المنامةما وراء الخبر

شعار العام بين الحقيقة والأوهام

رأي البحرين اليوم – خاص

دروس التاريخ تُعلمنا أن الأنظمة القمعية والدكتاتورية عادة ما تجري دراسات وأبحاث لتقييم وضع المعارضات لنظامها، ومعرفة نقاط قوتها وضعفها، وبالتالي فك رموزها المشفرة ووضع المخططات الكفيلة بالقضاء عليها، سواء بقمعها وإقصائها، أو بالتفاوض معها أو بإشراكها في الحكم. وبمرور الزمن فإن تلك الأنظمة الدكتاتورية تضع وصفة “سحرية” للتعامل مع أي حراك معارض.

الأمثلة كثيرة على ذلك وخاصة خلال الحقبة الماضية، وكمثال على ذلك نظام حكم أوغستو بينوشيه الذي أسقط حكم الرئيس اليساري سيلفادور الليندي عام 1973، فنظرا لشعبية الرئيس وقوة اليسار فإن نظام بينوشيه استخدم القمع الوحشي لإسكات المعارضة مستعينا بورقة شيطنتها عبر اتهامها بالارتباط بالإتحاد السوفيتي السابق في زمن الحرب الباردة، فحصل بينوشيه على دعم الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.

ومع الإقرار بوجود الإختلاف في بعض النواحي بين تلك التجربة وغيرها وبين نظام آل خليفة، إلا أن الأخير لم يشذ عن نهج تلك الأنظمة القمعية فيما يرتبط باستهداف المعارضة والعمل على تصفيتها! فهذا النظام الذي واجه موجات من الإنتفاضات الشعبية في تاريخه، درس بمعونة حلفائه الغربيين وتحديدا بريطانيا طبيعة الحراك المعارض سواء في مرحلة الخمسينات او الستينات أو في العقود اللاحقة. لذلك لوحظ استخدام النظام لبعض الأوراق “الرابحة” لضرب الحراك المعارض في البحرين، وفقا لدراسته لوضع المعارضة في كل عقد.

كانت الورقة الطائفية أحد تلك الأوراق الرئيسية التي استخدمتها ولازالت تستخدمها عائلة آل خليفة في قمع المعارضة وفي تهميش أغلبية المواطنين. لكن هذه الورقة احرقتها المعارضة الوطنية ممثلة بهيئة الإتحاد الوطني التي تأسست في العام 1953، إثر صدامات طائفية وقعت في موسم عاشوراء. فالهيئة كانت أول تجمع سياسي وطني يجمع طائفتي السنة والشيعة في البحرين، عبر ممثليهم، فهيئتها التأسيسية التي ضمت عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان من الطائفة السنية، ضمت في ذات الوقت محسن التاجر وعلي العليوات من الشيعة.

شكلت هيئة الإتحاد الوطني أكبر تحد للنظام الحاكم الذي يقتات على تمزيق النسيج الإجتماعي وتعميق الاستقطاب الطائفي في البلاد، خاصة بعد نجاح الهيئة في رفع منسوب الوعي القومي والتوعية بحقوق العمال والاعتراف بمبدأ تمثيل الشعب في المجالس الحكومية، وأخيرا نجاحهم في الإطاحة بالمستشار البريطاني بلغريف.

ولأن العائلة الحاكمة يؤرقها أي مشروع وطني عابر للطوائف، إذ تعتبر تمزيق المجتمع أحد العوامل الأساسية لديمومة حكمها، فقد وجدت العائلة الخليفية أن مثل هذا المشروع الوطني المعارض يشكل أكبر خطر على وجودها، فما كان منها إلا أن وجهت له ضربة موجعة تمثلت بحل الهيئة وتوجيه اتهامات كبيرة لأعضائها، وبالتالي إصدار احكام مطولة بالسجن عليهم ونفيهم خارج البلاد. لكن الهيئة وبرغم كل ذلك أسست لخط وطني معارض بعيدا عن الاستقطابات الطائفية.

وبالانتقال إلى تسعينات القرن الماضي التي شهدت انتفاضة ضد النظام الخليفي، فإن المعارضة التزمت بالخطاب الوطني الذي يتمحور حول المطالبة بحقوق كافة المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية. كان خطاب المرحوم عبدالرحمن النعيمي مانع لطأفنة المعارضة، فيما كان خطاب العلامة الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري والدكتور سعيد الشهابي والدكتور منصور الجمري هو الآخر لا يحاول إظهار مظلومية طائفة على حساب أخرى، وهو ما حال دون نجاح النظام في طأفنة المعارضة والمجتمع بالرغم من أنه كان يعقد لقاءات واجتماعات منفصلة مع السنة والشيعة.

وبرغم التزام رموز انتفاضة الكرامة في التسعينات، ورموز ثروة 14فبراير بالخطاب الوطني، لكن النظام وبمعونة سعودية في الدرجة الأولى نجح إلى حد ما في طأفنة ثورة 14فبراير التي اندلعت في العام 2011، وفي تدمير النسيج المجتمعي، حتى وصل الأمر إلى أن ردود الفعل على بعض القضايا مثل أزمة فيروس كورونا الحالية يتم تناولها بين الناس من زاوية طائفية ممجوجة.

حقيقة لا يمكن تجاهلها عبر دس الرأس في الرمال، فالشمس لا يحجبها غربال! لذلك فإن تعمق الخطاب الطائفي يحمل المعارضة مسؤولية أكبر، كما أنها مسؤولية على كل المؤسسات الإجتماعية والدينية وغيرها.

لم تنجح المعارضة لحد اليوم في تقديم مشروع وطني جامع وموحد، كما أنها لم تتمكن من إيصال صوتها إلى مختلف قطاعات الشعب، بعد أن غاب عن الجمعيات ومختلف التيارات القادة السياسيون المؤثرون ممن يمتلكون الوعي والخطاب الجماهيري. ويلاحظ على جمعية الوفاق مثلا وهي كبرى جمعيات المعارضة السياسية، دخولها في حالة سبات عميق منذ الزج بزعيمها الرمز الكبير الشيخ علي سلمان في السجن.

وفي ظل غياب المشروع الوطني الجامع، والفشل في إدارة دفة العمل الوطني المعارض أصبحت كبرى الجمعيات السياسية والقوى الثورية في حالة ترثى لها. فغياب بعض القيادات السياسية عن الأضواء، إذ لا يسمع لها صوت سوى مرة في العام، أدى بطبيعة الحال إلى حالة من الشلل! وسط غياب أي مشروع سياسي حقيقي. ولذلك يسأل المتتبع للوضع، كيف يمكن لنظام أن يهاب هكذا معارضة؟ ومالذي يجبر النظام على أن يحسب حساب لمعارضة متفرقة، وغير قادرة على أن تجمع كلمتها، وترص صفها وتثبت المشروع والخطاب الوطني؟

إن ما يبعث على الأمل هو ما يُسمع من هنا وهناك بان العمل جار على قدم وساق لتوحيد قوى المعارضة، وهو مشروع يتطلع له شعب البحرين الذي يعاني الأمرين تحت نير هذا النظام المتسلط، الذي يشجعه تشرذم المعارضة وغياب مشروعها على التمادي في الظلم والطغيان، بعد أن قرأ جيدا واقع المعارضة.

غير أن الآمال سرعان ما تتلاشى وتسود حالة من التشاؤم حينما يتنامى إلى المسامع عن أن تلك المحاولات مرت بمخاضات عسيرة في سبيل إصدار شعار، أو هاشتاق موحد على وسائل التواصل الإجتماعي #على_طريق_النصر!!! فهي وإن كانت بادرة طيبة، إلا أن المطلوب أكبر من ذلك بكثير، كما أن الشعار ليتحول إلى مشروع عملي ويترجم على أرض الواقع يحتاج إلى عمل وجد وتعاون وتعاضد ..إلخ.

لا بد من مغادرة الأحلام والأوهام التي تمسك بها البعض من قبيل قربهم من الدوائر الدبلوماسية في الغرب، وأنهم يحظون بالتقدير والود والتعاطف! ثم التذرع بأن ذلك مانع للوحدة، خوفا من تأثر تلك العلاقات الدبلوماسية في حال تقاربوا في العمل مع قوى مصنفة على أنها “راديكالية”، وهي تصنيفات أكل عليها الدهر وشرب. والحقيقة أن المصنفون “محليا” بالتشدد يجوبون العالم الأوربي والغرب عموما ويلتقون مع مختلف تلك الدوائر دون أي معوقات أو عراقيل بسبب أرائهم السياسية، فيما انزوى بعض الذين كانوا يظنون أن أبواب الدبلوماسية محصورة لهم، بل باتوا اليوم مصنفين “ بالراديكالية”. ولم يعد مصنفا في قائمة “المعتدلين” لدى ذات الدوائر التي توهم أن له حظوة لديها، ولذا فالمطلوب أن يستفيق البعض من غفوته ويغادر أحلامه بعد أن أصبح متخندقا اليوم بشكل فاقع، يراه مراقبون مخالفة لأبسط قواعد العمل السياسي.

حين تغادر المعارضة لغة التبرير، وتبتعد عن حالة النرجسية، وتسويق الكلام والتصنيفات التي تجاوزتها تطورات الأوضاع في البحرين والمنطقة والعالم، حينها ستبدأ الخطوة الأولى الجادة في طرح مشروع وطني شامل لجميع أطياف المعارضة والنشطاء والمستقلين. مشروع يوجه خطابا للشعب يتناسب مع حجم تضحياته ويعطيه جرعة من الأمل، وعندها يمكن القول أن التعقل بدأ يسري في شريان المعارضة، بعد أن اقتربت من موت سريري أشعر نظام آل خليفة القمعي بالنشوة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى