ما وراء الخبر

خيارات ما بعد مذبحة الإعدام: اسحقوه أم قبضة على الزناد

البحرين اليوم – (متابعات)

“حمد هو المسؤول”.

الشعار الذي تردد في تظاهرات البحرين طيلة السنوات الماضية؛ بات هو العنوان النهائي الذي طبع علاقة الانفصال المطلق بين السكان الأصليين وآل خليفة، وذلك بعد تنفيذ جريمة الإعدام الجماعي التي شكلت “جريمة نوعية” غير مسبوقة في الشكل والمضمون.

(حمد) الذي وضعته القوى الثورية المعارضة في دائرة القصاص؛ لم يكن بمنأى عن الاتهام المباشر من عوائل الشهداء الثلاثة، وحمّلوه شخصيا مسؤولية إبرام الجريمة، وعاهدوا الشهداء بألا يتنازلوا عن ملاحقته، في الدنيا والآخرة.

في الوضع الراهن لثورة البحرين التي توشك على إطفاء شمعتها السادسة؛ لم يعد تحديد القصاص والاتهام بشخص حمد؛ مجرد شعار سياسي للتمايز بين أطياف المعارضة، وهو ليس تعبيرا عن غضب مؤقت على وقع جريمة دموية هزت الجميع. المؤكد أن تحميل حمد المسؤولية هو اختصار للمدى النهائي الذي وصلت إليه الثورة في مفاصلتها مع آل خليفة، وكانت لحظة الإعدام المروع الميقات الرسمي لهذا التحول الذي سيكون له إسهام جذري في تحضير الذهن العام لمقتضيات المرحلة التي ينبغي أن يبتعلها الجميع، في الداخل والخارج، بقدر كبير من الحكمة، ولكن أيضا بمراعاة دروس السنوات الست السابقة من الثورة.

مع جريمة الإعدام، تدخل البحرين من جديدٍ في منعطفِ صراع غير تقليدي. لا يجب أن يغفل أحد أنه إعدام جماعي غير مسبوق في البلاد، ويُسجّل سابقةً أخرى منذ إعدام الشهيد عيسى قمبر عام 1996. إنها  فاصلةٌ زمنيّةٌ تختصر طبيعة الصراع السياسي القاتم الذي اعتادت البحرين الولوج حين تفقد فيه القوى الأجنبية المؤثرة في النظام الخليفي القدرةَ على ابتكار الحلول السياسيّة الكفيلة بإطفاء الحجم الأكبر من الحرائق الغبية التي يشعلها آل خليفة.

لفهم أبعاد الزاوية الحرجة التي بات حمد عيسى محشورا فيها بعد جريمة الإعدام؛  ينبغي العودة للوراء واستذكار الخطاب السياسي العربي النخبوي الذي لم يُدرج البحرين ضمن موجات الربيع العربي، ولأسبابٍ تداخل فيها المنزع الطائفيّ والقرار القويّ للمال الخليجي. ولكن ثورة البحرين أصرت على أن تكون المقترح النموذجي للثورات العربيّة، وبالمحددات التي توافقت عليها ثوراتُ الربيع في أوّل انطلاقتها، بما في ذلك الاستقلال في التحرك الداخلي، وانتزاع ذرائع العنف العبثي، والإصرار على الاستمراريّة في الحراك الشعبي، ووضوح المطالب المرفوعة. ومضت ثورة اللؤلؤة في هذه الطريق، وحققت ما يمكن وصفه بإنجاز الغاية “المعنوية والسياسية” من مرحلة ما قبل مذبحة الإعدام، وأن عليها اليوم أن ترسم المرحلة اللاحقة.

في المرتكزات، ليس من داع بعد الجريمة من الاستمرار في خطاب استعطاف الخارج، وإهدار الوقت في البكائيات والألحان المعروفة بشأن السلمية. الثورة لم تعد بحاجة لهذا الخزان الخطابي، والعالم غير مؤهل اليوم لتصويب أية اتهامات للثورة، وهو ليس مستعدا للاستماع للمطوّلات حول حضاريتها والتزامها السلمي. مع التذكير أيضا أن التجاهل المنظم الذي وُجِّه لثورة البحرين لم يُصبْها بالخذلان السلبي ومرض الإحباط وجنون التشرذم، بل أسهم في دفعها إلى الاعتماد أكثر على نفسها، وتحفيزها على الابتكار في وسائل الاحتجاج وبما مهّد لاستيعاب أي تفجر ثوري في الشارع.

الآن، ماذا بعد؟ هل دخلنا مرحلة “المقاومة المفتوحة”، وعلى قاعدة السن بالسن، أم أن هناك مقدمات أخرى بانتظار القيام بها؟

المؤكد أن إعلان تفاصيل أي خيار ليس متاحا بسهولة اليوم، ولأي أحد. ولكن المؤكد أيضا أن هناك خللا في الخيارات السابقة وفي هندستها، وخاصة لجهة خيار “السلمية” الذي تخلى عنه أصحابه، وبات عنوانا للاستهلاك الخطابي، وتجنبوا المضي به صعودا في تسلسله الطبيعي الذي يفترض أن ينتهي نحو “الكفاح اللا عنفي”. يتوجب الانتباه أن واضعي وثيقة “اللا عنف” توقفوا عن العمل بهذه الوثيقة، ولم يفعّلوا شيئا من بدهيات العمل اللاعنفي حينما كان الظرف يستوجب عليهم ذلك. توقف هؤلاءِ عن ممارسة العمل السياسي برمته، وأصبحوا مدونين، أو زوارا للسفارات، أو مشاركين في مجموعات التواصل الاجتماعي. يعني ذلك أن هناك قصورا في الأخذ بالخيار الذي يؤمن بها المعارضون على طريقة “الصراع من داخل القلاع”، وبسبب ذلك فإنهم مطالبون أولا بتجاوز هذا الإشكال “الشخصي” والسياسي، قبل محاكمة بقية الخيارات.

يُضاف إلى ذلك، فإن مفهوم السلمية – كما يتم تداوله في خطاب المعارضين المحليين – ليس له صلة بمفهوم الكفاح اللا عنفي، أو المقاومة المدنية. كذلك، فإن الممارسة الميدانية التي ابتكرتها القوى الثورية خلال السنوات الماضية؛ ليس لها علاقة مباشرة بمفهوم السلمية إياه، ولا تنتمي بالمطلق للعمل اللا عنفي. هي ممارسة مركبة من مفهومين للشيخ عيسى قاسم لم يحظيا بالاهتمام الكافي من أتباعه “السياسيين”. الأول “اسحقوه”، بما هو فعل “عنفي” قائم على المقاومة والدفاع “المقدس”، والمفهوم الثاني “ستعجزون ولن نعجز” الذي ينطوي على أهم مباديء المقاومة المدنية التي دشنها سابقا قادة الثورة المعتقلين، ومنها: عدم الاستسلام للقمع الواقع، ورفض الاعتراف بالقانون غير الشرعي، وممارسة كل وسائل السلبية وعدم التعاون مع السلطات الجائرة.

علمليا، لم يأخذ بهذين المفهومين غير الشارع العام الذي تحركه القوى الثورية، وتراكمت في المقابل تساؤلات مؤلمة عن غياب الدرجة الدنيا من تفعيل اللا عنف من جانب المعارضين السياسيين، فضلا عن سبب عدم الأخذ بسياسة “اسحقوه”، ومستلزمات “ستعجزون ولن نعجز”. ولهذا السبب، فإن سؤال “خيار المرحلة” بعد الإعدام، لن يكون مفيدا ما لم يأخذ بالاعتبار هذا اللغط في المفاهيم، والخلل في الممارسات.

السياسيون والثوريون لم يجدوا حتى الساعة ما يضغط عليهم لاتخاذ قرارٍ فعلي بالتنسيق الإستراتيجي المشترك. لا يزال هناك ما يمكن وصفه بتعدديّة الخيارات السياسيّة والميدانيّة، انعكاسًا للانقسام، غير الصّدامي حتى الآن، الذي طبع المشهدَ الداخلي منذ ما قبل انطلاق ثورة 14 فبراير. من المرجّح أن يؤدي ذلك، وعلى خلاف المشهديّات السياسيّة في بلدان الربيع العربي (أو التي كانت كذلك)، إلى إحداث صيغةٍ جديدة في مسار الثورة، خاصة وأن النظام الخليفي لم يجد نفسه بعد مدفوعًا لتقديم تنازلاتٍ أو لوقف الوحش الذي استنفذ بالفعل سلّته من القمع التقليدي، ولا سيما بعد موجة القمع الأخيرة التي بدأت في يونيو الماضي، واستهدفت إغلاق أكبر جمعية سياسيّة معارضة (جمعية الوفاق)، وإسقاط الجنسيّة عن الشيخ عيسى قاسم. ومع تراوُح خيارات المعارضة السياسية بين السلميّة -بمعناها التفاوضي مع النظام- وخيار الاحتجاج الثوري -بما يُتاح من أدواتٍ في المقاومة الشعبية- فإنّ التأزُّم المستعصي في البلاد سيُجبر الجميع على اللجوء إلى ما يمكن وصفه ب”الحلّ الأخير”، أي الجلوس معا، وكفى إضاعة المزيد من الوقت.

بعد تنفيذ الإعدام، لم تتردد القوى الثورية في إعلان المرحلة الجديدة، وقالت بلغةٍ واضحة إن الإعدام فتح البابَ على مصراعيه للدخول في مرحلةٍ مفتوحة من المواجهة مع الخليفيين، وبما يتجاوز النمط المعهود من الالتزامات المعلنة وغير المعلنة التي حدّدت اتجاه ردود الأفعال ضد الجرائم الخليفية. تيار الوفاء الإسلامي -أحد هذه القوى- شخّصَ خياراته الجديدة تحت شعار “قضبة في الميدان، وقبضة في الزناد”، مؤكدًا بأنه “مستعد لتحمُّل تبعات هذا الخيار، ولن يُلزِم أحدًا باللحاق به، أو تحميله وزْر النتائج”.

لا تُشبه اللحظة الراهنة أيّ مرحلةٍ سابقة مرّ بها النضالُ السّياسي والحقوقي في البحرين. وهو ما يجعل من التكهنات اليوم نادرة ولا يجرؤ على الخوض فيها إلا منْ لا مشكلة عنده حين يُرمَى بالهرطقة ونسْج الخيالات. بتقريبٍ مشهديّ آخر، فإنّ الوضع القائم في البحرين ليس في مرحلة «النفق المظلم» فحسب، ولكنه أيضًا في نفقٍ مجهول، ولا تُعرَف نهايته الأخيرة، أو محطته النهائية. في العقل السياسي، فإنّ هذا الأمر يدعو لإعادة التفكير أكثر من مرّة، ليس في ردود أفعال المعارضين وخياراتهم المختلفة، ولكن في طرفي الصراع الحقيقي الذي يتحرّك فوق تراب البحرين: القوى الإقليمية (السعودية وإيران) من جهة، والبنية الشعبية العامة داخل البلاد من جهة أخرى.

من جانبها، السعودية مدفوعةٌ بأكثر من انزعاج بنيوي. فخريطتها الداخليّة ليست في أمان من أيّ تمزّق أو مفاجآت حاسمةٍ غير متوقعة. والاهتزاز -البطيء ربما- الذي يسري في المنطقة الشرقية (القطيف)، له معادِلٌ آخر في الحدود الجنوبيّة المتفجرة منذ بدء العدوان على اليمن في مارس2015. إضافة إلى ذلك، فإن صراعًا محتملًا يلوح في الأفق بين الهويّة السلفيّة (الوهابية) والمسار التحديثي الذي سيضطر آل سعود على الدخول فيه -أو سيُدخلونه عنوةً- لتلبية استحقاقات رؤية ولي ولي العهد محمد بن سلمان الاقتصادية. ثمة تضخم داخليّ في السعودية قد يقود لمخاضاتٍ متتالية مع كلّ اهتزاز أو تبرُّم أو خسران يلحق بها من خارج الحدود.

في الوضع الطبيعي، فإن الحكمة تقترح على أهل الحل والعقد من حكام الخليج اللجوء إلى التهدئة، والقبول بالحلول الصعبة، وتحمُّل الهزائم المؤقتة. إلا أن الشعور السعوديّ (والإماراتي) المفرط بمخاطر «العدو» الجديد الذي تمّ تكبيره -أي إيران- لا يُسعفها، للأسف، على التفكير الطبيعي. إنها ترْكُنُ إلى سياسة التفجير المزدوج، أو التخريب الجماعي، للحدّ من شدّة الخرائب المحاطة بها أو الزاحفة إليها، أو المستوية شيئًا فشيئًا في داخلها. ومن المحتمل أن السعودية، والإمارات بدرجةٍ أخرى، لن تنتظرَ طويلًا لتكتشف أنها اختارت السياسة الخاطئة في معالجة «أمِّ الأزمات» التي تتدحرج من وسط العواصم الخليجية -حيث الاحتجاجات الشعبية التي يقودها أهل البحرين- وصولًا إلى مياه الخليج التي تحبس الأنفاس الأخيرة، بانتظار نضوب الطاقة السوداء، والعزوف بعدها عن اعتبار الخليج منطقة «النفوذ» التي تستحق كلّ هذا العناء.

الذين يوشكون على تجديد الخلافات حول الخيارات في البحرين بعد جريمة الإعدام، عليهم أن يعوا أولا أن قسما من المعارضين تكاسل، أو تهرّب، عن أداء خياره، وهو غير مؤهل بسبب ذلك للترويج لخيار غير موجود وغاب عن الساحة منذ قرابة الثلاث سنوات، حينما تم الرضوخ لمنع التظاهر، وعاد السياسيون لمنازلهم. وثانيا، فإن على المخالفين لخيارات التصعيد الثوري وملحقاته أن يقرّوا بأن أهم أدوات التفعيل الثوري التي حفلت بها الثورة حتى اليوم؛ هي التي أبقتها حاضرة في الداخل وتمنعت عن الذوبان في النسيان والخذلان. وأخيرا، لا مناص من الإيمان بأن “الاصطكاك” بين البحرانيين وآل خليفة قد بلغ الزبى، وليس على أي معارض مخلص إلا أن يعمل بهذه الخلاصة، ويحرك تفكيره في متطلباتها، وأن يتجنب العودة إلى الوراء.

الذين يريدون البحث في خيارات ما بعد الإعدام عليهم أن يخرجوا من منازلهم أولا، ثم يعيدوا إحياء “وثيقة اللا عنف” في الميدان، وأن يكونوا أتباعا حقيقيين للشيخ قاسم الذي تجاوز الخليفيون معه كل الخطوط الحمراء.

في الظاهر، وعلى بُعد أقدام من هذا الموقف؛ فقد يتأجج مجددا الانقسام المستمر في الخيارات، وقد يكون إضافيًا، وسيلحق تركيبة المعارضة في الداخل والخارج، ولكن هذا الموقف -وهذا المهم- لن يضطر أطيافَ المعارضة المؤمنة بالخيار «السلمي التفاوضي»؛ على الدخول في معارك جانبيةٍ والدّوران في المهاترات الداخلية، ليس لكونها على استعداد للتمهيد أو أو التهديد بالخروج عن خيارها السلمي، أو اقتناعًا منها بعدم جدواه، ولكن لأن الآليات السياسية لديها ليس مسموحًا لها أن تذهب في هذا الاتجاه الخطير، ولسببٍ بسيط وهو أن جرائم النظام، والتي تُوّجت بالإعدام الجماعي، ستمنعها من اتخاذ أي موقفٍ علنيّ سيجعلها، أرادت ذلك أم لم ترد، في وضعيّة الاصطفاف مع النظام والتبريد على انتهاكاته وتخفيفها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى