نادر المتروك

أنشودة “أنت الدّخيل”.. والتلاقي الأخير مع دروس الثورة

نادر المتروك - كاتب صحافي - بيروت
نادر المتروك – كاتب صحافي – بيروت

البحرين اليوم (خاص)

نادر المتروك
هو أمرٌ عظيمٌ ومهول. ولكن الخيرَ فيما وقعَ. الهجومُ على الشّيخ عيسى قاسم قرَّبْ المسافاتِ المتوهَمة، وبدّدْ كلّ الحواجز المتخيّلة، وأذابَ التّحفظات المضغوطة، ومهّد السُّبلَ الممكنةَ للتقدُّم – خطواتٍ متسارعة – باتّجاه التكوين المفاهيميّ الذي أسّسته ثورة ١٤ فبراير، وبلورته القوى الثوريّة عبر رؤاها المتنامية بالتّوازي مع فصول الإجرام والانتهاكات. لم يكن هناك تفوّقٌ “مُعجِز” في الرّؤيةِ، وما كانت المعارضةُ السياسيّة “قصيرةَ النّظر”، ولم تكن – بالطّبع -في وادٍ بعيدٍ عن بؤرة الحدث وعن بقعةِ الجريمة المفتوحة. ما حصل كان “اضطراريّاً” في وقتٍ سادته نظرية تعدّد الأدوار، وعدم نضوج التلاقيّ الفاعل بين الثوري والسياسيّ، وفي ظلِّ حواجز التردُّد التي تعلو، وتنخفضُ قليلاً، تبعاً لقسوة القمع، ولتأثير الإرجاف.

ما ميِّزَ القوى التي التحمت بالثّورة؛ هو أنّها راكمتْ، سريعاً ودون توهّم؛ قاموسَها الثّوريّ، وشذّبت لغتها وأدواتها، وبما يتناسبُ مع الحدثِ القائم، ومع الحدثِ المؤكَّد وقوعه، ولم يكن يعنيها في ذلك أنْ تلعبَ لعبة المراوحة السّياسيّة، أو هندسة التّوازن (المكسور) في التّخاطب مع النّظام ودوائره، أو مراعاة مقتضياتِ التنوّع في الأدوار والإستراتيجيّات. هذه القوى دخلت الثّورةَ وهي تُدرِك تماماً طبيعةَ النّظام وجوهره، وهي تملكُ استيعاباً واضحاً – مسبقاً – لمشروعه المتمدِّد، ونأت على الدّوام عن الوقوع في “انتظار الفرج” من “الشقيقة الكبرى”، أو من “الدّول العظمى”. وضعت قوى الثّورةِ خطوطاً واضحة: السعوديّةُ شقيّةٌ كبرى، وهي سرُّ البلاءِ ومصدره، وحبْلُها السّري موصولٌ بكلّ إثمٍ، وقُبْحٍ في البحرين والإقليم. أمّا الغربُ، وخاصة بريطانيا وأمريكا، فموقفُ الثورةِ وقواها كان مبكّراً في اعتباره “منافقاً”، و”متواطئاً”، “وداعماً” مع النّظام، واعتادت القوى على المطابقةِ بين الجارة الشقيّة، وأشقائها الأشقياء من الحلفاء.

الأنشودةُ الأخيرة التي أصدرها الرّادودُ الشّيخ حسين الأكرف؛ تعُطي مؤشراً إيجابياً على الالتقاءِ أخيراً مع المفاهيم والمصطلحات التي سوّتها الثّورة. الأنشودةُ التي سجّلت الموقفَ الشّعبي المتضامن مع الشّيخ عيسى قاسم؛ ثبّتت المصطلحات التي أسّستها الثّورةُ، سنةً بعد أخرى. بحسبِ قاموس الثّورة؛ فإنّ ما يفعله النّظامُ هو جريمةٌ تستهدف الوجودَ والسّكانَ الأصلاء، والنّظامُ “المجرمُ” ليس شبحاً لا رأس له ولا أقدام، أو جهازاً أمنيّاً اعتاد على “التصرّفات الفرديّة”، بل شخوصاً معروفين، شكلاً واسماً، وهم “عصابةُ إجرام”، ويمثّلون عارِضاً “محتّلاً” للأرض، ودخلاءَ على الوطن ومستوطنين فيه بقوّةِ النّار والأشقياء، وأنّ الرّدَ المناسب على جرائمهم هو مواجهتهم بشعار “ارحلْ” و فعْل “المقاومة” الحيّةِ وبـ”الثأرِ” المدنيّ المناسب، وبروحٍ من ثوريّةٍ “كربلاء” الذي تستطلبُ “ضرْبَ مكْرهم” و”لعْن غدْرهم”. هذه خلاصةُ أنشودة “أنت الدّخيل”، والتي يُفترض أن تكون القاطرةَ للانتقال من “وثيقة المنامة” إلى “ميثاق اللؤلؤ”، والتخلّي عن الاعتقاد التكتيكيّ بإمكان إصلاحِ النّظام، واليقين الثّابت بأنّ وصولَ الجريمة إلى حدود الدّراز وجامعها وشيخها الكبير؛ يُنبّه إلى أنّ الطّرقَ، كلَّها، باتت مقطوعةً عن الجلوس مع القتلةِ والجلاّدين، الكبارِ قبل الصّغار.

هناك منْ سيجد في ذلك مزيداً من العيْش في الأوهام، والتّحليقَ في العواطفِ السّاخنة. أولئك الذين اختاروا الخروج من حكاية ١٤ فبراير، لسببٍ أو لآخر، لا يجدون أمامهم إلا الطّرقَ المسدودة، وأنّ أيّ “تأجيج” لقاموس الثّورة؛ هو إضاعةٌ لبصيص الأملِ في “الحلّ السياسيّ” مع النّظام القائم. أصحابُ هذه الرّؤية يمكنهم الثّبات على هذا “البصيص”، والتّرويج له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، والإقدام على أيّ مسعىً أو “مبادرةٍ” لإقناع النّظام – وحلفائه – بأن “هذا البصيص” مشروعٌ، وحقٌّ نافعٌ للجميع. ولكن، ليس على هؤلاء – الطّيبين وغير الطّيبين – أنْ يترقّبوا من النّاس الانتظارَ طويلاً في منازلهم، وإلى حين أن يصلهم قرارُ ترحيلهم من البلاد، أو منعهم من الخروج منها، إلا إلى المعتقل، أو إلى مجالس الطاعة العمياء. وبالمثل، فإنّ الذين استبصروا مجرى الأمورَ اليوم بوضوحٍ أكثر، واندفعوا بثقةٍ نحو التّلاقي مع قاموس الثّورة؛ ليس عليهم أنْ يُزعجهم السؤالُ عن الخطوة التّالية، أو النّقاش في أيّ موقفٍ أو خطابٍ يصدر منهم لاحقاً، يكون فيه عودةٌ إلى ما قبل “أنت الدّخيل”، وما قبل “لبْس الأكفان”، وما قبل التّاريخ الذي سجّل فيه النّظامُ خطوته الأخيرة في الإنفصال عن النّاس، والوطن. وبالمثل أيضاً، فإن القوى التي ترى في نفسها “شرفَ” الأسبقيّة في بيان الرؤية، وتحديد المسار، وصياغة الشّعار والمطلب؛ يُنتظر منها ما هو أكثر من ذلك: أنْ تُبْرز أريحيّةَ التقدُّم عشر خطواتٍ مع منْ تقدّم إليها خطوتين، وأن تدفعَ – بإلحاحِ منْ يجدها الفرصةَ الأخيرة – لإتمامِ صناعة الوثيقة الوطنيّة الجامعة لقوى المعارضة، والاستجابة لمتطلّباتِ المرحلة الجديدة؛ مرحلة المفاصلة وقد أينعت ظروفُها، وتكاملت أطرافُها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى