مقالات

من أحاديث “#العصفورة_الشريرة”: في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين (٥)

حسن كاظم – كاتب بحراني | خاص البحرين اليوم ..

في وقتٍ متأخّر من مساء أمس، وجدتُ بجانب الكتابِ الذي أقرأه هذه الأيّام؛ نصفَ ورقةٍ كُتبت عليها ملاحظةٌ صغيرة، وبخطّ أعرفه جيدا. في اللّيالي التي أكونُ فيها مهموما بأمرٍ ما، فإنّي أغلقُ كلّ الأضواء في غرفتي، التي هي كلُّ شقّتي، وأنزوي في زاويةٍ غير حادّة بعيدا عن النّافذة، حيث يتقوّسُ فيها سريري وطاولةٌ صغيرة عليها جهاز كومبيوتر أهداني إيّاه رئيسُ تحرير آخر صحيفةٍ عملتُ فيها قبل أن أصبحَ “من المغضوب عليهم والضّالين” كما تصفني العصفورةُ الشّريرة حين يشتدّ النّقاشُ بيننا.
عندما استيقظتُ فجرا، وجدتُ الورقة قرب كتاب “الشّيخ والتّنوير”. كتبتِ العصفورةُ: “طرقتُ النافذة مساء أمس، كانت الأنوارُ مطفأة، عرفتُ أنّك في عالم آخر. أرجو أن تكون بخير. لا تغلق النّافذة صباح الغد، أرجوك”. أسفل الورقة كتبتِ العصفورةُ ملاحظةً سريعة: “قراءة ممتعة، يبدو أنّك أصبحتَ معجبا بالدكتور نادر كاظم”.

كانت العصفورةُ تستفّزني كعادتها، وهي تعلمُ أنّني لا أكِنُّ أيّ إعجابٍ أو انبهار أو اهتمام لأيّ كاتبٍ أو صحافيّ في هذه البلاد. ربّما لأنّي صعبُ المراس، ورأسي المتحجّرة لا يخترقها أيّ قلمٍ أو صوت من جماعة الانتلجينسيا المزخرفين، وخصوصا بعد ٢٠١١م. هذا الأمر جعلني أصابُ بالكوابيس ومرضِ الارتياب، وقد راجعتُ طبيبا نفسيّا، وأخبرني بأنّني أعاني من مرضٍ نادر لم تتمّ تسميته علميّا حتّى الآن، ويصطلحُ عليه الطبيبُ اسمَ “رهاب المثقفين” أو “مثقف فوبيا”. أكّد لي بأنّ هذا المرض ليس خطيرا، ولكن إهماله قد يُسبّبُ أضرارا على المخّ والأعصاب (ويؤثر سلبا كذلك على قدرةِ الإخصاب لدى الرّجل)، وخاصّة إذا تجسّدَ المثقفُ أو الكاتبُ أو الصحافيُّ في المنام على صورةِ شخصٍ متمايلٍ يرتدي بِشْتا مطرّزا بالخيوطِ الذهبيّة أو بدلةً أنيقة مع ربطة عنق باريسيّة، وخلفه وميضٌ من ألوانِ قوس قزح تشبه شعار المثليين. كنتُ قلقا يوم أمس، لأنّ هذا الكابوسَ زادَ في الآونةِ الأخيرة، واعتقدتُ بأنّ مرضَ المثقفين (القوس قزحيين) أخذَ مأخذه منّي، وخاصّة وأنني وجدتُ نفسي أمس، دون سبب، أقرأ كتابا ينتمي إلى “المؤسّسة”، وأنا أكره “المؤسّسة” بكلّ أنواعها ومنوّعاتها، ومراتبها ورُتبها، أبيضها وأسودها، وهو كرهٌ أفقدني كراسيَ وثيرة، ومناصبَ عالية، ودرجات دكتوراه من جامعاتٍ بتروليّة. لستُ نادما، الآن، ولا وقت للنّدم، ولكنّي قلقٌ من هذا المرض الخبيث.

حملتُ كوبَ القهوة، وأسندتُ ظهري على الكرسي متأمّلا في المدى المفتوح. قطعت العصفورةُ تأمّلاتي. حلّت برشاقةٍ على طرفَ النافذة. لمحتُ في منقارها أسئلة شتّى. “أتمنى نهارك اليوم أفضل. لا أريد أن أتسبّب في إزعاجك، ولكن لديّ سؤالٌ يحكّ ذيلي منذ أمس، وأخشى أنْ يتمكّن السّؤالُ منّي فيهتزّ ذيلي بشدّة، فتغضب منّي”. قاتلَ الله الخباثة والدّهاء! من أين لكِ هذا الاحتيال يا عصفورة.

“السّؤال الأول.. هل قرأت صحف الأمس؟ ألم تلفت إلى شيءٍ غريب؟!”. بخصوص قراءة الصّحف، أنا لديّ نصيحة لكِ ولكلّ الفارغين الذين يتابعوني هنا. أفضلُ طريقةٍ لقراءةِ الصّحف هي القراءة الشاقوليّة. أعرفُ أنك تسألين ماذا تعني الشاقوليّة هذه، وأعرفُ أنّنا جيلٌ لا يعرف أغلبُه لغة أهله وكتابه المقدّس، ولكنّي أصرّ على استعمالِ هذه المفردة، لأنّها تفي جيدا بالمعنى الذي أريد قوله هنا. في اللغة العربيّة، “شاقول” هي عبارة عن عصا يستعملها المزارعُ في قياسِ الأرض، وتحديد أبعادها، والبعضُ يستعمل خيْطا بدل العصا، ويستعمله البنّاءُ أيضا في ضبْط استقامةِ البناء. وتمّ توسيع هذا الاستعمال اللّغوي في مجالاتٍ أخرى أيضا. في الصّحافة، أنا أستعملُ هذه المفردة بمعنى خاص، وخصوصا في تحديدِ المقالات وضبْط ما يتمّ نشره في الصّحف. الشّاقول عندي هو ميزانٌ خاص، مكوّن من طرفين، الأوّل فيه حجارة، والآخر فيه بيْض، وأقيسُ بهذا الميزان الكتّابَ بكلّ أنواعهم وأوزانهم. هناك منْ تترجّح معه الحجارة، وآخرون البيض. الحجارة رمزٌ لكلّ ما هو جامد، عديمُ المشاعر، ومسكونٌ بالقذْف. أمّا البيضُ فيشيرُ إلى كلّ ما هو هلاميّ، جامعٌ للتّناقض، ومؤهّلٌ للتحوّل السّريع بحسبِ درجة النّار التي يتعرّض لها. كتّابنا هو هذا أو ذاك. لا يغرّكِ الظّاهر، ولا لعبةِ الأكابر، ولا الشّعارات والفذلكات. في شاقول الصّحافةِ والكتابة، البعضُ يستعملُ عصا، والبعضُ يفضّل الخيْط، وهناك منْ يقتني قلما ذهبيّا، وآخرون أحدث موديلات الماك بوك. ولكنهم جميعا يكتبون من حجرٍ أو من بيض.

“امممم.. كلامٌ مثير وغريب، وقد يكون جميلا، ولكن أظنّ أنّك تختزلُ الكتّابَ اختزالا غير عادل!”. ربّما.. وأعودُ وأذكّركِ بأمرٍ هام. لستُ هنا لا قاضيا، ولا مرتزقا. لا يهمّني أن أرضي الحاكمَ، ولا صاحبَ التّمويل. أظنّ أنّني هنا أمارسُ حرّيتي المنتهكة منذ زمن، وأقولُ الأشياءَ كما أراها، من غير حواجز، ولا مخاوف، ولا مراعاة لمقتضياتِ النّفاق والرّياء. على هذا المنوال، فلا تأخذي بكلامي على أنّه الحقّ المبين، وكلّ ما أريده هو أن تحرّكي عقلَكِ، لا ذيلكِ ولا منقارك، وأنْ تتحرّري من رهبةِ الأسماءِ الكبيرة، ومن سطوة التيجان. تحرّري، واسألي، ولكن من غير لفّ ولا دوران، وبدون إسفافٍ وادّعاء بغيض. إذا فعلتِ ذلك، ستكتشفين أنّ هؤلاء الذين يكتبون إمّا أن يكونوا من صنْفِ “حجارةِ الشّيخ”، أو من “بيضِ التّنوير”. ومنذ زمن.. وأنا أتمنّى أن أختمَ هذا الزّعم السّليطِ بعبارة: “إلاّ منْ رحم ربي”، ولكنّي بعد الفحْص والمَحْص، أجدني أختمه حتّى الآن بقولي: “ولا أستثني منهم أحدا”. وسوف أثبت لكِ رأيي هذا في الأيام المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى