مقالات

عاقبة المجون السياسي: انتخابات 2018 في البحرين (١-٣)

 

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

 

في 26 يونيو 2017، صدر “الأمر الملكي” القاضي بفضّ دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي الرابع. دور الانعقاد المنفض كان قد افتتح في أكتوبر 2014 بشعار حمل كميةً كبيرة من الخداع والتضليل والمشاكسة ضد قوى المعارضة٫ التي واصلت بدورها مقاطعة للانتخابات. الشعار الذي أطلقه وزير العدل الخليفي وعنوانه: “بصوتك تقدر”؛ كان مواجهة سياسية فاضحة مع قناعات المعارضة بأن الهيكلية الدستورية لمجلس النواب ومقدار الصلاحيات المعطاة له – فضلا عن تحكم الديوان الملكي بتفاصيل الخريطة السياسية وهيمنته على ماكينة صناعة القرار السياسي-  تحُول حتما دون الاستفادة من تلك المؤسسة السياسية في تنشيط العمل السياسي الرقابي والتشريعي، وتجعل من مؤسسة البرلمان غطاءا شكليا لأدوات اللعب السياسي القذر من قبل الديوان الملكي.

في تفاصيل وجهة نظر المعارضة؛ فقد قاطعت قوى المعارضة انتخابات 2002 على إثر تفرد الحاكم الخليفي حمد عيسى بإصدار دستور للبحرين وإلغاء الدستور العقدي الذي صدر عبر المجلس التأسيسي في 1973م، ومنذ أن تم تعليق العمل بدستور 1973 في أغسطس 1975 ظلت المعارضة الوطنية تناضل كثيرا وبحماسةٍ لإجبار النظام على العودة لدستور 1973 وتفعيل الحياة النيابية المعلقة. لهذا؛ كان إنفراد حمد عيسى بإصدار دستور 2002 عملا أكبر من العمل الاستفزازي بكثير، وتم النظر إلى تلك الخطوة على أنها البداية الفعلية لبدء مشروع السلطوية التنافسية، والمقصود به أن “الملك” يستفرد بكل القرارات وبمقدرات الدولة، ويعطي الشعب مساحة من التنافس الديمقراطي الشكلي. وهذا ما كان دستور2002 يضمنه لـ”الملك” من حيث توسُّع صلاحياته التشريعية والتنفيذية والإشرافية، مقابل تفتيت القوى السياسية وتقليص مهامها إلى حدودها الدّنيا.

في انتخابات 2006 وبفعل محاولات تفاوضية قادها وسطاء أمريكيون؛ قررت بعض جماعات المعارضة المشاركة في الانتخابات على أمل إنجاز مشروع “الإنقاذ والإصلاح من الداخل”، وقتها كان انقسام المعارضة بين المشاركة والمقاطعة نقطة ضعف كبيرة في مشروع المعارضة السياسي. فمن خلال ذاك الانقسام؛ زادت حدة تفتُّت المعارضة أمام صلابة “الديوان الملكي” وتماسكه مع الموالاة. فالأمر كان يتطلب وحدة موقف سياسي أمام ترسُّخ السلطوية ومشاريعها القانونية التي ثبتها النظام عبر مجلس 2002م، مثل إصدار قانون مكافحة الإرهاب وقانون الجمعيات السياسية. وربما كان تسريب “تقرير البندر” الخاص بفضح مشروع الديون الملكي؛ أحد الأدوات التي تم هندستها بذكاء لزيادة انقسام المعارضة وتفتُّت موقفها السياسي. وهذا ما حدث بالفعل. فتحتَ ذريعة “رفع الضرر” وإيقافه؛ شاركت “الجمعيات السياسية”، وتحت الذريعة نفسها أعلنت قوى أخرى المقاطعة والاستمرار في خطواتها الرامية للوصول إلى مفاصلة تاريخية سياسية مع النظام.

عمليا؛ لم تنجز أي قوى سياسية معارضة مشروع رفع الضرر، فظلت ماكينة الديوان الملكي قادرة على تعطيل العملية السياسية وتشويه البنية الديمقراطية مقابل ترسخ السلطوية والاستبداد. خلاصة الخمسة عشر سنة الماضية كان عبارة عن “مجون سياسي فاحش” قاده الديوان الملكي، واستطاع من خلاله أن يُزعزع ثقة الناس في قوى المعارضة وفي مشروعها السياسي المضاد لمشروع المشيخة الملكية التي جاء بها حمد عيسى في 2001 تحت عنوان “المشروع الإصلاحي”. المجون السياسي؛ كان الكذبة الجميلة التي دغدغت مشاعر الكثيرين في البحرين، خصوصا الذين ذاقوا الأمرْين من قانون أمن الدولة ومن إرهاصات النظام الأمني.

استطاعت جمعية “الوفاق”، دون سائر الجمعيات السياسية الأخرى، بالفوز بـ 17 مقعدا من أصل 40 مقعدا، وتبيّن للجميع وقتها أن هناك تحكما واضحاً في مسار العملية الانتخابية لا يمكن القبول به لأنه يترجم الغبن السياسي بكل تفاصيله، إذ كيف يمكن لحزب سياسي أن يحصل على أكثر من 65% من الأصوات الانتخابية ثم يحصل على أقل من 40% من المقاعد البرلمانية. هذه المعادلة لم تكن تحدث إلا في البحرين ونظامها السلطوي الاستبدادي الذي يمكن – عبر التركيب الدستوري للسلطة التشريعية فيه – لـ”الملك” أن يضمن لنفسه 80% منها بأقل الأصوات الانتخابية مقابل 20% تتنافس عليها القوى السياسية بشراسة.

عيوب المؤسسة التشريعية لم تتوقف عن الظهور عند هذا الحد الفاضح من المجون السياسي؛ فقد كشفت تجربة “الوفاق” البرلمانية بشكل عملي عجز الأدوات الداخلية لتمرير أي مشروع سياسي لا يحظى بموافقة الديوان الملكي، بل أكثر من ذلك تشير بعض الشهادات إلى أن أعضاء الجمعية البرلمانيين؛ باتوا عاجزين عن التوافق مع أي قوى سياسية برلمانية دون أخذ مواقفة الديوان الملكي، وفي كثير من الأحيان كان يُقال لهم إن “مشروعكم في مكاتب الديوان ونحن ننتظر الأمر”.

ستنتهي الموجة الأولى من المجون في فبراير 2011 لتبدأ مرحلة أشد مجونا وأكثر قذارة ووضوحا في الاستبداد والفحش السياسي. مرحلة سيخوضها الديوان الملكي من أجل الإعلان عن الوجه الحقيقي والنهائي لما أسماه بـ”المشروع الإصلاحي”. ليس لأن هناك ثورة عارمة ستنطلق وتهزّ عرش القصر الملكي فحسب؛ بل لأن متطلبات الإنجاز السياسي الذي وُضع منذ 1999 تقتضي أن يتم الإعلان عن الوجه الحقيقي لكذبة “الإصلاح” وخداعها. وهذا ما سنراه في الحلقة المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى