ما وراء الخبر

إضراب علي مشميع: مفاتيح الإنجاز.. ومخطط المواجهة

 

البحرين اليوم – (متابعات)

بأكثر من مقياس، يمكن اعتبار إضراب الناشط علي مشيمع، وبمقدار الآثار القائمة والمحتملة؛ هو أبرز حدث احتجاجي للنشطاء البحرانيين يشهده العام الحالي ٢٠١٨م. وباستثناء الحضور الميداني، فإنّ النشاط المعارض داخل البحرين، منذ نحو أكثر عامين، ولأسباب كثيرة في مقدّمتها القمع الرسمي؛ أُصيب بأكثر من نكسة، إلى حد الإخماد، إلا أن الإيقاع الذي أحدثه إضراب مشيمع مهيأ له، أو ينبغي، أن يضخ طاقة في المعارضة السياسيّة والحقوقية، وخصوصاً في المواضع والمواضيع التي تتصل مباشرة بالصراع السياسيّ مع آل خليفة، وبما هو أبعد من المسألة الحقوقية وأبعادها “المطلبيّة”.

وقد أكّد عالم الاجتماع والمعارض المخضرم الدكتور عبدالهادي خلف على جزء من هذه المقاربة، وقال في كلمة أثناء حضوره الشخصي أمام السفارة الخليفية في لندن للتضامن مع مشيمع؛ بأن النجاح الأبرز الذي قدمه الأخير عبر خطوة الإضراب؛ هو الإحالة على جوهر المعضلة القائمة في البحرين، وهي أن الخليفيين لا يعتبرون السكان الأصليين “بشرا” يستحقون الحياة، فضلا عن بقية الحقوق الطبيعية الأخرى. وهي إشارة إلى أن آل خليفة، وكما يُشدّد الدكتور خلف، مازالوا يسيطرون على البلاد بناءا على موروث الغزو والغنيمة.

 

ذكاء معركة الأمعاء الخاوية

 

لاشك أن معركة الأمعاء الخاوية تحقّق نجاحها في حال كانت مجهّزة: بفاعلية على الأرض، وبمخطط تصاعدي وتصعيدي، وبإرادة فعلية وصامدة. وحتى الآن، وبعد مرور أكثر من ٢١ يوما على الإضراب؛ فإن مشيمع وصحبه والداعمين والمتضامنين أثبتوا إحاطة سليمة بشروط الإنجاز والنجاح، ليس لجهة ترسيخ الحق في التجمع والاعتصام أمام السفارة، ولكن أيضاً في النقاط التالية:

١- حيوية خطوة الإضراب وتحويلها من اعتصام فردي إلى منبر للاحتجاج الجماعي، ولكن بوتيرة هادئة ومتدرجة.

٢- المراوحة المنسجمة، والناعمة، بين المطلب الخاص الذي يُضفي الشرعية والأخلاقية (والجاذبية الإنسانية والعاطفية) في إضراب مشيمع، أي المطلب المتعلق بوالده السبعيني، والمطلب العام الذي يرتبط بقضية السجناء السياسيين عموما في البحرين.

٣- تنوع التضامن مع الإضراب من حيث العدد والكم ليأخذ وتيرة الزيارات الفردية على مدى الأسبوع، والزيارات الجماعية في أوقات الذروة أو المناسبات (المؤتمرات أو الاعتصامات أو ليالي الجمعات).

٤- اتساع المتضامنين من حيث تنوع الانتماءات والتوجهات، ليشمل الجاليات المختلفة، والمنظمات الحقوقية، ووسائل الإعلام، وعموم العوائل والمواطنين والنشطاء البريطانيين، فضلا عن أبناء الجالية البحرانية بنشطائها ورموزها (ولو في النطاق العام منها).

٥- تصاعُد برنامج الإضراب ليأخذ مستويات إضافية من حيث النوع والمحتوى، من قبيل مبيت نشطاء وشخصيات بريطانية مع علي مشيمع، ودخول آخرين في إضراب مرافق ومؤقت (إضراب ابنة المعتقلة هاجر منصور).

٦- تغطية برامج الإضراب والحراك التضامني، الفردي والجماعي، وتوثيقه بمختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وتوفير متابعة مباشرة وحيّة لحدث الإضراب، في الليل والنهار، في وقت الحر أو مع هطول الأمطار.

٧- إحباط كل محاولات إفشال الإضراب والاعتصام التي قامت بها السفارة، وتحويل هذه المحاولات إلى عناصر قوّة إضافية للإضراب وتصعيده إعلاميا وعملانياً.

من النقطة الأخيرة، يمكن القول بأن المعركة بالنسبة لآل خليفة حتى الآن محتدمةٌ وفي منتصفها على الأقل، وأن جعبة فواز الخليفية لازالت تُخفي الكثير من القذارة.

 

مخطط الخليفيين والبريطانيين في مواجهة الإضراب

 

جرّب الخليفيون مخططا من الإفشال والتشويش على إضراب مشيمع وفعالياته المرافقة، ومنذ يومه الأول. وقد بدأ المخطط وتواصل على النحو التالي:

١- نشْر بيانات مضللة وكاذبة حول الملف المطلبي الذي رفعه مشيمع في الإضراب، أي ملف والده الأستاذ حسن مشيمع. وادعت السفارة، والسلطات الخليفية تبعاً لها، بأن الأستاذ يتمتع برعاية صحية كاملة. ثم ادعت بأن الأستاذ هو الذي يرفض الذهاب للمستشفى والزيارة، من غير أن تذكر توضيحا لهذا الرفض، ثم فضحت الأمر بعد ذلك وأقرت جزءا من الأسباب وقالت بأن الأستاذ يرفض ارتداء الزي “الرسمي” للسجناء.

يمكن القول بأن خطة البيانات المضللة فشلت في تحقيق أغراضها، أي في “إسقاط” المطلب المُحرِّك لإضراب مشيمع. وتحقق ذلك أولاً عبر التصريحات الصوتية التي تم تسريبها للأستاذ مشيمع نفسه، والتي أكد فيها “كذب” السلطات والسفارة في ادعاءاتها، وتشديده على أنه لا يمكن للمرء أن يرفض العلاج أو مقابلة أهله، إنما “كرامته وحرّيته” لا تسمح له في الوقت نفسه أن يقبل بالقيود “العقابية” المشروطة لتلقي العلاج والزيارة.

كذلك، وهذا الأمر الثاني، فإن الموقف الحقوقي الذي أبدته منظمات دولية قديرة، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، في شأن قضية الأستاذ والرموز المعتقلين؛ فرّغت الإدعاءات الرسمية من محتواها، وفضحت ما انطوت عليه تلك الإدعاءات من “أكاذيب فاضحة”.

ومن المؤكد أن السفارة والسلطات الخليفية ستواصل “إستراتيجية” التضليل والكذب في مواجهة إضراب مشيمع وتداعياته المرتقبة، ولكن من الأرجح أنها ستتورّط أكثر كلما “أمعنت” في الكذب وتضليل الحقائق، لاسيما وأن المعركة القائمة الآن تجري على أرض خارج البحرين، وهو ما ينزع من الخليفيين أسلحةً عديدة في تغليف الأكاذيب، وفي برمجة لعبة التشويش والهرطقات.

٢- التحريض ضد الإضراب والاعتصام المرافق له، من خلال التأليب عليه وسوْق اتهامات ملفقة ضد المعتصمين أو المتضامنين مع مشيمع. وأخذ هذا التحريض منحيين، الأول من جانب الموالين وعموم الناس، والثاني من جانب الحكومة البريطانية والحزب الحاكم، “المحافظين”.

في المنحى الأول حضّر فواز الخليفة لحملة ضد الاعتصام، للإدعاء بأنه يعطّل مصالح المراجعين للسفارة، وأن المعتصمين “يتحرشون” بالمارة ويتعرضون لهم. وكانت الرغبة، حتى الأيام الأخيرة، أن يتم توسيع نطاق هذه “الحملة”، إلا أنها باءت بالفشل بعد أن انحصرت في رئيس جمعية مراقبة حقوق الإنسان (الحكومية) فيصل فولاذ، الذي نظم مؤتمرا صحافيا في لندن للهجوم على الاعتصام وربطه بإيران، وبقية المصفوفات الاتهامية الجاهزة. إلا أن انحسار المؤتمر في أربعة أشخاص فقط، هم القيمون عليه، إضافة إلى المحتوى الدعائي والتضليلي الفاضح الذي ظهرت به حملة فولاذ، عدا عن كونه “شخص محروق أصلا” ويحمل سجلا سيئا منذ زمن.. كل ذلك أحال هذه الحملة إلى الفشل، رغم المواكبة المنظمة التي حظيت بها من الإعلام الخليفي وبعض الخليجي.

٣- الهجوم المباشر على الناشط علي مشيمع وإشعاره بالخطر الجدي على حياته في حال واصل الاعتصام والإضراب أمام السفارة. وتمثل هذا الهجوم بسكب السائل الرغوي على مشيمع من شرفة السفارة وهو نائم، وبعد أسبوع من بدء الإضراب. وكان واضحاً، وبحسب طبيعة العقل الأمني لفواز الخليفة، بأن هذه الرسالة تحمل “جدية” لا لُبس فيها في التهديد، ما استدعى المعارض البارز سعيد الشهابي إلى اعتبار الهجوم “محاولة اغتيال فاشلة”. وهي محاولة غير مستبعد أن تتكرر، وبوسائل أخرى.

٤- إرسال تهديدات بالانتقام إلى النشطاء المشاركين والداعمين لاعتصام مشيمع، وخاصة الأشخاص الذين يتولون أدوارا إعلامية ولوجستية في دعم الإضراب وحماية مشيمع ورعايته أثناء الإضراب أو نومه. وقد تلقى عدد من هؤلاء “مسجات” تهديد مباشرة، انطوت أيضا على شتائم وألفاظ قذرة. هذه التهديدات أيضا من المرجح أن تتواصل وأن تأخذ أشكالا مختلفة.

٥- توسيع نطاق التحريض ضد الإضراب وفعاليات الاعتصام، وتحويل التحريض إلى “صراخ عال”، وكما بدأ يوم الثلاثاء ٢١ أغسطس ٢٠١٨م مع دخول سوسن الشاعر وسعيد الحمد وبقية الوجوه الموالية المعروفة في مرحلة “الدوائر الحمراء” والتحريض الطائفي في السنة الأولى للثورة.

ومن المؤكد بأن السلطات أوعزت لهؤلاء الأشخاص بأن تبدأ، بعد أكثر من ٢٠ يوما من إضراب مشيمع، دورها المرسوم في مسلسل التحريض ونشر الدعايات والتهديدات، وخاصة لجهة الدعوة إلى اعتصام مناويء أمام السفارة البريطانية في المنامة (كما دعت الشاعر)، وكذلك تمرير اللغة الطائفية في مهاجمة المعتصمين أمام سفارة الخليفيين في لندن، وتركيز المشاهدة عند فعالية قراءة دعاء كميل والتعمية على المشهديات التضامنية الأوسع من المنظمات والشخصيات الحقوقية والبريطانية، ولأهداف معروفة لدى البحرانيين الذين خبروا طبيعة هذه “الطلعات الممجوجة” وأصحابها، أمثال سعيد الحمد. ولا يشك العارفون بكل ذلك أن فواز الخليفة هو “ضابط الإيقاع” في هذه النغمة التحريضية والطائقية، والأمنية، بحكم خبرته الموثقة إبان العام ٢٠١١م.

٦- التفاهم الضمني، والظاهر أحيانا، بين السلطات والسفارة الخليفية والحكومة البريطانية في إدارة الموقف من الإضراب والاعتصام أمام السفارة.

من جهة، لاشك أن الحكومة في بريطانيا على خط متواصل مع الخليفيين في رصد الإضراب والاعتصام، وفي تقدير الموقف تجاهه وأسلوب التعاطي – التدريجي – معه، وكان تغاضي الحكومة عن التحقيق في الهجوم الذي تعرض له مشيمع من شرفة السفارة، مؤشرا على هذا “التواطؤ” غير المستغرب. ومن جهة أخرى، فإنّ اللقاءات السرية التي تجري بين الطرفين توحي بأن هناك مخططا مؤجلا لتطويق الإضراب، على أمل التغطية عليه وتحجيمه في البداية (بوضع أكثر من سيارة في المواقف المحاذية للسفارة، وإقامة سياج حول السفارة، وخطوات أخرى مقبلة قد تصل لبدء أعمال صيانة كاملة لسور السفارة..)، ثم الإنقضاض عليه بطريقة أمنية. وكل ذلك غير بعيد الاحتمال، ومتوقع بحكم التلاقي المعهود بين الخليفيين والبريطانيين، وبالنظر أيضا لطبيعة الإنجليز في إدارة “المخاطر والأزمات”، وخاصة مع ملاحظة الجو الداخلي في بريطانيا (قضية صراع الأحزاب على الحكومة، وملف الانفصال عن الاتحاد الأوروبي..).

 

عناصر القوّة.. والضعف

 

عنصر القوّة في المعركة هو في جانب مشيمع والمتضامنين معه. هذا العنصر يتمثل في “وضوح الهدف وأخلاقيته”. لا يمكن أن تنجح الدعاية الخليفية، مهما بلغت في السوء والتحريض والتشويش، وكذلك سيكون البريطانيون في ورطة – الوقوع فيها مكسبٌ على أية حال – إنْ هم انقادوا أو تمادوا في الانجرار وراء النمط الفاضح لتلك الدعاية.

من الطبيعي أن النجاح لا يتوقف على هذه القوّة الأخلاقيّة. حتى الآن، يمكن القول بأن إضراب مشيمع بات مختبرا هاماً لقياس إمكانات الشكل الاحتجاجي غير التقليدي، وفي الظرف الاستثنائي الذي تكون فيه الأدوات الأخرى، وخاصة داخل البلاد، محاطة بالقيود والإكراه القمعي. غير أن العقل المرحلي، والتصاعدي، في تنفيذ الإضراب، يُفصح عن العقل الحيوي لمنظمي الإضراب، ليس في “الإشعاع” الزمني المفتوح الذي يمكن أن يمتد فيه – كلما طال إضراب مشيمع كلّما حقق مبتغاه في خلق الأزمة وتنبيه العالم بما يجري في البحرين – ولكن أيضا في التمدّد النوعي للإضراب، داخل البحرين وخارجه، وهو ما قد يكون إضافة جديدة في حركة الإضراب، لم تتوافر في التجارب الأخرى الشبيهة التي شهدتها ثورة البحرين، وقبلها أيضا.

ومع تثبيت قاعدة التضامن والدعم والتأييد لإضراب مشيمع، فإن المؤشرات توحي بأن الوسط البريطاني الشعبي والحقوقي والسياسي سيبدأ الدخول في مرحلة المبادرة وابتكار وسائله الخاصة في إظهار التضامن (إرسال بطاقات بريدية باسم مشيمع على عنوان السفارة، إيصال رسائل مباشرة إلى السفارة، إطلاق البالونات التضامنية باتجاه السفارة..)، وهي مساحة سيكون الخليفيين على وجلٍ شديد منها، لأن مبادرات الاحتجاج البريطانية (الغربية عموما) عادة ما تكون خارجة على التوقعات، وذات طبيعة اقتحامية، ومتحررة من كل الممنوعات التقليدية المعتادة (لنتأمل مثلا أنماط الاحتجاجات الأخيرة في بريطانيا ضد زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة المتحدة في يوليو الماضي).

أما في نقاط الضعف، فأولها عدم كفاية “الحفلات” التضامنية التي تقدمها المعارضة البحرانية لإضراب مشيمع. وهي حفلات ذات طابع إعلامي في الغالب. وإذا كان بعض أطياف هذه المعارضة لازال يشتغل بالعقل الحزبي والذهنيّة التي لا تريد أن تتفاعل إلا مع الحدث الذي تصنعه هي وتملكه هي كلّه، ابتداءا وانتهاءا، فإن ذلك لا يعفي بقية المعارضة من مسؤوليتها في “تثمير” حدث الإضراب، وتوظيفه في الاتجاه السياسي، وبما يتصل بصُلب النضال ضد الديكتاتورية الخليفية والنظام القائم في البحرين برمّته. ومن المؤكد أنّ أيه معارضة تملك “نبضاً” مستمرا ستلمس في هذا الحدث الجاري أمام السفارة الخليفية في لندن؛ ما يحفّزها لتجديد ذاتها، وتوسيع طاقتها، وربما توسيع خطواتها إلى الأمام.

غير بعيد عن هذا الضعف ضعفٌ آخر يتصل بمحدودية نطاق المخاطبين في مثل هذه الاحتجاجات الموضعية. فحتى الآن، لازال هذه الجهات محصورة في نطاق فضاء الاعتصام (السفارة الخليفية في لندن)، والفضاء الإعلامي الافتراضي والمتلفز. لم يحدث حتى الآن ذلك التدحرج الذي يُبقي على مركزية الإضراب من جهة، ويفتح له الأذرع المواكبة من جهة أخرى. جزء من الإضرابات المتوقعة في سجون البحرين تحقق جزءا من تمديد النطاق، ولكن المخاطبين سيكونون هم أنفسهم في كلا الحالتين (آل خليفة).

ما هو مطلوب، إستراتيجيا، ومع حساب احتمالات التطويق الأمني وما شابه للإضراب؛ هو التفكير في النطاقات الأخرى للإضراب، ووضْع بدائل للأمكنة وللمخاطبين التالين من هذه المعركة، والتي لا يجب أن تنتهي بسقف اعتيادي، أو باحتواء عند الحدود الدّنيا من التفاهم والتراضي، بل من الأصوب – وفي هذا الظرف الحرج من الوضع المحلي في البحرين، ومن ملف القضية برمتها – اعتبار هذه المعركة – التي يمثل اليوم علي مشيمع عنوانها، إنما لا يجب أن يكون هو الوحيد فيها – اللحظة المناسبة لتعمير الثورة البحرانية من جديد، وإعادة الحيوية للمشروع السياسي المعارض، أو ترميمه بسرعة، وضخّه على الملأ الدولي، وأن تكون فرصة سانحة أيضا لتجميع شتات المعارضين وتوليفهم من جديد، وبما هو أوسع وأطول وأجدى وأصدق من لقاء المجاملات أو العتاب المملل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى