عبدالغني خنجرمقالات

حرب التجويع.. معلمون لا يستسلمون

 

عبد الغني الخنجر - ناشط سياسي بحراني - طهران
عبد الغني الخنجر – الناطق الرسمي باسم حركة (حق) – طهران

التمييز الطائفي جريمة وزارة التربية والتعليم:

 

في يوم من الأيام قال لي أحد زملائي المعلمين بأن كتاباتي كلها تنطلق من التجربة الشخصية، وكان يريد أن يلفت انتباهي لذلك من باب النقد البناء، راجعت نفسي ووجدته مصيباً، لكنني لم أجد ضيرا من الكتابة انطلاقاً من مشهد التجربة الشخصية، ما دامت معبرةً، وقادرةً على إيصال رسالة هادفة. الضير عندما تكون تلك الكتابة من باب الاعتداد بالنفس والتباهي أو صناعة البطولات الكاذبة، وأسأل الله أن يجنبني ذلك.

آثرت اليوم أن اكتب حول المعلم تزامنا مع عيده المصادف للخامس من أكتوبر من كل عام، وتحت إلحاح أحد أصدقائي النشطاء والسجناء السابقين، ففتحت دفتر مذكراتي المليئة بقصص المعلمين والتلاميذ عليّ أجد ما به أعبر بوضوح عن خالص تقديري لكلِّ معلم ومعلمة، خصوصا في بلدي الجريحة البحرين، حيث هناك لاقى ويلاقي المعلمون والمعلمات ويلات من نظام آل خليفة القبلي الشمولي.

تبدأ قصة المعلمين من القمع والتمييز الذي تمارسه بمنهجية ضدهم وزارة التربية والتعليم في البحرين، هذا التمييز الطائفي الذي يتعرض له المعلمون والمعلمات، وكذلك التلاميذ والتلميذات؛ هو تمييز طائفي مقيت لا مثيل له ربما على الإطلاق، حيث يُحرم المعلم المجد والمثابر والكفء من فرص العمل والترقية، ويوضع في مكان غير مناسب فقط لأنه من طائفة معينة، أو أنه لا يدين بالولاء السياسي لعائلة آل خليفة، كما يحرم الطلاب والطالبات المتفوقون والمتفوقات من البعثات المناسبة مع جهودهم وتفوقهم، فقط لأنهم أو لأنهن من طائفة معينة. هذه الجريمة النكراء تمارس بشكل سافر منذ عقود، وهي جريمة مخطط لها ُبعناية ضمن برنامج عنصري وطائفي يمارسه النظام الخليفي فاقد الشرعية على عدة صعد ومستويات من أهمها الحقل التعليمي.

 

عابد البلوشي “من علمني حرفاً كنت له عبداً”:

 

شاء القدر أن أعتقل في العام 1996 بسبب انخراطي في انتفاضة الكرامة بقياد العلامة المرحوم الشيخ الجمري (قد). في تلك الفترة كانت تدار عمليات القمع والتعذيب في السجون والشوارع على حد سواء من قبل جهاز أمن الدولة سيئ الصيت، وما يسمى (باللجنة الأمنية). وهي لجنة من عدة ضباط طائفيين اتخذت من مبنى وزارة الداخلية المسمى شعبياً (القلعة) القديم مقرا لها.

كان في اللجنة عدد من الزنازين الإنفرادية في مبنى قديم جدا قبل تجديده، هناك يُمارَس التعذيب والتحقيق القاسي. عرفت هناك عدة جلادين معروفين، منهم (خالد الوزان)، و(خالد العريفي).

عندما اعتقلت كنت حديثاً قد توظفت معلماً في مدرسة مدينة حمد الإعدادية. في تلك الفترة العمل، مثل المعلم، كان مثل الحلم الذي يراود كل خريج جامعي ينتمي للطائفة الشيعية، ليس فقط بسبب الأجر الجيد نسبياً، مقارنةً بتدني الأجور، إنما بسبب شبح البطالة التي يعاني منها الشباب و الشابات الشيعة تحديداً، حيث لا وظائف ولا مرتبات جيدة للشيعة، رغم حصولهم على الشهادات الجامعية في ظل نظام قائم على التمييز والتجويع بنزق طائفي كريه.

اعتقلوني، واقتادوني إلى لسجن الإنفرادي. وبعد عدة أيام من التحقيق في مركز شرطة الحد -وقد حقق معي الجلاد (عبد العزيز بو جيري) و (خليفة الخليفة) و(ربيعة سنان  – وهي منطقة من مناطق جزيرة المحرق ذات غالبية سنية كاسحة، حيث لا يسمج للشيعة التملك  أو السكن فيها.

بعد أيام أخذت للجنة التحقيق، والتي مكثت فيها عدة أيام هناك، ثم أرجعوني لمركز شرطة الحد، وبعد عدة أشهر مجددا أخذت للجنة الأمنية ومكثت مدة أطول. كنا كسجناء نجلس قريبين من بعضنا البعض بسبب اكتظاظ المكان بالمعتقلين. وكانت عيوننا في أغلب الأوقات معصبة بقناع أو قطعة قماش تحجب الرؤية وأيدينا مقيدة (بالأفكري).

هناك قابلت أحد قوات الأمن وهو من جنسية باكستانية، ويدعى (عابد البلوشي) لتبدأ القصة المؤلمة.

كان البلوشي مراهقاً باكستانيا يرتدي كامل ملابس القوات الخاصة ويتباهى بغرور. كان معذباً يافعاً يُستخدم للسحل والضرب والشتم. المفارقة أن البلوشي كان في يوم من الأيام أحد طلبة المدرسة التي عملت فيها، إلا ان ذلك لم يشفع لي. فعابد هذا لم يراعِ أي قيم أو أخلاق، كنت أتعرض للإهانات على يده، وهو يتغنى بمقولة “من علمني حرفاً كنت له عبداً”.

 

الفصل من العمل: أعتذر لوزير التربية لتعود للعمل؟!

 

أطلق سراحي من السجن في أول اعتقال بعد ما يقارب العشرة أشهر، خرجت من السجن وبعد أيام راجعت وزارة التربية والتعليم للعودة للعمل. بالمناسبة كان معي في نفس المعتقل أكثر من معلم، وكثير من التلاميذ، كنا في السجن في حالة ذهول. فقد حشرنا مع العديد من صغار السن الذين اعتقلوا وحُرموا من الدارسة. فكان من واجبنا أن نعقد بعض الدروس لهم. كنا لا نملك كراسات ولا أقلاماً، لكن لحسن الحظ كانت جدران الزنزانات من مادة (الجص)، وهي مادة من الممكن الكتابة عليها بأي جسم حاد يعطي لون رمادي، ويمكن مسحه بقطعة اسفنجية مبللة بالماء. كنا نكتب كل شيء. كان البعض يُدرس القسمة المطولة والبعض الأخر يُدرّس التجويد والإنجليزي، وأتذكر كيف كنا نكتب ما نحفظه من دعاء الصباح أو دعاء كميل.

بعد خروجي من السجن كانت فرصة عودتي للعمل ضئيلة جدا، خصوصاً مع تصاعد القمع في التسعينات، وسقوط العديد من الشهداء، ومهاجمة العديد من المدارس. أتذكر جيدا خبر قتل الشهيد (عبد الحميد قاسم) وتقطيع أشلائه في فناء المدرسة من قبل القوات الخاصة التي اقتحمت مدرسته، وهاجمت التلاميذ والطلبة بكل عنف.

وزارة التربية لم ترحب بي، وأدخلوني في دوامة من المراوغات والأكاذيب، وكانت النتيجة بكل بساطة “أنت مفصول من العمل، وقد استغنت الوزارة عن خدماتك؟!” بعد عدة أشهر وصلتني رسالة من أحد اقربائي أراد مساعدتي، ومفاد تلك الرسالة : “هل تريد العودة للعمل في وزارة التربية؟ قلت له نعم، ولكن كيف؟ قال لي “بسيطة جداً: تكتب رسالة تعتذر فيها لوزير التربية والتعليم وتتبرأ من انخراطك في حركة الشيخ الجمري ومطالب انتفاضة التسعينات”.

لم أتردد في الجواب، ولم أمنح نفسي فرصة حتى للتفكير. جاوبته فورا: ” مستحيل”. لا يمكن أن افعل هذا الشيء! بقيت مفصولا من العمل لمدة خمس سنوات، كانت حبلى بالدخول للسجون عدة مرات. حبلى بالنشاط السياسي والميداني. وفي ذات الوقت، عملت في عدة أعمال أخرى، وفي عدة معاهد خاصة.

بعد خمس سنوات تلقيت اتصال مفاجيء: “هل أنت عبد الغني الخنجر؟ قلت نعم ، تفضل؟ قال معاك وزارة التربية والتعليم نريد منك مراجعتنا لترتيب عودتك للعمل”، ذهبت في اليوم التالي، وإذا بكل المعلمين المفصولين من العمل بسبب آرائهم السياسية قد حضروا للعودة للعمل، من بينهم الأستاذ يوسف عبد الباقي الذي كان محكوما بالإعدام وآخرين.

 

في ثورة فبراير: وجع المطاردة ورسالة الفصل من العمل:

 

اندلعت ثورة الرابع عشر من فبراير المجيدة، كنت في السجن وقتها حيث اعتقلت في خلية أغسطس 2010م مع عدد من علماء الدين والرموز.

وبفضل الله وبركات هبة شعبنا المظلوم وبعد ما يقارب السبعة شهور من السجن والتعذيب والمحاكمات الجائرة، خرجنا من السجن. يومها توجهت لوزارة التربية والتعليم، وحيث كان الوهج الشعبي في أوجه؛ فقد أعادوني للعمل فوراً، بقيت في المدرسة حيث كنت معلماً، وفي ذات الوقت مشرف قسم، لمدة عشرين يوماً، حتى أُعلنت حالت الطوارئ والأحكام العرفية، فاختفيت، وأصبحت مطارداً، حيث داهمت في 17 من مارس 2011 قوات الجيش والعسكر وإرهابي جهاز الأمن منزلي.

كنت في مكان اختبائي أتابع كل شيء، وخصوصا ما يتعرض له المعلمون والمعلمات والطلاب والطالبات من عنف وقمع ممنهج ولجان تحقيق على طريقة القرون الوسطى.

فُصل العديد من زملائي المعلمين وقريباتي المعلمات، واعتقل العشرات منهم، وتعرضوا للتعذيب. كانت عاصفة الإنتقام من المعلمين والمعلمات والطلبة والطالبات شبيهة بحفلة (الزار) الحقيقية. فالتطهير والظلم نال قسما كبيرا من المعلمين والمعلمات، وأصبح التطهير الطائفي على المكشوف. لقد كانت معاناة لا يمكن نسيانها أو محوها من التاريخ. إنها وصمة عار في جبين ما تُسمى بوزارة التربية، وكأنما أراد الخليفيون أن يعلنوا المفاصلة الحقيقية بيننا كشعب وبينهم كشذاذ آفاق دخلوا البحرين غزاة مجرمين.

بعد ثمانية أشهر من اختفائي؛ أُرسلت على عنوان منزلي رسالة من وزارة التربية والتعليم مفادها “نطلب منك مراجعة الوزارة في فترة أقصاها أسبوع من الآن وذلك لتفسير غيابك عن المدرسة لعدة شهور”. وقتها كنت قد حكمت غيابياً في قضية الرموز (تحالف الجمهورية) بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً. بعد أسبوعين تلقيت على عنوان منزلي رسالة أخرى مفادها “تم فصلك من العمل كمعلم في وزارة التربية والتعليم لتغيبك علن العمل دون عذر”. كنت أهزأ برسائلهم، فماذا يعني لي الفصل من العمل في ذلك الوقت.

 

معلمون خلف القضبان : مهدي أبو ذيب أيقونة المعلمين:

 

كان لي علاقة جيدة معه، بحكم تواصلي مع جمعية المعلمين التي يرأسها الأستاذ مهدي أبو ذيب، الأستاذ مهدي أبو ديب غني عن التعريف، فقد كان له دور باز  في الوقوف بكل قوة مع مطالب شعبنا في ثورة الرابع عشر من فبراير المجيدة، ولذا استهدف وتم تعذيبه والحكم عليه في محكمة عسكرية بالسجن لمدة خمس سنوات. وهناك اليوم العديد من المعلمين خلف القضبان أو المفصولين من عملهم بسبب آرائهم.

اليوم عندما يكتب الأستاذ نادر عبد الإمام عن فصله من عمله؛ أشعر بكل لوعة لأجله، ولأجل كل معلم أو طالب يقضي أيامه خلف القضبان أو محروما من الدراسة، كل هذا ولا يمكن أن نستسلم، لا يمكن أن يخضع معلمو ومعلمات البحرين للظلم والتمييز والحرمان، كل ما يحصل اليوم من انتهاكات وجرائم خليفية لابد أن يدوَّن ولابد من أن يلاحق الجلادون والمجرمون مهما تكن مراتبهم أو من أي عائلة كانوا.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى