مقالات

المجون السياسي: الديوان الملكي والألعاب القذرة (2-3)

 

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهد

كاتب متخصص في شؤون الخليج

 

كان من أبرز التجارب التي كشفتها تجربة عقد من الانتخابات في البحرين؛ هو أن هناك مشروعا سياسيّاً للديوان الملكي يستهدف قوى المعارضة ومشروعها السياسي الديمقراطي. الجيد في الأمر أن الجميع قد تحدث عن معالم ذلك المشروع المضاد للديمقراطية، وبطرق مختلفة. في الوقت نفسه، فإن الدرس الأبرز في تلك التجربة هو أن انقسام قوى المعارضة أمام التعاطي مع الديوان الملكي؛ يزيد من تفتّتها وضعفها، ويُضاعف من تماسك مشروع الديوان الملكي وصلابته. الدّرس الذي لم تستوعبه قوى المعارضة هو أن المجادلة البلاغية السياسية لا تبدو قادرة لوحدها على مواجهة الديوان الملكي، وأن الأمر يتطلب بلاغة في الموقف السياسي قبل الانتصار بالحجج البلاغية والتحليل السياسي.

في فبراير 2011 تفجرت أكبر ثورة شعبية في تاريخ البحرين تزامنا مع أحداث ما سُمّي يالربيع العربي، فكان الديوان الملكي في تسابق مع الزمن، وفي ضيق سياسي لم يواجهه منذ نجاحه في القضاء على الحركة الشعبية في منتصف الخمسينات مع حركة الهيئة الوطنية العليا ( 1954-1956)، بل حتى تجربته مع الانتفاضة الدستورية ( 1994-1999) لم تكن كافية لأن يتخطى بها محنته. صحيح أن الديوان الملكي ظلّ مُمسكاً بزمام الأمور، وأبدى براعة في البرود السياسي لفترةٍ من الوقت، لكنه كان مدفوعا بنصائح خبراء أمنيين دوليين بضرورة الإجهاز الفوري على الثورة المنطلقة، وأن البرود السياسي معها سيُولّد مزيد من التعقيد السياسي في حالته، حيث سيكون من الصعب إطباق السيطرة على مجريات الأمور لاحقا.

في حقيقة الأمر، كان الديوان الملكي يُسارع الوقت للإعلان عن نفسه حاكماً وحيداً وفريداً في البلاد. ويسارع الوقت لكي يُنهي حلقة المجون السياسي التي عمل من خلالها طوال عقد كامل. إنه الوقت المناسب للانتهاء من لعبة السلطوية التنافسية والدخول إلى عالم العسكرة المطلقة. الكثير من المراقبين فسّروا إعلان “أحكام السلامة الوطنية” وانتهاج سياسة التطهير الطائفي؛ علامةً قوية على دخول الديوان الملكي مرحلة جديدة في صراعه مع القوى السياسية، مرحلة يتجاوز فيها أطر الصراع السياسي إلى ما بعد تلك الأطر، بحيث يصبح المجتمع المؤيد للمعارضة – أيا كانت توجهاتها – في مرمى قذائف الديوان. وبالتالي؛ فإن أهم سمات مرحلة ما بعد 2001 كانت عبارة عن إشعال حرب هويات مجتمعية، إلى جانب حرب السياسية المشتعلة منذ عقود.

بقدر ما كانت ممارسات الديوان الملكي صادمةً ومؤلمة بالنسبة للمجتمع السياسي المعارض؛ فإن تلك الممارسات كانت موجّهة أيضا من الخارج الإقليمي، بالأخص الجانب السعودي والمستشارين الأجانب الذين كانوا يعتقدون أن إيران تقف وراء الانفجار الشعبي في فبراير 2011. لهذا كانت رؤية الديوان الملكي تتسم بقدر كبير من الثقة في الاضطهاد السياسي والطائفي وتشجيع الكراهية.

لم تفلح لجنة تقصي الحقائق المستقلة برئاسة السيد بسيوني (المتوفى في سبتمبر 2017) في تخفيف حدّة مشروع الديوان الملكي، رغم كل التوصيات التي وُضعت وقتها، وكان رد حمد عيسى عشية الإعلان عن التقرير واضحا وقويا، وأكد أنه غير مكترث تماما بمخرجات التقرير لأنه يعلم ما لم تعلمه اللجنة التي شكلها، وبذلك أطلق رصاصة الرحمة على توصيات تقرير بسيوني.

عملياً؛ اتجه الديوان الملكي ناحية التطبيق الفعلي لما كان يُعرف بتقرير “البندر”، وما يتضمنه من طرائق هندسة المجتمع وفقا لرؤية الديوان المرتكزة أساسا على عدة محاور، أهمها:

1-         استبدال النخب السياسية الشّيعية بنخب سياسية موالية ومطيعة.

2-         العمل على كسر وتفتيت الكتلة التاريخية الشيعية انطلاقا من كونها الكتلة الأكبر.

3-         إكساب البحرين هوية مجتمعية جديدة مختلفة عن هويتها السائدة.

4-         ضمان التفوق السني وتقويته أمام القوى الشيعية.

وكان من الطبيعي أن توضع عدة مشاريع لكل محور من هذه المحاور، مثل مشروع التجنيس، ومشروع الإفقار الاقتصادي، ومشروع الهوية القبلية للبحرين، ومشروع الموالاة، ومشروع استهداف القيادات الدينية والسياسية الشيعية وغيرها.

في الوقت نفسه كان على الديوان الملكي أن يستدرك الخطأ التاريخي الذي وقع فيه، وهو الخطأ المتعلق بالحياة النيابية ومقدراها الضئيل في إمكانية صناعة مجال سياسي معارض لسياسة الديوان، رغم كل الهندسة الدستورية والقانونية التي وضعها منذ 2002. فالديوان الملكي استشعر خطر نسبة 20% وإمكانية تحويلها إلى نقاط قوة لدى بعض أطراف المعارضة أو قدرتها على الاستفادة منها في تنشيط القوى الموالية بحكم طبيعة التنافس السياسي. فكان مزعجا للديوان تشكيل تحقيق في الأملاك العامة، كما كان مزعجا التقارب السياسي البرلماني بين كتلة الاخوان المسلمين ونواب جمعية الوفاق.

أمام هذه التركة السياسية؛ عمد الديوان الملكي إلى وضع إستراتيجية مزدوجة تستهدف المؤسسة النيابية من جهة، وتعمل على تزييف الوعي السياسي بالديمقراطية من جهة ثانية.

الإستراتيجية الأولى اقتضت من الديوان الملكي أن يصوغ مشاريع قوانين عديدة يضمن من خلالها عدم وصول أي فرد من نخب المعارضة إلى مقاعد مجلس النواب، واستطاع الديوان أن يمرّر قانون منع أعضاء الجمعيات السياسية المنحلة من ترشيح أنفسهم، بالإضافة إلى منعهم من الدخول إلى إدارات مؤسسات المجتمع المدني الأخرى، مثل الأندية وجمعيات النفع العامة.

أما الإستراتيجية الثانية فقد كانت تُطبخ في هدوء تام من خلال تقديم نماذج عقيمة وباهتة للنواب، وجعلهم مدعاة للسخرية سواء من حيث أدائهم أو من حيث اختيار النفعيين منهم وزجّهم في لفيف الأعضاء البرلمانيين. إذ تقتضي تجربة تكرار تقديم مثل هذه النماذج إلى فقدان ثقة الناس بالمؤسسات الديمقراطية وبالوعي الديمقراطي، وهو ما ينشده الديوان الملكي على المستوى الإستراتيجي.

سنرى في الجزء الأخير من هذه المقالة كيف صاغ الديوان إستراتيجية انتخابات 2014 وكيف سيدير انتخابات 2018 انطلاقا من هذه الرؤية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى