مقالاتنادر المتروك

صور الشهداء.. مقدمة للمقارنة بين جيلين

nader
نادر المتروك

البحرين اليوم – خاص

في الثمانينات. لا أتذكر تحديداً التّاريخ، ولكنّها الفترةُ ذاتها التي رحلَ فيها الشّهيد جاسم المطوّع. الشّاب الذي لم أعرفه، وكثير من جيلي، إلا حين رحلَ. عرفناه بصورته المطبوعة التي وُزّعت علينا، وترافقت معنا حين زرنا روضته في مقبرةِ المنامة.
أخذنا الشيخ جميل العامر إلى بلدة الدّراز. هناك، كان العزاءُ الموكبي الأوّل الذي يمرّ على ناظريّ. أخبروني لاحقاً أنّ الشهيد المطوّع اقتربَ منّا ليلتها وسلّم علينا، يداً بيد. أخبروني بذلك حين رحلَ شهيداً في ظروفٍ ستظلّ تمثّل ترميزاً على المرحلة الأمنيّة التي طبعت تلك الفترة وما سبقها. بعد أيّام.. في ليلة جمعةٍ من تلك الأيّام، أخذنا الشيخ العامر إلى السّنابس. بناية تقابل الموقع الحالي لمأتم السّنابس الجديد. صعدنا إلى إحدى الشّقق. مجلسُ دعاءٍ جماعي لقراءة دعاءٍ “جديد” ساهمتُ في طباعة أوراقه يدويّا (دعاء “آه وانفساه”).
المجلسُ كان بحضور الأسماء التي كانت تمثّل لنا، وقتها، “أيقونات” للحالة الدّينية الجديدة. أحد شبابُ المنامة كان يستأجر الشّقة. “أبو لؤي”.. “أبو أحمد”.. بعضُ منْ كان هناك. الطقسُ الجماعي لا يخلو من العزاء الحسينيّ واللطميّات. الذّاكرة اليوم لا تحملُ الكثير عن تلك اللّيلة التي تكرّر إحضاري إليها. أكثرُ ما أتذكره، اليوم، من تلك اللّيلة هي “الوجبة” التي وُزِّعت بعد الطقس “العبادي”. السمبوسة والجباتي وشراب البيبسي بالقنينة الزجاجيّة. أحضروا المشروبات الغازية في الصّندوق القديم الذي يحملها. كان ممتلئاً كلّه، وكلّ منْ يرغب بواحدة أن يمدّ يده ليختار النوع الذي يحبّ. كان المشهد جذّاباً بالنسبة لفتى لم يتجاوز الثانية عشر من عمره، وما كان له من خُبرةٍ، أو احتكاك بجمْعٍ أو كرمٍ كهذا الذي يغمره من كلّ ناحية.
كنتُ أطلبُ، من غير أن أتكلّم، الذّهاب إلى المنامة. كانت هذه “الرحلة” غير مُتاحة لمنْ في مثل سنّي. كان الأمرُ يتطلّب إذن “ولي الأمر”، أو تصريحٍ منه انتزعه، أو أخترعه من وهميّاتي، وأبلغه لذوي “الشأن”. لم أُمْنَح وسامُ إشْراكي في الرّحلةِ إلى العاصمة، ورؤية مواكبها. أرّقني هذا الحرمان كثيراً. جعلني أُصاب بالإرتيابِ من الآخرين. لعلّ هذا السّبب الذي جعلني أصنعُ تمرّدي المبكّر على الجماعة. لم يكن تمرّداً، في الحقيقةِ. كان تمنّعاً على طريقة منْ يريد أن يبّلغ رسائلَ الإستياء من غير كلام. اختبر العامر ذات مرّةٍ صمْتي، واستنطقَه بطريقته التي تسحرُ الجميع.
بدلاً من المنامة، مُنحتُ “شرف” الذّهاب إلى موكبٍ في السّنابس. كان ذلك بعد وقتٍ طويل. اكتشفتُ، لأوّل مرةٍ، معنى أن يُسيّس العزاء. حسين سهوان كان يتحدّث عن طائرة إيرانية تُحلّق في السّماء، وقد أُسْقطت. الكارثةُ تلك، لمْستها – مع بعض الشّروح من المرافقين الكبار – وأحسستُ بها وكأنها مصيبةٌ من نسْل كربلاء.
في الفترةِ ذاتها، كان عليّ أنْ أكون خزّان “الممنوعات” التي يخشى “الشّبابُ” أن يُمْسَكوا بها حين تُداهم المخابراتُ منازلَهم. بالمنشورات، والصّوتيات (أشرطة الكاسيت) وآلة الكتابة التي أُوْدعت عندي؛ تعلّمتُ أسرارَ تلك المرحلة، بنفسي، ومن غير أن يخبرني بها أحد. كنتُ أنتظرُ أن يحلّ الظلام لأنفرد فوق فراشي وأقرأ ورقةً ورقة، وأقلّبُ صورةً تلو أخرى، وأتدرّبُ على تحريكِ أصابعي فوق آلة الكتابة. سمعتُ كلّ ليلةٍ وبنحو “احترافي” العزائيات الخاصة من الكاسيت. اكتشفتُ “المونتاج” الصّوتي الذي أعدّه نفرٌ لا أعرفهم للطميةِ “ثلاث وسبعون شمعة.. خذوني إلى كربلاء الخليج”.
العالَمُ الجديد الذي كنتُ أتمنّى الذّهابَ إليه، جاءَ إليّ مختصَراً، ومجسَّداً.. وعرفتُ ما يكون “عزاء الشّهيد” الذي يخرج في العاصمة، وهو العزاءُ الذي كان يُداعبُ مخيلةَ الفتيان “الحركيين” من أمثالي وقتها. عرفتُ من هذا العزاء؛ منْ يكون الشهيد جميل العلي. صورته المغروسة في “كيس” الممنوعات المدفونة عندي؛ كانت طريقاً لعالم متواصل من السيرة المتواصلة مع الشهداء. انطبعت صورةُ العلي الجامحة في عينيّ حتّى مطلع التسعينات. كانت تضغطُ عليّ وكأنّ لحيته الكثيفة تشدّ الضوءَ من عينيّ وتأسرهما.
ظلّ الشهيد العلي يرسمُ ملامح كثيرة من افتراضاتي عن تلك المرحلة، وما قبلها. كانت صورته حاضرةً في كثيرٍ من الكتمان الثوري الذي تدرّبتُ عليه وحيداً. أكثر من صدفة جمعتني بعائلة الشهيد. زرتُ بيتهم في إسكان جدحفص برفقة صديقٍ كان يتقدّم للزّواج من العائلة. لم يتمّ الزّواج، ولكنّ تذكار الزيارة – الخاطفة والصامتة – كانت عندي مثل الوسام الذي اعتزّ به.
بعد سنواتٍ قليلة؛ حضرت عندي صورةُ الشهيد السيد أحمد الغريفي. نجله، زميل الدراسة الإعدادية، السيد محمد الغريفي؛ أهداني الصّورةَ حين كنّا ندرسُ في بيتهم بقرية عالي. سمعتُ كثيراً اسمَ السّيد. وأتذكر طيْفاً من الهياجِ الذي اجتاحَ الشارعَ في القرية حينما شُيّعَ نحو مثواه الأخير. طلبتُ المعرفةَ عن السّيد. كانت المعلوماتُ شحيحةً، والأوضاعُ الأمنيّة لم تسمح بأكثر من إرفاقنا إلى الجولات الدّينية التي كانت تطوف على روضته، وتتنقلُ على المزارات الأخرى.
المعلوماتُ النادرة عن الشهيدين المطوع والعلي لم تمنع من التعلق بهما. قصة استشهادهما تحوّلت إلى عنوان لأساطير حول الشّبان الملاحقين من سيّارات المخابرات، وأولئك الذين خجِل الصمود منهم في غرف التعذيب. وكان ذلك كافياً لأن يُصبح “الشهيد” أيقونة معبّرة يتعلق بها الجيل كله. المعلومات أيضاً لم تكن متوافرة عندي، حينها، عن الشهيد الغريفي. باستثناء قصّة استشهاده، وتعلّق “الشّباب” به؛ فلم يكن ما أعرفه عن الشهيد سوى صورته، ونجله الصديق. لكن حجماً كبيراً من الملازمة ظلّ يتراكم فيّ، مشفوعاً بالتطلّع الدائم لمعرفة المزيد عنه.
بصور شهداءِ الثمانينات انفتحَ عقدُ التسعينات. بهذه الصّور كوّن جيلَ التسعينات تألقه الخاص، وحضورَه المتميّز، وأثرَه العميق والممتد حتّى يوم انبلاجِ فجر ١٤ فبراير.
بهذه الصور، وبما فعلته بجيل التسعينات؛ أقترحُ قراءةَ حدث الألفية، وخاصة المقاطع التي ظهرَ فيها ما سُمّي “المشروع الإصلاحي”، وما تبعه من انتكاسةٍ مؤلمة أثّرت على سيكولوجيّة هذا الجيل وهو يتابع الفعلَ السياسيّ الجديد الذي أفرزته قوى المعارضة الرسميّة عقب الإعلان عن “الميثاق” و”دستور المنحة”، وهي المحصّلة التي انسحبت لاحقاً – وباتّساع مترامٍ – في الحدودِ الزّمنيّة الفاصلة لثورة ١٤ فبراير، وما تبعها، وبينها المساحة السياسيّة التي شهدت سلسلة التبدلات، والإنزياحات، والتحوّلات، وقفزات الهواء التي تطرّق إليها المقال السابق، وما قبله.
السرديّة الذاتيّة السابقة غرضها التمهيدُ لقراءةٍ مقارنة بين عقدين، أو انتفاضتين، مع تركيز النّظر في طبيعةِ الفعل السياسيّ وتحوّلاته في كلا المرحلتين. وهي قراءةٌ يُراد لها أن تكون منظاراً تفسيرياً آخر لظاهرة التّحوّل لدى النشطاء والمعارضين السياسيين.
يتبع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى