تقارير

مبادرة السيد عبدالله الغريفي: دراسة في الرسائل والمواقف (٢-٢)

 

البحرين اليوم – (خاص)

 

استعرض القسم الأول من هذه الدراسة السياقات الإقليمية والدولية التي رافقت مبادرة العلامة السيد عبدالله الغريفي، ورأينا أن السياقات المحلية المحكومة بإطار العدالة الانتقالية والتحول ناحية “عسكرة الدولة” وفقدان السيادة في القرار الداخلي؛ تقف كعوامل كابحة لأي “تقدُّم سياسي” وبالسقوف التي يؤمن بها فريق من المعارضة البحرانية، كما إن السياقات الدولية في المحور الغربي أصبحت غير معنية تماما أمام التنمُّر الخليجي وتوظيف صفقات الأسلحة والتبادل التجاري مقابل إعفاء أنظمة دول الخليج من أي التزامات حقوقية وسياسية، وأن الراعي المباشر للنظام الخليفي في البحرين هي بريطانيا حاليا.

نحاول في هذا القسم معالجة كل من المواقف الداخلية التي أثارتها مبادرة السيد الغريفي، ومدى تقبُّل قوى المعارضة السياسية لها أو رفضها بوصفها فرص نجاح أو إخفاق. ومن ثم سنعالج بكثير من الحذر مضمون المبادرة ذاتها، وهل تشكل مخرجا سياسيا أم هي مبادرة انفراج أمني وذلك في ضوء تجارب سابقة قادها السيد الغريفي أو تجارب أخرى خاضتها القوى السياسية.

 

أولا: المواقف الداخلية

تباينت المواقف الداخلية تجاه مبادرة السيد الغريفي من حيث تأييديها أو التوقف عندها لحسابات ترتبط بشخصية السيد الغريفي ومكانته الاجتماعية والدينية. وحقيقة الموقف أن هناك إستراتيجيات سياسية حكمت التعاطي مع مبادرة السيد الغريفي، بعضها يمثل “الانتهازية”، وبعضها يمثل المبدئية الصارمة، وثالثة اطّبعت بـ”التوازن السلبي”.

أولى ردات الفعل التي ظهرت كانت من قبل جماعة ما يُسمى بقروب “البحرين المستقبل” على تطبيق الواتس آب، حيث ادّعت في خطاب السيد الغريفي “رافعة” لمشروعها السياسي المطبِّع مع النظام، واندفعت بعض الشخصيات فور انتهاء السيد الغريفي من خطابه إلى إعلان موقفها المؤيد بالمطلق وإطلاق هاش تاغ “خطاب الغريفي يمثلني”. وتقوم فكرة هذه المجموعة على ضرورة إنهاء الثورة والدخول في سلك طاعة النظام، وبالشروط التي يقرُّرها. وقد عمل أعضاء هذه المجموعة – غير المتجانسة أساسا – على استثمار خطاب السيد الغريفي لغير الغاية التي طرحها السيد الغريفي، وذلك عبر اختزال المبادرة في الانفتاح على النظام فقط، دون التمسُّك بباقي بنود المبادرة. وبسبب ذلك الاستثمار؛ تحوّل خطاب السيد الغريفي إلى خطاب “استقطاب”، بدلا من أن يكون خطابا سياسيا مفتوحا كما أراده السيد الغريفي، ولو ضمن الدائرة السياسية التي لا تزال تعتقد بخيار “الحوار” مع النظام القائم. ومن الواضح تقاطع هذه المجموعة مع خطاب السيد الغريفي، وأنها ستحاول العمل من خلاله في مشروعها الانتخابي في أكتوبر ٢٠١٨. نتيجة لذلك أيضا، نشط أشخاص مؤيدون للسيد الغريفي، وبعضهم أعضاء في جمعية الوفاق (المغلقة) إلى تأييد مبادرة السيد الغريفي في بُعدها العام، باعتبارها مبادرة أولية، وليست بديلا عن رؤية قوى المعارضة السياسية، أي تحديدا القوى التي تتحرك تحت سقف ما يُسمى بوثيقة (المنامة).

في الوقت الذي كانت وسائل الاتصال الاجتماعي منشغلة برفع وتيرة هاشتاق ” يمثلي/ لا يمثلني”؛ التزم النظام الخليفي الصمت تجاه المبادرة، ولم يبد أي ردة فعل سلبية أو إيجابية، وبعد عدة أيام نشر حساب على موقع (تويتر) باسم “الشاووش” – وهو أحد حسابات جهاز الأمن الوطني – ثلاث تغريدات اعتبرها “شروطا أساسية” لبحث مبادرة السيد الغريفي، وهي شروط تسحب صلب مبادرة السيد الغريفي وتعيد رؤية وزارة الداخلية الخليفية التي طالما طرحتها منذ سنوات، وهي تشكيل لجان اجتماعية وأهلية لمنع التظاهرات وتسليم المطلوبين السياسيين لوزارة الداخلية، مع الإبقاء على المعتقلين وعدم الإفراج عنها لمدة ثلاث سنوات، واستثناء المحكومين تحت تهمة “الإرهاب” منهم، وبعدها يقرّر الخليفيون “سلامة نية” أطراف المعارضة التي تقبل بهذا المشروع ومدى تأهليها للدخول في الحوار!

القوى السياسية المعارضة في الداخل والخارج انقسمت هي الأخرى أيضا في إعلان موقفها، فأصدرت حركة الحريات والديمقراطية (حق) بيانا صحفيا عبرت فيه عن رفضها للمبادرة التي طرحها السيد الغريفي، مشيرة إلى أنها لم تكن على علم بالمبادرة، ولم يتواصل معها قبل طرحها. وبالمثل عبرت ما يعرف بالقوى الثورية المعارضة (تيار الوفاء الإسلامي، إئتلاف شباب ١٤ فبراير، تيار العمل الإسلامي)، وكذلك حركة أحرار البحرين التي يقودها المعارض المخضرم سعيد الشهابي.. عبّروا في مواقف منفصلة عن رفضهم المطلق لأي حوار مع النظام الخليفي، وبناءا على رؤيتها الثابتة التي ترى الخلاص في إسقاط النظام وحق تقرير المصير. أما جمعية (الوفاق) فلا تزال رسميا تلتزم الصمت في ظل انقسام واضح بين مواقف أعضاء الجمعية المشتتة الداخل والخارج. والذي يبدو أن جمعية الوفاق وقعت تحت اختبار صعب جدا، ليس واضحا مدى تخطيها له ومدى قدرتها على ضبط توازنها التنظيمي، وهذا جعل رؤية (الوفاق) أقرب لأن تكون “ضبابية”. ففي الوقت الذي سعت قناة (اللؤلؤة)، المحسوبة على (الوفاق)، إلى تسليط الضوء على مبادرة السيد الغريفي، ومحاولة رميها في ملعب النظام؛ لم تخرج قيادات الوفاق للتعليق على المبادرة، في حين فضّلت بعض القيادات المجاورة للسيد الغريفي أن تلتحم مع خطاب الأخير، ربما لمواجهة خطوط الجماعات “الانتهازية” على الأقل. وبالتالي، فإن موقف جمعية الوفاق لم يتجه لمضمون مبادرة السيد الغريفي، والحكم عليها في توقيتها أو مضمونها، وفضلت فيما يبدو أن تواجه تداعيات الاستثمار الانتهازي الذي صَعَدَ سريعا.

إزاء هذا التباين والاختلاف في المواقف؛ تبرز عدة حقائق وتداعيات من المهم الإشارة إليها سريعا، وعلى ضوء تلك المواقف:

  • إن هناك إجماعا على مكانة السيد الغريفي وأهمية حضوره السياسي والاجتماعي، وأن هناك تقديرا جماعيا لدوره السياسي.
  • أن مبادرة السيد الغريفي لم تطرح من قبله كخريطة طريق سياسية، بقدر ما كانت مبادرة أولية لبدء تفاوضات سياسية متجانسة مع مزاج الجماعات السياسية التي لا تؤمن بخيار إسقاط النظام.
  • إن السيد الغريفي طرح خطابه أو مبادرته بشكل مستقل، وبعيدا عن التواصل مع القوى السياسية الفاعلة أو غير الفاعلة، وبالتالي فقد فاجأ السيد جميع القوى السياسية المعارضة بهذا الخطاب.
  • إن هناك توظيفا سياسيا من قبل جماعة “سياسية” صاعدة لخطاب السيد الغريفي، تحاول أن يكون خطاب الغريفي رافعة لها في المستقبل القريب ولتحقيق أجندة شخصية تتقاطع مع أجندة الخليفيين.
  • إن هناك انقساما داخليا بين قوى المعارضة السياسية والثورية في التعاطي مع مبادرات “الحوار” مع النظام القائم، وطريقة طرح مثل هذه المبادرات.

 

ثانيا: مضمون مبادرة السيد الغريفي

 

إن النظر إلى مضمون ما طرحه السيد الغريفي لا يشكل جديدا على سابق خطاباته، وعلى ما كان يعيد طرحه باستمرار، وبوتيرة تكاد تكون متكررة بين فترة وأخرى. وبالعودة لتاريخ أسبق، سنجد أن السيد الغريفي كان صاحب “الدور الأبرز” في صياغة الرأي العام نحو ميثاق العمل الوطني في ٢٠٠١، بمعية الأستاذ عبدالوهاب حسين، أحد أبرز قيادات انتفاضة التسعينات وثورة ١٤ فبراير، والمحكوم حاليا بالسجن المؤبد. في كل الأحوال والخطابات؛ استطاع السيد الغريفي أن يشكل لنفسه منظومة خطابية مختلفة عن منظومة خطابات القوى السياسية المعارضة، وهي منظومة تعتمد قاعدة مفاهيمية وأخلاقية عامة، تشمل عناوين “السلم والمحبة والتجاوز”، بالإضافة إلى قاعدة “الثابت والمتحرك” في الرؤية الإسلامية، وهذا التشكيل الخاص قرّبه إلى جناح المعارضة المؤمن بالحوار مع النظام، لكنه لم يدمجه تماما معها، فحافظ لنفسه على مسافة تختلف تقديراتها بحسب متغيرات الساحة المحلية والمشهد السياسي.

في يوليو ٢٠١١ وبعد انتهاء حالة الأحكام العرفية؛ كانت لجنة تقصى الحقائق (لجنة بسيوني) تمارس عملها، وخلال خطبة الجمعة؛ ألقى السيد الغريفي في مسجد مؤمن اللائمة على النظام في تعثُّر جلسات “الحوار” الذي جرى إطلاقه يؤمئذ، واعتبر أن نتائج “الحوار” وقتها لن تقود إلى شيء يرضي طموح الشارع، وإذا كانت هناك بعض المخرجات فهي ستكون مخيبة للآمال. ولفت إلى أن السلطة هي المسؤول الأول عن كل التأزم من خلال عدم اعترافها بوجود مأزق سياسي. بعد عام تقريبا، أعاد السيد الغريفي في ١٩ يوليو ٢٠١٢ طرح دعوته لإنهاء “الأزمة السياسية”، وتحدث عن ضرورة مراجعة الحسابات عند كل الأطراف، مشددا على وجود ثوابت أساسية في كل مراجعة، وهي كرامة الشعب وحريته وحقوقه، فلا تجوز المساومة عليها، لأنها “خيانة”، وما عدا ذلك فالمسالة تكون في دائرة المتحرك. وقال إن “أي مبادرة إنقاذ لا نشك أن زمام المبادرة فيها هي بيد النظام، فهو القادر على منح الشعب كامل حقوقه”، بحسب قوله.

الخطابات السابقة كانت تتطلق في ظل وجود فاعلين سياسيين رئيسيين، وفي ظل متغيرات لم تعد موجودة في ٢٠١٧، منها اعتقال كافة القيادات السياسية، بمن فيها التي تؤمن بالخيار السياسي العام للسيد الغريفي وفكرة “الحوار” مع الخليفيين. وكذلك ارتفاع منسوب الاستهداف للعمل السياسي المعارض، بما في ذلك حل وإنهاء كل المؤسسات السياسية التي كانت تنطلق منها جمعيات المعارضة لقيادة العمل السياسي المنفتح على فكرة “الحوار” و”التفاوض” مع النظام، وذلك في ضوء فشل أكثر من جولات تفاوضية شاركت فيها هذه الأطراف مع النظام.

من المرجّح أن مبادرة السيد الغريفي موجهة بالدرجة الأولى إلى النظام والجهاز العسكري الذي بدأ يدير الدولة بعد ٢٠١٤، وهذا يعني أن مضمون مبادرة السيد الغريفي هو مضمون أمني وليس مضمونا سياسيا، وذلك بالنظر إلى المقترحات التي طرحها السيد الغريفي في خطابه، وهي مقترحات ذات طابع أمني بمجملها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مسألة “الحوار” التي طُرحت جاءت مجمَلة، وفي إطار جدولة يُتفق عليها لاحقا، دون تحديد الفاعلين السياسيين الذين يمكن أن يتفقوا على تلك الجدولة المقترحة، مع العلم أن هناك قوى معارضة أساسية، ولها امتداد شعبي في الشارع، لا تؤمن بجدوى “الحوار” أصلا، وهي تعمل على تحريك الوضع المحلي بناءا على قاعدة أن النظام غير جدير بالمصالحة، وهو فاقد لصلاحية “التفاوض” وغير مؤهل أو قادر على مشاركة الحكم مع الشعب، وأن الأجدى هو المضي في المفاصلة معه، وإلى حد “الطلاق البائن”. إلا أن مؤدى مبادرة السيد الغريفي لم يلحظ هذه القوى، وهذا أمر طبيعي لكونه لا يؤمن بأطروحاتها، ويتحرّك بناءا على مغايرة “جوهرية” معها فيما يتعلق بمنهج المسايرة أو المفاصلة مع الخليفيين. وفي الإجمال، يمكن القول بأن المبادرة “الغريفية” – كما يصفها البعض – هي “كرة، بلا ملعب أو لاعبين، وليس هناك ملعب أو لاعب سوى النظام”.

السؤال إذن يقع في منطقة خارج منطقة منظومة خطابات السيد الغريفي، وخارج منطوق خطابه أيضا. وهو: إلى أي حد يكون بمقدور خطاب المبادرة أن يعيد خيارات النظام ويخضعها للمراجعة؟ وما خيارات السلطة أساسا، ليس لحل ما يُصطلح عليه بـ”الأزمة”، بل ما خياراتها تجاه ما يمكنها ان تتعاطي به مع مبادرة السيد الغريفي؟

في الواقع تبدو خيارات النظام محدودة أيضا، ولا يمكن التعويل ولو قليلا على “عقلانية” خياراته السياسية، إما لكونه مسلوب الإرادة السياسية بحكم ارتهانه للرياض وابوظبي، أو من جهة تحوله إلى نظام عسكري متوحش. وبالتالي، فإن أي اجتراح لحلول سياسية – ولو تحت سقف الملكية الدستورية وخيار التفاوض مع الخليفيين – من المهم أن يكون ذا صلة بمعلومات سياسية بإستراتيجيات ابوظبي والرياض المقبلة في المنطقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تكون تلك الاجتراحات معيقة لتقدم مسار “عسكرة الدولة”، وما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

هل يعني ذلك إعادة الكرة إلى معلب المعارضة، بكل أطيافها واتجاهاتها؟

بالتأكيد نعم! لعدم صلاحية النظام المسلوبة إرادته السياسية، وبسبب الطبيعة العسكرية التي هو عليها الآن. ومعنى ذلك أن على المعارضة أن تعيد رسم إستراتيجياتها في العمل السياسي المعارض، وأن تعمل بجهد مكثف لصياغة رؤى سياسية أقرب ما تكون لمحل إجماع قوى المعارضة، عبر تشكيل جبهة سياسية أو إطار عمل عمومي يعيد للبلاد استقلالها ويحميها من شرور السطوة العسكرية. في هذه الحال، سيكون المطلوب الانتهاء سريعاً من الجدل مما طرحه السيد الغريفي، والعودة سريعاً إلى مقاعد العمل المعارض الجاد، كلٌّ من موقعه، فالثورة التي لا تهدأ في الميادين والساحات حريٌّ أن تكون دافعاً للسياسيين للاقتداء بها والتعلُّم منها، والأخذ بعنفوانها وقدرتها على تخطّي الحواجز والكمائن السياسية والأمنيّة، كما يُحبَّذ أن تشتغل المعارضة مليّاً على تشغيل الدلالات المستفادة من إصرار الناس على الدَّوْس على صور حمد عيسى ونجليه ناصر وخالد والمشير “خليفة” أحمد، ومعنى الإمعان في أن تكون هذه الوجوه محاصَرة تحت مداس الناس والمركبات العابرة ولهيب النيران.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى