مقالات

من أحاديث “#العصفورة_الشريرة”: في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين (٧)

حسن كاظم – كاتب بحراني | خاص البحرين اليوم ..

“كيف تكتب مقالا صحافيا جيدا؟” كنت أخطّط لأن يكون هذا عنوان الدّرس الثّالث مع العصفورة الشّريرة. لكنها تأخّرت اليوم عن الحضور، وعلى غيرِ العادة، وأظنُّ أنّها صادفت في طريقها إليّ شجرةً مثمرة، وأرادت أن تقضي حاجتها فيها. رغم أنّني تمنيتُ ألاّ تحضر أصلا، ولكن مزاجي هذا اليوم منفتحٌ بشكلٍ جيد، ولذلك لم أوجّه إليها أيّ لوم حينما حلّت على شرفةِ النّافذة، وقد بدا على منقارها ما يُشبه بقايا طعامٍ كانت منشغلةً به قبل أن تأتي. “عذرا على تأخّري. ولكني فوجئتُ في طريقي إليك بتجمّع غريب لسْربٍ مهاجر من الطيور، بيضاءِ اللون، كانت تحومُ حول شجرة، وقد تلطّخ بياضُها باللّونِ الأحمر فجأة، فتذكرتُ بلدكَ البحرين، وقلتُ ربّما هناك مناسبة معينة، وأردتُ أن أعرفَ ما يجري”. لم أكن أتوقّع وأنا أسمعُ العصفورةَ بأنّ هناك تظاهرةً حاشدة قامت بها طيورٌ مهاجرة من البلد، فمنذ مدّة لم أر شيئا من هذا القبيل، وقد صدقَ توقّعي حينما أخبرتني العصفورةُ بأنّ الطّيورَ المهاجرة كانت تتنافسُ على التقاط كَرَزاتِ شجرةٍ هَرِمة، واحتدمَ الأمرُ فيما بينها، وانْعصرَ الكرزُ أثناء التّدافع وانتشرَ على ريشها وكأنّ الدّماء تسيلُ منها. حادثة الطّيور المهاجرة ذكّرتني بمقالٍ أخير نشرته عهدية أحمد في صحيفةٍ إماراتيّة، في ذكرى اجتياح قوّات سعوديّة للبحرين، وخطرَ في ذهني أن يكون هذا المقال (مدفوع الثّمن) مادّة للدّرس الثّالث من دورتي المصغّرة مع العصفورة.

“متى أستطيع أن أقولَ أنّ هذا مقال جيّد ويستحق القراءة؟ اسمح لي أن أسألَ هذا السّؤال من دون مقدمة، فبعد ما ذكرته في الدّرس السّابق؛ أصبحتُ حيرى في اختيار ما أقرأه وأتابعه في الصّحف والإعلام”. لابد أن تفرّقي الأمرين، بالنسبةِ لي طبعا. هناك مقالٌ جيّد، وهناك مقالٌ يستحقّ القراءة. توجد كتابةٌ مُتقَنة، وتوجد كتابةٌ مطلوبُ الاطّلاع عليها في لحظتها. يعني، ليس كلّ ما يجبُ قراءته هو جيّد، وليس كلّ الكتابات الجيّدة مقروءة. أنا مثلا، وأعوذُ بالله من كلمةِ أنا؛ لا أقرأ بشغف للكتّاب الجيدين، وخاصّة في أوقاتِ الأزمات. لا أتابع عباس بوصفوان، لا ورقيا ولا تلفزيونيّا، ولا أتلصّص على حسابات تويتر التابعة لمعارضين، ولا أهتم بما تنشره حسابات المعارضة على مواقع التّواصل الاجتماعي. كلّ ذلك مهم، ولا أقول لكِ أو لغيري لا تتابعونهم، ولكنّي الآن – وبعد أن اشتعل الرأسُ شيبا وصلَعا – أنتظرُ وقت الغرْبلةُ والزلزلة، فمنْ يبقى على جودته أضعه في خانة “للقراءة لاحقا”، ومنْ يتساقط أضعه في خانة “للقراءة السّريعة”. لهذا السّبب تجدين أنّني أهتمّ بالكتّاب الرّديئين، وليس الجيّدين. ونظريتي هي أنّ التعلُّمَ التّدريبي يكون ألطف وأسرع بمطالعةِ أسوأ الكتّاب وأسْوَدهم (أسْودهم قلبا، وليس بشرةً، حتى لا يُقصّ الرّقيب كلامي).

بعد ذلك أعودُ إلى سؤالكِ الأخير، وأقولُ وبالله المستعان: يكتسبُ المقالُ جودته كلّما انخفضَ فيه منسوبُ الأمنيات، واختفت منه الأكاذيب. مقالات وتقارير موقع مرآة البحرين ثلاثة أرباعها عبارة عن “أمنيات منمّقة”، وهذا ليس عيْبا قاتلا، فيمكنُ أن تصنعي مقالا جيّدا مع نكهةٍ من الأماني والرّغائب، ولكن الأكاذيبَ دائما تُفسِدُ طبخةَ المقال، وتحوّله إلى شعوذةٍ عديمة الجدوى. هناك شعوذات لها جدوى، وأخرى بلا جدوى. عندما يتعرَّضُ البعضُ للهلوسةِ، أو ينتابه مرضٌ غامض، قد يلجأ إلى المشعوذين ليطلبَ منهم طلاسمَ رخيصة ظنّا أنّها قد تشفيهم من نوباتِ الهَلع أو الارتياب. المقالاتُ المشحونةُ بالأكاذيبِ هي طلاسمٌ رخيصة، ليس فيها إبهارٌ محترف أو مجازٌ ممتع. هذا النّوعُ من المقالات يُجيْده المشعْوذون من الدّرجةِ السُّفلى (نموذج ضياء الموسوي).

دعيني أسترجعُ معكِ مقال عهديّة المشعْوِذة. في مقالها بصحيفة “الاتحاد” الإماراتيّة، تقول عهديّة بأن دخولَ قوّات درع الجزيرة هي ذكرى “أسعدت قلوبَ البحرينيين”، وتحدّثت عن “مجموعة ضالة من الانقلابيين” و”المخطّط الإرهابي”، ودور “الدّرع” في “حماية عزة وكرامة دول الخليج”، ثم تجترّ كذبة ارتباط الوفاق بالحرس الثّوري، وكذلك الشّيخ عيسى قاسم، من غير أن تنسى الزّجلَ والدّجلَ حول دور الإمارات “العظيم”. في الواقع، عندما تطالعين أرشيف عهديّة في هذه الصّحيفة، فإنك لا تجدين غيرَ معجم مُكرّر من قاموس التّخوين الفجّ، والتّزييف غير المتقن وعلى أنغام “هزْ يا وزْ”. المشعوذُ الرقّاصُ لا يهمّه أن يكتبَ بقلمه الخاص وبلغةٍ موزونة، بل يهمّه أن يدْبك ويهرْطل. لاحظي الفرقَ الدّقيق بين سوسن الشّاعر وعهديّة أحمد. كلاهما من خانةٍ واحدة، ولكن الشّاعرَ تكتبُ بقلمها، وتبتكرَ نسقا كتابيّا خاصّا. أمّا عهدية فهي تكتبُ وكأنها تُعيد نسْخ التقارير الأمنيّة التي يتمّ إعدادها في أوكارِ الشّر. هناك شيء أسمّيه “الإبداع الشّرير”، الذي اختفى تماما من الصّحفِ والإعلام، وهو يعني أن تكتبَ شرّا، ولكن بإبداع. برأيي هذا جائز، ولكن مع كتّاب السّلطة فقط. أكثرُ ما أخشاه هو أن يُصابَ كتّابُ المعارضة وإعلاميُّها بهذا الوباء. عادل مرزوق كاتبٌ استفزازي، كما يحلو أن يفعل، وهو مجتهدٌ يبحثُ عن نصيب، ولكنّ هذا مثْل “اللّعب بالبيضةِ والحجر”، فيخالُ أنّ “الإبداع الشّرير” في الكتابةِ هو أوْفى وأنْجى وأجْزَل في إرضاءِ “الشّرق والغرب” معا. ولكن ليس كلّ ما يلمعُ ذهبا، كما يقول المَثل، فقد يكونُ شيئا آخر، أجرْد أمْلس.

“لكن، لماذا؟ أقصد.. لماذا لا يكتب المرء مقالا يعبّر فيه عن موقفه ورؤيته الخاصّة، وحتى لو كانت ضدّ الناس، ومع الحكومات والصّهاينة والملاحدة.. ولكن مع الحرْص على أن يكون ذلك بلغة مقنعة وبأسلوب موزون، وليس مهزوزا؟”. سؤالٌ مهمّ.. مهمٌّ جدّا يا عصفورة. الكتابةُ بلا أكاذيب وهرْطقات ليست سهْلة على الإطلاق.. يجبُ أن تعلمي ذلك جيّدا. هذه الكتابة تحتاجُ إلى مستوى من الاحترافِ النّبيل، وإلى جهدٍ ذهنيّ مناسب، وكذلك إلى تمكُّن لغويّ وابتكارٍ في تفسير الأمور. الصّحافيّون الهزّازون، والصّحافيّات الهزّازات.. لا وقت لديهم لبذْل الجُهدِ والتّفكير العميق، هم فارِغون ومفرَّغون (من القيمةِ والمعنى)، وعاجِلون ومستعْجلِون (على قبْض الدّراهم والدّنانير). أكثرُ وقتهم يقضونه في الانستغرام ومقاهي القيل والقال..

“وهل يُولد المرء كاتبا؟! أعني.. ألا يمكن أن يكون الكاتب بعضُه جيّد وبعضُه رديء؟! تماما كما أن كاتبا قد يبدأ معارضا، ثم يتحوّل إلى مشعوذ رخيص، بحسب تعبيرك؟!”. قد يكون للكاتبِ تاريخ جيّد، فنيّا وتقنيّا، وربّما يكون بمستوى عبقريّ أيضا، ولكن هذا ليس كلّ شيء. وبالعكس أيضا، قد يكون الكاتبُ بسيطا، وليس له أيّ كاريزما في الإعلام. السّؤال هنا: ماذا تفعلين مع الأول، ومع الثّاني؟ لا شيء. استمتعي بالجيّد، وبالبسيطِ أيضا، ولكن احذري من أنْ يخدعك المشعْوذ، وخاصة المشعْوذ الحِرّيف. أقصى ما يصل إليه الموالي هو أن يكون بمستوى محمد جابر الأنصاري، مثلا، أو علي فخرو أو المرحوم أحمد البنكي. لكن الأمر مع المعارضة أمرُّ وأخطر. هناك معارضون هزّوا الميكروفونات والمنابر، وأحرقوا الأوراقَ والشّاشات بشعاراتِ الويْل والثّبور للنّظام، ولازال بعضهم يراقِصُ النّاس على هذا المسرح اللّفظي، ولكنّ هؤلاء ليس وراء ألسنتهم غير الأقوال الناريّة، وهذه لا تصنعُ كاتبا ولا محلّلا استراتيجيّا، ولا معارضا حقيقيّا بالطبع. من هنا تعرفين سبب الهبوط والصّعود السّريع لأمثال هؤلاء.

إنّ المهزوزَ في فنّ الكتابة، والهزّاز على أخلاق المعارضة.. سرعان ما يُصاب بمرض التملْمُل والتحوُّل ومن ثمّ التسوُّل، ويصبح عاجزا بالتّالي عن كتابةِ أفكاره بلغةٍ جيّدة، ولو كانت أفكارا رديئة. ميشيل فوكو فيلسوف كبير، ولكنه شاذ ومغتصبٌ للأطفال. تأمّلي في ذلك. خذي مثال فوزيّة رشيد. هي كاتبة قديمة، وليس قديرة. أكثر من أربعين عاما وهي تُفرّخُ الحروف. لا يهمّني الآن قيمة ما تكتبه أدبيّا وصحافيّا، ولكنّها كانت تنافسُ نفسَها، وتحاولُ بجُهْد جهيد أن تتغلّب على لا وعليها الباكستاني، وأن تبدو عربيّة، ومن أهل البحرين. نجحت في ذلك أم لا؟ لا يهمّ، يكفي أنّها كانت تحاول على مدى أربعة عقود، وداومت على تسجيل العضويّة في كلّ مكانٍ فيه جمعيّة أو رابطة كتّاب، لكي تنالَ العضوية وتفلحَ في الفوز بجائزة، أيّ جائزة، ولو جائزة أسوأ الكتّاب. لكن المشكلة القاتلة ظهرت حينما أصابها الاهتزازُ الأكبر بعد ٢٠١١م، وبانَ كلّ العَفن. بعضُهم يهتزّ مع عَفن كثير وبعضُهم مع عفَن بسيط، بحسبِ مستوى الرّوائح الكريهة التي تفوحُ من مقالاتهم ووجوههم. هذا المعيارُ (مقدار العَفن ومستوى الرّوائح) هو ما يفرّقُ بين عبيدلي العبيدلي وإسحاق يعقوب الشيخ، وبين أسامة الماجد وعبدعلي الغسرة، وبين فيصل الشّيخ وفريد أحمد حسن. إنّه اختلافٌ في النّسبة، وليس في النّوع.

لقد أطلتُ اليوم.. لأن مزاجي جيّد، ولأنّي أريد أنهي معكِ هذه الدّورة، ولأنّى أرغبُ منكِ أن تغادري حالا، فقد غلبني النعاسُ والجوع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى