مقالات

القطيعة التاريخية بين آل خليفة والمجتمع في البحرين

 

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

 

تقع القطيعة ما بين النظام السياسي في البحرين والمجتمع في سياقات عديدة، إلا أن سياق الذاكرة التاريخية ومحتوياتها من رموز تاريخية ومعالم تؤصل الهوية البحرانية؛ هي الأكثر تجليا منذ بداية استيلاء آل خليفة على البحرين سنة ١٧٨٣م. وهذا يجعل من مسألة التواصل مع النظام السياسي وثقافته المكوّنة حول ذاكرته التاريخية؛ مسألة في غاية الصعوبة، فأقصى ما يكمن الحديث عنه في الفترات السابقة كان يتعلق بالتعايش أو التجاور. فهناك انفصال واضح يُبديه النظام – يصل في بعض الأحيان لدرجات موغلة في العداء والإقصاء – لكل ما هو متصل بذاكرة ما قبل دخول آل خليفة إلى البحرين. ولهذا، وكحل مؤقت، وبتشجيع من بريطانيا وقتها؛ حاول النظام القائم في البحرين وصْلَ نفسه بما قبل الفترة الإسلامية، وسعى لإبراز هوية البحرين القديمة جدا، مثل حضارتي دلمون وتايلوس، من أجل فرض ذاكرته التي ينفرد بها على ذاكرة المجتمع المحلي والذي يسبقه في الوجود والاستمرار وجود العائلة الحاكمة.

 

أمجاد الغازي

 

اختلاف الذاكرة التاريخية بين النظام السياسي من جهة، وذاكرة المجتمع المحلي من جهة أخرى؛ تؤسِّس لقطائع متتالية، من قبيل القطعية السياسية والقطيعة الاقتصادية، وقبلها القطيعة الاجتماعية. ومعنى هذا؛ أننا أمام نظامين متجاورين، أحدهما يمتلك الهيمنة والقدرة على تمرير ما يراه متوافقا وثقافته وذاكرته المنفردة، والآخر لا يزال مهمَّشا وتُفرض عليه إملاءات لا تتوافق وتطلعاته وما يتصل بتاريخيه وهويته.

لا شك أن توظيف الهيمنة والإقصاء – بوصفها آليات عسَف سياسية – ليس مقتصرا على النظام السياسي في البحرين، بل هي الحال السائدة في أغلب مجتمعات الشرق الأوسط. إلا أن الذي يُضاف في حال البحرين هي وضعية اغتراب المجتمع المحلي عن النظام السياسي، وعن الدولة القائمة جراء انفصال النظام عن المجتمع، ليس سياسيا فحسب، وإنما ثقافيا وتاريخيا، بحيث إننا نقف أمام ذاكرتين تاريخيتين يصعب الحديث عن تلاقيهما في مفاصل مشتركة.

إن أمجاد المجتمع المحلي وركائز هويته الوطنية ممثلةً في الرموز والتواريخ؛ مختلفة تماما عن تلك الأمجاد والرموز والتواريخ التي يحتفل بها النظام ويُعلي من مكانتها. وهذا كان واضحا منذ اللحظات الأولى وقت الاستيلاء على البحرين في ١٧٨٣ وتمجيد هذا التاريخ واعتباره عنصرا رئيسيا في ذاكرة النظام السياسي. وبالوقوف قليلا أمام هذا التمجيد وتجميع عناصره؛ سنرى أن مضمون ذلك التمجيد هو إلغاء ذاكرة المجتمع المحلي، وإجبارها على الدخول في الهوية الوافدة والجديدة، وبالتالي، التأسيس لمبدأ القطيعة السياسية والاجتماعية مع كل منْ لا يرى تمجيد هذا التاريخ الذي لا يعني لأفراد المجتمع المحلي سوى حالة واحدة هي الإستيلاء على الخيرات والثروات. وهكذا تتمدد القطيعة بين النظام والمجتمع المحلي عندما يُراد لذاكرة المجتمع المحلي أن تذوب في ذاكرة الغازي، وتتماهى مع عناصرها.

 

مقاومة المسلوبين

 

وإذا كان النظام السياسي سعى ولا يزال لإنزال الهزيمة بالمجتمع المحلي، واجباره على التنازل عن هويته وذاكراته؛ فإن المجتمع المحلي من حقه أن يقاوم هذه الهيمنة، وأن يرفض “التذويب التاريخي” وفق قاعدة ابن خلدون الشهيرة والقائمة على تشبه المغلوب بالغالب. فالذي نجده في سياق مجتمع صغير مثل مجتمع البحرين أن المغلوب لا يزال يمتلك الموقع المنفصل عن دائرة الغالب والمهين. وعبر هذه المقاومة المستمرة لأكثر من ٣ قرون؛ صاغ المجتمع المحلي هويته وذاكرته وحافظ على نقائها.

المسألة بالنسبة لأفراد المجتمع المحلي لا تقف عند حدود سلب السلطة واحتكارها، فدائما ما يتْبعُ سلب السلطة البحثُ عن شرعية لها لدى أفراد المجتمع أو ما يُسميه علماء الاجتماع بالبحث عن وسائل إقناع غير تلك المستخدمة في ممارسة السلطة نفسها. فهناك أرضية مادية تقوم عليها السلطة، وفي مقابلها هناك أرضية ثقافية وتاريخية يصعب اختراقها. وفي الغالب؛ فإن هذا الدور يأتي من عينات مجتمعية يُراهن عليها النظام السياسي في تسويق مشاريعه وترسيخ شرعيته المفقودة سياسيا واجتماعيا. فعبر هؤلاء؛ استطاع النظام أن يسوّق عملية استيلائه على الأرض أولا فيما يُعرف تاريخيا بالوزراء والوكلاء الذين كانوا يقومون بخدمة النظام السياسي الوافد وجبي الضرائب باسمه، وتأجير المزارع على المُلاّك الأصليين للأرض لصالح بعض أفراد النظام السياسي. رغم ذلك؛ فإن مهمة أولئك لم تلاقِ النجاح في تثبيت شرعية النظام لدى أفراد النظام المحلي من جهة، ولم يكن بمقدور أولئك أن يصوغوا بديلا عن ذاكرة المجتمع المحلي وهويته من جهة أخرى، فكان مصير مهمتهم الفشل والانتهاء بانتهاء وظيفتهم المادية أساسا.

ولعل هذا يفسر جزءا من إشكالية تكرار مشهد الانتفاضات الدورية والمتكررة في البحرين، إذ تبقى عملية التصالح هشّة ومحكومة بالإنقلاب والانتصار للمرتكز الثقافي والتاريخي لذاكرة النظام، وفي رغبةٍ واضحة لإخفاء الجسد الاجتماعي أو تشويه معالمه في حالات عديدة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى