تقارير

:: وجوه الثورة :: الشيخ عبد الأمير الجمري.. والد الشعب الذي مازال حاضرا

-تعيد (البحرين اليوم) نشر هذه المادة بمناسبة ذكرى رحيل العلامة الشيخ عبد الأمير الجمري، وتم نشر المادة العام الماضي بتاريخ 18 ديسمبر.

البحرين اليوم – (وجوه الثورة)

 

تتجاوز روابط الاتصال بين الشيخ عبد الأمير الجمري (١٩٣٨-٢٠٠٦م) وشعب البحرين؛ حدودَ الروابط السياسية أو التمثيل الرمزي والروحي الذي ترسّخ على نحو واسع في انتفاضة التسعينات (١٩٩٤م) وما بعدها. ثمّة روابط أخرى تبدو أكثر انجذابا وتأثيرا تجمعُ المواطنين بأبي جميل، وتتعلق تحديدا بتلك العلامات العاطفية التي تشدّ الناسُ إلى الرجل الذي كان أشبه ما يكون بالأب الحاني الذي يفرح لفرح أبنائه، ويفيض بالدموع الغزيرة حين ينالهم الوجعُ أو تُبعده عنهم قسراً المسافاتُ. لهذا كان الشيخ الجمري فائضا بالحبّ والعطف والاشتياق، ولم يكن يجد مانعاً أو حرجاً في إطلاق هذه المشاعر، وبصوته الذي ينبض بالناس وبقلوبهم المفعمة بالاشتياق المتبادل.

حافظَ الشيخ الراحل على المسافة التي تجعل من علاقته بالنظام “رهناً” لإصلاح نفسه. لم يكن يتقدّم الشيخ خطوةً نحوه إلا بالقدر الذي يكون فيه (النظام) واقعاً في دائرة “الضرورة” التي تُجبره – ولو بعد حين – على التخلي عن طبعه في القمع، وإحداث الإصلاح، أو ما يُشبه ذلك. استقالته من القضاء الرسمي لم يكن فقط نزْعاً للشرعية المنقوصة في النظام، ولكنه أيضا شكل من أشكال “المفاصلة” عن محور الشّر والظلم.

شكّلت انتفاضة التسعينات المختبر الأكبر في حياة الشيخ الراحل. لم يتخلّ عن انحيازه الصّادق للنّاس، وتمسّكَ بخيار رفض الانصياع لإكراهات السلطة التي كانت تريد منه الابتعاد عن الواجهة، ليُكشَف بعدها الغطاءُ عن الجماهير التي بدأت تخرج في الشوارع. تقدّم الساحةَ في وقتٍ كان وابل الرّصاص يتساقط من كلّ الاتجاهات. وفّرَ الرعاية الرمزية والحاضنة الشرعية لشهداء الانتفاضة، فيما كان النزاعُ على أشدِّه مع الاتجاهات “الدينية” الأخرى التي ترى “تديّنها الطبيعي” في أحضان السلطة، وقد وجّهت انتقاداتها اللاذعة للحراك المطلبي من بوّابة التشنيع في التمثيل الشرعي لمطالب الناس وقتئذ. مع اشتداد القمع، وكثافة الجدل حول “شرعية” الانتفاضة؛ كان الشيخ الراحل يُصرُّ على بيان الموقف من خلال مشاركته في جنائز الشهداء من جهة، ومن جهة أخرى كان يفكّ، دون تردد، التلبيسات المفبركة حول الانتفاضة عبر اجتراح الفرْق بين الممارسة الدينية التي تكون مع الناس، وتلك التي تختار الانحياز للسلطة وتبريراتها في القمع والاستبداد.

تعرَّض الشيخ لانتقام مزدوج من آل خليفة. عدا عن السجن وعذاباته؛ فقد كان المخطّط تعريض الشيخ وتياره للاغتيال السياسيّ، كما بدا من خلال “إصدار” العفو عنه بعد إحالته للمحكمة وإصدار حكم بسجنه ١٠ سنوات في يوليو ١٩٩٩م. حرص حمد عيسى على أن يظهر الشيخ الراحل عبر التلفاز وهو يستقبله في قصره بعد يوم واحد من صدور الحكم. لم يكن يُراد للشيخ أن يعود إلى الناس كما كان، وفُرِض عليه الحصار بعد إطلاق سراحه، وظلّ مُقيّدا في حركته خارج منزله، وممنوعا على المواطنين التوافد بحرية إليه. كرّرت السلطة هذه السياسة مراراً مع الشيخ الجمري ورفاقه، في التسعينات وبعدها، وعلى أمل أن تستفيد من “البلبلة” المتوقعة لتمرير ما تراه مناسباً لها من فتن داخلية ومن وجوه بديلة تكون أنسب لها لإمضاء ما تريده على أرض الواقع. في كلّ الحالات المماثلة التي جرّبتها مع الشيخ ورفاقه؛ فإن سياسة “الاغتيال المعنوي” باءت بالفشل، ليس لأن الناس لم تكن تُدرك أن هناك أخطاءا موضوعية وقعت بالفعل، ولكن لأنهم يعرفون جيداً أن الشيخ ومجموعته القيادية؛ لم تكن في وارد الخروج على “قَسَم” الوفاء للشعب، وهيهات أن ينقضوا الإيمانَ الوثيق بصواب خيارات الحرية والعدالة.

رغم أن الراحل كان خطيباً، والمنبرُ من أشيائه المفضّلة؛ إلا أن التنظير الغارق في الخيال لم يكن من طبائعه اللصيقة. كان العملُ والدّخولُ في ساحة الفعل هو الأجدى برأيه. من هذه الاندفاعة؛ وجد نفسه سريعاً بين الناس وقلوبهم الملأى أملاً وألماً. الذين يعملون أكثر يكونون أقرب إلى القضايا التي تشغل الناس، وهو اقترابٌ تمثّل بخصوصيته لدى الشيخ الراحل بعد أن أضفى عليه، دون تكلّف، ذلك التواضع المرهف الذي جعله يرى راحته القصوى في حضور المناسبات العامة، ومشاركة الأهالي الأفراح والأحزان. هذا الاندماج في العموم تلاقى مع خصاله المعروفة في العمل الجماعي، والحرص على المشورة، والتلقائية المفتوحة على طيب القلب ونقاء السريرة. لهذا السّبب ظل الشيخ الراحل متربّعاً داخل وجدان الناس، ومحبوباً من مختلف الأطياف الأيديولوجية، ومن فئات الشعب كافة، ومن كلّ الأعمار والأجيال، ورغم تبدّلات الأحوال التي أحاطت بالشيخ في الفترات المتفاوتة التي شهدت قيادته للانتفاضة التسعينية، وبعد العام ٢٠٠١م حينما انفتحت الأبواب على متغيّرات جديدة وقيادات أخرى.

في جدالات انتفاضة التسعينات؛ كان الشيخ يُكرر بين جلسائه مقولة “التقوى الواقعية” في فرْزه للممارسات الأخرى التي تنحاز للسلطة. رسّخ هذا المفهوم الوظيفي الطرقَ الحوارية التي فضّلها الشيخ الراحل في استنزاف الإدعاءات المضادة. وهو المفهوم ذاته التي أمّنَ للشيخ مسالك البقاء المتواصل حيث يسكن في عقول الناس وذاكرتهم الوطنية، فيما كان نداؤه الأخير “ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين”؛ خلاصة لتلك الوفائية والمبدئية التي تلازمت في محطات حياته كلها، فأضحى – رغم مرور السنوات على رحيله – حاضرا بقوّةِ “الإرث العميق” الذي يرسم ملامحَ الطريق، ومسار الخيارات، وأفقَ الرؤية التي تنتسب إلى ما باتت تُسمى بـ”مدرسة” الشيخ الجمري. وهذا ما يُفسّر إطلاق الناس اليوم على الراحل وصف “شيخ الكرامة” و”وطن الشموخ”، وهو بذلك يكون – بلا شك – وجها من وجوه ثورة اللؤلؤة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى