ما وراء الخبر

‫”‬الممارسة الحسينية” في فكر الشيخ الشهيد نمر النمر والشيخ حسين الراضي (2-2)

البحرين اليوم – (خاص)
هناك منْ يثير بعض “الإشكالات” والشكوك حيال النموذج الذي قدّمه الشهيد الشيخ نمر نمر في تجسيده لـ”الممارسة الحسينية”. وإضافة إلى الإشكالات “المشبوهة” التي تغرف من آبار مسمومة مثل “الحزبية” و”المرجعية الدينية” التي يؤمن بها الشيخ النمر؛ فإن هناك إشكالات أخرى تتعلق بالتقدير “الموضوعي” الذي انتهى بالنمر إلى إتباع “الخيار الحسيني” بحذافيره ودون تباطؤ، وتُعيد هذه الإشكالات ذات الأسئلة و”الجدل” بشأن مقولة اختلاف الظروف القائمة مع الظرف التاريخي لثورة الإمام الحسين بن علي، ونسبية تحليل الأوضاع الراهنة، وكذلك المماحكة بالنماذج الأخرى التي قدّمها أئمة أهل البيت والتي يوظفها البعض لتبرير المسالمة مع الأنظمة “الجائرة” واجتناب المواجهة معها.

وعدا عن إشكال “التهافت” بين النظرية (النصّ، العقيدة) والممارسة (السلوك، المنهج العملي)، والذي تمت الإشارة إليه في الجزء السابق؛ فإن هناك إشكالات جدلية تُوجَّه إلى فئة واسعة من الذين ينتقدون اختيار “الممارسة الحسينية” في أوضاع اليوم في السعودية والبحرين وغيرهما. وأولى هذه الإشكالات يتعلق بفشل الخيارات “البديلة” (التي ترجع في النهاية إلى خيار القبول بالأمر الواقع) في انتزاع الحقوق أو لجم الظلم وردع الظالمين. كما أن المؤمنين بخيارات المسالمة مع الواقع الظالم يتجاهلون أن “المقصد” الأساس من اختيار النموذج الحسيني، لا يكون حيث تكون هناك حاجة فقط لرد الظلم وكشف القناع عن الظلمة وأعوانهم، فهذه الحاجة يمكن أن تتحق بوسائل أو بممارسات أخرى، غير الخيار الحسيني. إلا أن الخيار الأخير، بما فيه من حرارة الجرأة والمظلومية والأخلاقية؛ مُصمَّم لتحقيق أكثر من حاجة، وإنْ كانت مواجهة الظلمة على رأسها في الظاهر، ومن تلك الحاجات: تفكيك منظومة الظلم، والتصدي لأدواتها وأقنعتها، ونزْع الشرعية عنها، وإعادة الأمة إلى مهادها الفكري السليم.

سجّت ممارسة الشيخ حسين الراضي لهذا الخيار؛ إضافة “نوعية” في ممارسة الشهيد النمر، ولاسيما في البُعد التكاملي للممارسة، والتي أمّنها ما يتميز به الشيخ الراضي من حيثية علمية واجتماعية. فبالنسبة للشيخ الراضي (مواليد الأحساء ١٩٥١م)، فإن حجما كبيرا من الإشكالات المذكورة أعلاه لا تجد محلا من الاعتبار. فلا خلاف حول الكفاءة العلمية للرجل الذي يُعد من أبرز المحققين المعاصرين في الخليج، وهو يحظى برتبة علمية متقدمة، وتاريخه “الحوزوي” في مدرسة الشهيد محمد باقر الصدر يضفي عليه قدرا واسعا من الجاذبية والتأثير والمصداقية الفكرية.

بسبب ذلك، تقل في النموذج “الحسيني” للشيخ الراضي نسبة “المجادلة” لجهة أسباب اختياره لهذا النموذج، وهو الأمر الذي يرتفع – في المقابل – نسبة “الانتقاد” للصمت أو عدم الجدية في مناصرته بعد اعتقاله في مارس ٢٠١٦م، وخضوعه حتى الآن في ظروف غاضمة في السجون السعودية.
الخيار الحسيني للشيخ الراضي: مواجهة التحريف والتزييف
في بحث له تحت عنوان “التحريف ودوره في تخلف الأمة”، ونُشر في العام ٢٠١٢م، يحذر الشيخ الراضي من خطر هذا التحريف ودوره في “تأخر الأمة” وابتعادها عن “عوامل القوة والصمود”، مشيرا إلى أن “الإسلام دين العلم والمعرفة والتقدم والازدهار والدفاع عن المظلومين والمحرومين ومحاربة الظالمين والطغاة ونشر العدالة الاجتماعية والمساواة”، وأن وقوع التحريف “في التراث” له أثره السلبي على هذا الدور الحقيقي للإسلام.

هذه الرؤية الفكرية للشيخ الراضي كانت حاضرةً وهو يسجل دوره “الانتقالي” في المشهد المحلي داخل السعودية، وخصوصا بعد إعدام آل سعود للشيخ نمر النمر في ينارير ٢٠١٦م. شكلت الخطب “النارية” للشيخ الراضي تنويعا بين درجتين من الخطاب الموجّّه، فهو من ناحية استدعى طبيعته الفكرية بوصفه باحثا ومحققا، وحرص على تمديد خطبه وإمدادها بالإحالات النصية والمرويات المتفق عليها بين المسلمين، ومن ناحية أخرى وضع إصبعه على “الجروح الكبرى” التي تسبب بها النظام السعوديّ، ليس في الشأن المحلي الخاص بإعدام الشيخ النمر وقمع الحراك المطلبي فحسب، ولكن في الشأن الخارجي المرتبط بسياسات النظام السعوديّ، وهو الشأن الذي يمثل “حساسية أكثر” بالنسبة للنظام، وكان المنطقة “المحظورة” التي التزام كثيرون بعدم الاقتراب منها خشية من بطش آل سعود، وخاصة ملف العدوان على اليمن، والتدخل السعودي في شؤون الخارج، والهجوم على حزب الله وإجبار السعودية دول الخليج والدول العربية والإسلامية على اعتباره “منظمة إرهابية”.
الشيخ الراضي: القول الرصين وصرامة الفعل
في الممارسة الحسينية للشيخ الراضي نجد شكلا مختلفا عن الخطاب الذي تميّز به الشهيد الشيخ النمر. فالراحل كان مشغولا بخطاب تعبوي، ومركّز على تسجيل الموقف من الخارج، مع رسم بياني مضغوط ومجمل للاستدلال والبرهنة. فهو لم يكن بصدد إثبات “القضية”، لأنها ثابتة ولا جدال عليها. بل كان مدفوعا أكثر بالدفاع عنها أولاً، وهذا مبرّر بالنسبة للحظة الحرجة التي ظهر فيها الشيخ النمر، حيث لم تكن ثمة أصوات تتولى الدفاع عن المظلومين، والوقوف في وجه الظلمة، وكان يرى أن المهمة “الحسينية” في لحظته تلك هي التصدي، وليس الحجاج.

بالنسبة للشيخ الراضي، فإنه وجد الأمور مختلفة، كما أن بنائه الفكري وعقليته المعتادة على التحقيق؛ فرضت عليه لونا آخر من الخطاب المستعمل في تحريك الخيار الحسيني ضد آل سعود. فقد ظهر في يناير ٢٠١٦م بخطب انطوت على قول رصين يحمل قوة الفعل وصرامته. كان واضحا أن آل سعود “فوجئوا” بدخول الشيخ الراضي المباشر على خطّ المواجهة الصريحة، وكان ظنُّ النظام السعودي أن إعدام الشيخ النمر سيخلق “أجواء متناقضة” بين الناس والنخبة، تتراوح بين الصدمة والإحباط والتراجع، وخاصة على صعيد “النخب الدينية” المستحكمة في المزاج الشعبي بالمنطقة الشرقية، والتي ارتأت انتهاج خيارات “الموادعة” وابتلاع الضربات والاستفادة من “الهوامش” لتمرير المطالب الناعمة، مع اجتناب الاقتراب من المحظورات الرسمية. فرض هذا المسار ظروفا مشبعة بالاستسلام للأمر للواقع، ووجد النظام في ذلك تشجيعا للمضي بمزيد من القمع وتوسيع دائرة المحظورات، ليكون شيعة المنطقة الشرقية – في نهاية المطاف – محاصرين بين نار الإرهاب التكفيري (غير الممسكوك) ونار الإرهاب الرسمي الذي تجاوز مداه مع جريمة إعدام الشيخ النمر.

بدوره، وجد الشيخ الراضي نفسه أمام اختبار النموذج الحسيني وهو يرصد هذه الأجواء الشبيهة بما فعله الأمويون، وهي الأجواء التي يلم بها الراضي مفصلا لكونه باحثا في التاريخ الإسلامي وحقق في أدق تفاصيله. التحدي “العملي” الذي كان أمام الراضي هو استكمال النموذج الحسيني مع بلوغ آل سعود أقصى درجات “التشويه” و”الظلم” و”التكفير” و”القتل”، وهي الدرجات التي تمثلت في ذات السياق التاريخي الذي ولّد ضرورة خروج الإمام الحسين بن علي وإعلان الثورة على النظام اليزيدي. توثّقت أسباب هذا التحدي مع تبصُّر الشيخ الراضي بالفراغ “القيادي” الذي شكله إعدام الشيخ النمر، وهو فراغ تحقق منذ العام ٢٠١٢م حينما تم اعتقال الشيخ النمر أثناء محاولة اغتياله الفاشلة، ولكن الإلحاح على مليء فراغ غيابه “المادي” كان بيّناً مع المبادرة السريعة للشيخ الراضي بتفعيله العلني للممارسة الحسينية وظهوره، منذ يناير ٢٠١٦م، بخطابٍ جريء، ومباشر، وتأسيسيّ، لم يعتد عليه المنبر الديني “الشيعي” في السعودية وعموم الخليج منذ تغييب الشيخ النمر.

كسرَ الشيخ الراضي حاجز الصدمة والصمت في مسقط رأسه التي تراكمت عليها خيارات الصمت والموادعة، وأراد الراضي أن يكون ذلك “متتالياً” و”جامعاً” و”حاسماً” في الوقت نفسه، حيث توالت خطبه على منبر الجمعة في تسجيل المواقف الحاسمة في خصوص كل الموضوعات المحرَّمة: (الشهيد النمر، إصلاح الداخل، العدوان على اليمن، التدخل في سوريا والبحرين، احتضان الإرهاب التكفيري، والدفاع عن حزب الله)، وكانت مداخلاته في كل موضوع من هذه الموضوعات بمثابة “التطبيق العملي” لنصرة المظلوم، والوقوف غير الملتبس في وجه الظالم، وهو الدرس الحسيني الذي يُدرك الشيخ الراضي بأن الاقتداء به له كلفته الباهظة من البطش والقتل ربما، ولكنه اختاره لكونه بصدد تحقيق الانسجام الفكري على مستوى السلوك، والمطابقة بين العقيدة والسلوك الخارجي.

كما هو الحال مع سيرة الإمام الحسين؛ فقد سمع الراضي “نصائح” كثيرة تدعوه للكفّ عن الالتحاق بطريق الشهيد الشيخ النمر، ولكنه أخبر الناصحين بأن موقعه الديني، وتمثّله للنموذج الحسيني، يجعله يتجاوز “ردود الأفعال المؤقتة”، ولذلك لم يكن الظهور “الحسيني” للراضي محصورا في عنوان الشهيد النمر – رغم أنه كان الحافز الفعلي – بل امتد الخطاب “الحسيني” للشيخ الراضي ليشمل التحديات الخطرة التي تتلاقى مع تلك التي واجهها الإمام الحسين وثار عليها، ولاسيما تلك الشراكة “الخطيرة” بين “الفقهاء والأمراء” في صناعة الانحراف في الأمة وتشريع الاجرائم والانتهاكات فيها. ولذلك شدّد الشيخ الراضي في إحدى خطبه الأخيرة على القول بأن سوء الأوضاع الجاري في هذه الأمة إنما هو بسبب سوءٍ في علماء هذه الأمة وفي أمرائها. ولذلك، كان لابد من خروج “حسيني” يسحب بساط الشرعية عن كليهما.

جرّب آل سعود إرسال رسائل تهديد للشيخ الراضي، قبل اعتقاله المستمر منذ شهر مارس الماضي، وقد منعوه من إقامة صلاة الجماعة وإلقاء الخطب في المسجد. إلا أن الرجل لم يكن بصدد الخضوع لأي تهديد، وقد تجاوز كلّ ذلك. المظلومية التي يجسدها الراضي اليوم ليست بعيدة عن مظلومية الشهيد النمر، ولكن المحقق البارع الذي يُعاني في سجون آل سعود اليوم؛ غير مشغول باستدرار النصرة، وهو لا يحكم على المشهد من لحظته “الكربلائية” الأولى وما يحوم فيها من فجائع ومصائب تُشبه يوم عاشوراء. فالممارسة الحسينية ليست تسجيلا للمواقف، وهي ليست انتحارا ينتهي مع نهاية الموقف، ولكنها أداء وظيفي متعدد الأغراض، وآثاره متدرجة وتراكمية، وفاعليتها الأولى هو إيقاظ الوعي العام وتوسيع الطريق أمام خيارات الخروج والنهوض في أي وقت مقبل، أما قيمتها المنجزة فهو توفيرها النماذج التطبيقية التي توكد إمكان “الخروج” دائماً وأبداً في وجه مشاريع الظلم والتحريف والتزييف وتمنح هذا الخروج الخبرةَ والجرأة وأدوات الاحتجاج والمواجهة معاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى