء من كل الجرائم التي تنطبع على جبينه وجبين عصابته البتراء. ولهذا السبب؛ ما كان ليسمح الشيخ أن تجمعه مجددا صورة مع حمد، وذلك في الفترة التي ظهر فيها العام الماضي الدكتور فيصل الزيرة، مدير مستشفى البحرين الدولي، مروّجا للحاكم الخليفي ولعطفه على الشيخ وحبه له!

كل هذه الاعتبارات والأسباب، وغيرها، تبدو بديهية، وجلية لدى عامة الناس، وهي بالتأكيد غير خافية على الشيخ، وجلّ أن يكون ذلك. وتأسيسا عليها، وفي ظل عدم تمكّن الشيخ من الحديث العام، أو عدم رغبته في ذلك لتجنّب ارتدادات سلبية معينة، فإنه لا يمكن فهْم خروج الشيخ إلا باعتباره ترحيلا قسريا، واستغلالا وحشيا لوضعه الصحي، وهو أمر ساهم فيه، بشكل أو بآخر، بعض المقربين من الشيخ، وبحُسن نية.

الضغوط على الشيخ قاسم: النية الحسنة 

لا أحدا يمكنه أن يزايد على حرص السيدالغريفي، وطاقم الأطباء المقربين، على سلامة الشيخ قاسم، وعلى شدة الحفاظ على حياته من أي خطر قد تتعرض له بسبب المرض الذي يعاني منه. وعلينا أن نكون متفهّمين للأجواء الضاغطة التي يعانيها صديق صدوق مثل السيدالغريفي، وعلى النحو التي تجعله يجتهد في الاعتقاد بأن رابطة الصداقة التاريخية، والأخوة الإيمانية العميقة، تحتم عليه أن يُسهم في إقناع الشيخ وحثه على القبول بخيار الخروج من البلاد لتلقي العلاج المناسب، والتحرّر من الأجواء العسكرية الشديدة التي تُفرض عليه، وتؤثر حتما على صحته.

إلا أن هذا المسعى، وكما لا يخفى، سينتهي إلى المفصل الذي يكون فيه متقاطعا مع المخطط المعروف ضد الشيخ، والذي انكشف بعد إسقاط الجنسية عنه، أي ترحيله من البلاد. والإشكال هنا هو أن مساعي إخراج الشيخ طوعا؛ ستُسهّل تنفيذ المخطط الخليفي، وبما توفر له تغطية مناسبة لتبرئته من الجريمة، ولتنزع عنه تهمة تنفيذ الترحيل القسري المباشر، وسيجد النظام، بعد ذلك، تبريرات إضافية لإخفاء كل الجرائم التي وقعت، وتلك التي ستقع بعد إخلاء البلاد من الشيخ.

الشيخ قاسم: “أزمة” للنظام.. ولآخرين 

لن نختلف كثيرا في أن قضية الشيخ قاسم، وتداعيات حصاره؛ شكلت “أزمة” ضاغطة على النظام الخليفي، ولاسيما مع عجزه عن تركيعه، وفشل محاولاته المستميتة لتطويقه وعزله عن الجمهور. إلا أن “أزمة” أخرى شكلتها هذه القضية لدى جسم معين من المعارضين ورجال الدين، ممن كانوا يجدوا أنفسهم غير قادرين على الاستمرار في “دفع” ضريبة الوقوف إلى جانبه والانتصار لقضيته، وخصوصا أن توظيف هؤلاء لمواقعهم الدينية والسياسية تتحرك، أصلاً، في اتجاهات أخرى، لا تلتقي كثيرا مع صاحب شعار “الطوفان الذي لن يهدأ” و”اسحقوه”، و”ستعجزون ولن نعجز”. وفي المحصلة، فقد كانت قضية الشيخ اختبارا عسيرا، تفوّق فيه عدد من الناس والعلماء والنشطاء، وأخفق فيه آخرون، وبدرجات متفاوتة، حيث أُصيب البعض بالإعياء وقلة الحيلة وانسداد “الصبر الإستراتيجي”، وبالتالي الوقوع في “العجز” الذي أعلن الشيخ استحالة الوقوع فيه. وفي حين فضّل بعض هؤلاء الصمت، فإن بعضا آخر رجّح “منهج” المناشدات، وشجع – بشكل أو بآخر – على نمو الجماعات الطفيلية التي لا تكف عن الترويج للمصالحة المخزية، وإهدار كل التضحيات من أجل الحفاظ على “هيبة” حمد وعصابته.

بالنسبة لهؤلاء جميعاً، فإن خروج الشيخ من البلاد سيكون حلا لأزمة مركبة. بعض المعارضين السياسيين سيجدها فرصة للتحرك باتجاه “التفاوض”، وإشعال الأحلام الوردية التي تلطخت بالدماء والجرائم أكثر من مرة. وبعض المتسلقين سيرى في خروج الشيخ محرّكا جديدا لتشغيل ماكينة “المطامع الشخصية” وتحفيزا على نشر معجم الترهات القديم حول “تهدئة” الساحة و”تبريد” الأجواء من أجل “العودة بالبحرين إلى ساحة الأمن والسلام”، وعلى يد القاتل حمد الذي صفّق له تقي الزيرة، من الشلّة التويترية المعروفة، شاكرا له وحامدا رعايته للشيخ قاسم! كذلك، فإن هذا الخروج سيُخفف من وطأة “الضمير” على عدد غير قليل من رجال الدين، ممن كانوا قد ملأوا ساحات التظاهر في أيام “الرخاء” وهم يهتفون دفاعا عن الدين والعقيدة ورمزها المتمثل في الشيخ قاسم، إلا أنهم لم يقدموا من التضحيات أو المواقف إلا قليلا، ولأوقات قصيرة، ليتقدّم ساحة الفداء ثلة من الشباب الفدائيين الذين ما بدلوا تبديلا، وصدّقوا قولهم بفعلهم التضحوي الخالد. بالنسبة لهذا الصنف من رجال الدين، فإن التنظير العلني المعدّ لخروج الشيخ، هو القول بأنه سيكون في مأمن وسلامة في الخارج، وسينال الرعاية الصحية التي تحفظ حياته، إلا أن الدلالة الضمنية لهذا الكلام هو أنهم سيتنفسون الصعداء بعد التخلص من “العبء الثقيل”. إنهم، عميقا ومع أنفسهم، يرون التقصير في نصرة الشيخ وقضيته الوطنية والدينية، ويجدون أنهم لم يُثبتوا خطأ الشكوك التي سبق أن أسرّها الشيخ قاسم لبعض المقربين سابقاً، من أنّه لا يجد “اطمئنانا كبيرا بثبات بعض العلماء في مواقف التحدي، حينما يحين وقتها”.

إن الشيخ مثقل بالمرض، وبالهموم التي لا حدود لها، وهو في هذا السن المتقدّم يعاني أضعافا من الآلام والضغوط والتحديات، إلا أن المعروف عن مدرسته التي داومَ على ترسيخها خلال السنوات الأربع الأولى من الثورة؛ لن تجد انسجاما مع مخطط تسفيره إلى خارج البلاد بحجة العلاج، ولاسيما وهو يُدرك ببصريته وتجربته الحية غدْر النظام، وخبثه الأسود، وأن الاستهداف الأخطر الموجه إلى الوطن والدين قد يبدأ فور تنفيذ المخطط المشؤوم بترحيله إلى الخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى