مقالاتنادر المتروك

طلاّبنا الأعزاء.. الأقوياء

نادر المتروك - كاتب صحفي
نادر المتروك – كاتب صحفي

ليس هناك أجملُ من لقاءِ المعلّم بالطّلبة. أعرفُ أنّ هناك منْ يقول الآن: “ولكن الطّلبة يكرهون المدرسة!”. ربّما يكرهون أسوارَها، ومناهجَها القاسية، وقد يكرهون التزمُّت الذي يلتصقُ بالجدران وفوق المكاتبِ ويستهلّون به يومهم في الطابور الصّباحي. ولكنهم لا يكرهون المعلّم. لا يكرهون منْ يحبّهم، قبل أن يعلّمهم. منْ يصادِقهم قبل الدّرس وبعده.

الطلبةُ وجوهُنا، وهم مرآتنا أيضاً. الاقترابُ منهم، بحنوٍّ وتواضع، يُنسيْكَ بلاءاتك، ويُخفّف عنك ابتلاءاتك التي لا تعرفُ من أين تتنزّل. الجلوسُ معم يدلّكَ على نفسك: أين هي؟ وأيّ طريق ينبغي أن تذهب. منهم؛ تتعرُّف على الوطنِ، كما هو، وأين هو، وإلى أين يصير/يطير. أخبارُهم عن أنفسِهم، وزملائهم، وأقربائهم وجيرانهم؛ هي أخبارُ الوطن ومساره. أحوالهم وتحوّلاتهم تنبئكَ عن حالنا وتحوّلنا العصيّ، والمستعصي.

تبتهجُ بهم كلّ يوم، وتحفرُ معهم اليوميّات الفجيعة. يتّصل بي الطّالبُ الذي يدرس الطّبَّ اليوم، والآخر الذي يجتهدُ في علوم الحاسوب بالجامعة. كلماتُهم الحذرةُ تدفعنا لنتذكر سويةً زملاءهم الذين استُشهدوا، وأولئك الذين لازالوا قيد القضبان. نتذكر طالبا نحبُّه جميعاً حُكم عليه بخمسة عشر عاماً. نتذكّر صمْته النّاطقَ، ولطافةَ شغبه البريء. “هل كان يمكن أن يكون هذا هو قائدُ عملية “فكّ الحصار”؟”. هم أوفياءُ أكثرُ من كلّ هذا الصّراخ وهذه المنصّات الأنيقة. يذكّرني أحدهم ب”علي عباس”، و”جهاد” و”ولْد المدبّر”، و”ولْد الخبّاز” وو. نتبادلُ الذّكرى تلو الأخرى. نسمعُ عبر الهاتف الدموعَ وهي تتجمعُ في المآقي. نقفز سريعا لنتذكّر الأيام الجميلة، والنقاشات التي نسردُ فيها آخرَ الأحداث. يتوقفُ الكلامُ قليلاً، ويذكرني أحدُ الطلبة بمعلّمٍ معتقل، وآخر محروم من رؤية أبنائه وهم يرتدون زيّ المدرسة. تتجمّع الدّموعُ من جديد، وتحبسُنا العَبرات المُخزّنة. يستعيدُ طالبٌ الجأشَ ويُنزِلُ السّتاَر على تبادلِ الأحزان: “ستعودون، وسنعودُ معكم من جامعاتنا. هذا وعد”.

وعودٌ كثيرة، وكلامٌ طويلٌ من السّياسيين ومُلاّكِ الخطاب. ولكنّ وعْد طلاّبي المقرّبين هو أجملُ وأصدقُ عندي. الذين خرجوا من أوْج المحنةِ حاملين أعلى الدّرجات؛ هم جديرون بإعادتنا. هؤلاء صفْوتُنا، والخِيْرَةُ التي تتجهّز لنا. لا خسرانَ في التّعويل عليهم، والتشبّثِ في المستقبلِ الذين يصنعون. نتبادل الدّموعَ معاً، ويسرُّ بعضنا بعضاً بالآلام والغُصَص، ولكن لا ينتهي الموقفُ إلا بسيْلٍ من النّكات والإشراق. هل أقول سرّاً؟ إنهم أفضلُ نقّادي. وحتّى اليوم. وحدهم منْ ينقل لي أخطائي وكأنها صوابٌ يحتاجُ – فقط – إلى إظهارٍ أكثر، أو تعديلٍ يسيرٍ يكشفُه للناسِ بوضوح. لا يخافون من نقدي، ولكنهم حريصون على أن أكون أقرب إلى الصّواب. لا يفعل ذلك إلا كبارٌ أنقياء، مثل هؤلاء الطّلبة الكبار.

نصيحتي المتكرّرة لهم: دراستُكم أولاً. “يا عبد الله، قلّل من التغريد”. “يا محمد، لا تصوِّر في المناطق الخطرة”. “يا صادق، اتركْ عنك الشّيشة، ولا تسهر كثيراً”. أفشلُ بعض الأحيان في هذا الجُهد. هم عنيدون كثيراً، مثل أرضهم وشعبهم، ويريدون أن يفعلوا كلّ شيءٍ في وقتٍ واحد! ولكن ماذا أقول لهم حين يخبروني في نهايةِ كلّ عام، وبداية كلّ فصل، بأنهم أحرزوا معدّلاً تراكميا عاليا!؟ حفظكم الرّبُّ، وباركَ في عقولكم، وقلوبكم، وأبقاني ليوم اللقاءِ بكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى