تقارير

:: وجوه الثورة :: الشيخ نمر النمر.. شيخ الشهداء الذي راهنَ على “عمامة الشهادة”

البحرين اليوم – (وجوه الثورة)

لن يكون مفارقا للحقيقة القول إن شهادة الشيخ نمر النمر (١٩٥٩- ٢٠١٦م) لاتزال تمثّل حدثا متحرّكا وسيّالاً، وكما هي خطاباته غير التقليدية التي فتحت عهدا غير مسبوق في النزال السياسي مع آل سعود. كان يمكن أن يكون ظهور الشهيد الشيخ النمر “عابرا”، كما هي موجات “الربيع العربي” في بعض البلدان والتي انتهت إلى جدران الإفلاس أو المصادَرة من قِبل قوى الثورة المضادة، إلا أن خطوط الاتصال المثمر، ولو بعد حين، التي ربطت بين “شيخ الشهداء” وثورة البحرين؛ جعلت من ظهوره الفارق في منطقة القطيف – ومن محرابها الثوري بالعوامية – علامةً تاريخية في معركة مواجهة الطغيان العابر للحدود، وبخطاب أصابَ المؤيدين والمعارضين والمحايدين بالذهول الممزوج باليقين بأن صاحبه يرسم دربه السريع نحو الشهادة. وتلك مسألة لم تكن خارج حسبان، أو حسابات الشيخ الذي ظنّ البعض أنه كان يزأر بالعواطف المؤقتة، وأنه يمكن لأيّ احتواء صارم أو متغيرات بينيّة أو رصاصات “التحذير” أن تجعله يلوذ بالصمت أو الاختباء خلف المبررات المعروفة التي يتحصّن خلفها المشغولون بأسباب الحياة الدنيا.

عبْر طريقته الخاصة في تسمية الأشياء بأسمائها، وفي تحديد العناوين والأوصاف بأبلغ العبارات وأوضحها؛ كان يريد الشيخ النمر القول بأن المرحلة الراهنة هي مرحلة قطْع دابر الأشرار، وفضْح الجذور التي يمتد إليها مجرمو آل سعود، وأنّ المسألة لم تعد تتحمّل مزيدا من الخطابات المتحايلة والمواقف الوسطى أو المنحازة. لم يكن هناك رهان على الواقع المحلي، أو المتغيرات الإقليمية، ففي الظرف الذي راهنَ تحرُّك الشهيد كانت الأمور، بدرجات عليا، لصالح أشرار آل سعود، فيما لم ينقلب عليهم بعدُ ميزان القوى وليُشتّت مخططاتهم هوامش جبروتهم في الداخل والخارج. غير أنّ الخاصية الاستثنائية للشيخ النمر كانت هنا تحديدا. فبقدرٍ من التبصُّر في مجرى الأحداث، ومع وفْرة لازمة من الإيمان بالسنن الإلهية في حركة التاريخ؛ فإن أيّ رجلٍ تضحوي، ومليءٍ بالحساسية ضد الظلم – الشيخ النمر والشيخ حسين الراضي مثلا – كان سيُقرّر أن يكون الباكورة الفريدة للعمامة الثائرة في وجه أبشع منتوجات القمع والاستبداد والكراهية في المنطقة.

العوائق الداخلية والتحديات القريبة والبعيدة ليست يسيرة ولا تغيب عن الأبصار، كما أن وجوده بين وحوش آل سعود، وإطلاقه للمعركة وهو على أرض المواجهة المباشرة معهم؛ لم يكن خياراً سهلا يمكن لأي شخص أن يتخذه، وهو يُدرِك كل النتائج وردود الأفعال الجنونية للخصم الذي يمثّل رأس حربة الشر في المحيط الإقليمي. إلا أن الشيخ النمر، وبكامل رؤيته وإرادته، وضعَ الأولوية لاتخاذ الموقف التاريخي، أو الموقف “الزينبي”، كما وصفه أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وأن يرسم الدوائر البارزة، دوائر العار والشنار، حول أسماء ووجوه القتلة والمجرمين والطغاة من آل سعود وآل خليفة، ويكون في ذلك صوتا شارحاً ومسدِّدا للجيل الذي قرّر أن يكون نقطة فاصلة، وحدّاً قاطعاً لمنطقة الفراغ، ولخيار الرماديّة والعكوف في حواشي السلطان وتحت إمرة “خطوط المشاة” المفروضة من الطغاة.

لم يعوِّل الشيخ النمر على وعيّ آني بأن خياره كان هو الأصوب، وهو ما كان سيتفاجأ لو علم أنّ عامين من ذكرى إعدامه لم يكن كافيا لزحزحة الكثيرين عن مواقعهم المتقدِّمة في خانة “الركون إلى الظلمة”، بمنْ فيهم أولئك الذين يعرفون جيدا موضع الآية الكريمة التي تحذّر من هذا الركون وتتوعّد بعاقبة المساس بالنّار. كما أن الشيخ الشهيد “يحفظ” منذ زمن الذرائعَ الجاهزة، والمُعاد الفذلكة بها كلّ حين؛ بشأن طرائق الهروب من اتخاذ الموقف التاريخي ضد فظاعات الظلمة، والتي لا تأويل معها. إلا أن ذلك لم يكن سبباً للانكماش داخل هذه البوتقة، أو الاحتماء بظلالها التي تبدو أكثر راحة وجلْباً للبحبوحة والتغنّج في الحياة. فالأمر، كلّ الأمر، يتعلّق بمرأى الشيخ النمر أن هناك إيمانا عقيديا، وقلوبا نقية، وعقولا لم يخالطها الدجل.. تفرضُ على المرء أن يقول كلمته الصارخة، وفي اللحظة التي لا تحتمل لعبة المتشابهات، ولو كان الثمن كربلاء أخرى. في حدودِ الإمكان وتفاوت الطاقات؛ من الممكن “استمراء” بعض المواقف التي نأت بنفسها عن كلّ المشهد، وارتأت الصمت المطلق، لا لهذا ولا إلى ذاك، تجنّباً لمرارة لا تُحتمل، أو التزاما بـ”الاحتياط الوجوبي” الذي يلزِمه غيابُ الحكم الواضح والتشخيصِ الدقيق والتسلّطِ الكافي على الموضوع الخارجي. إما بالنسبة للشيخ النمر، فالأمر ليس معقّداً إلى هذا المستوى، فارتداء العمامة عنده هو انتهاجٌ لمدرسةٍ لا تخضع للوم لائم في قول الحق، ولا ترهبها السيوفُ الجرباء أو المسلولة ولا يردعها ارتفاعُ المشانق عن تسديد الإصبع وإفصاح الخطاب لفضْح الظلمة والدعوة إلى البراءة منهم. ولكن الشيخ الشهيد لم يفعل ذلك بمعزل عن تبصّره الواقعي للأمور ولسريانه المقبل، وتلمّسه الموضوعي للمآل المتهالك لعروش الطغاة، وبما أظهرته بعضُ الأشهر الماضية، وبما يلوح بعضه الآخر بعد سنتين من جريمة الإعدام.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى