حكايات الضحايا

منتظر العجيمي.. أكثر من مئة سنة من الأحكام لم تطفيء شمعة الإباء وانتظار النصر

9e0f78ca-68b1-4d48-a031-3e0eae72f894

 

البحرين اليوم – حكايات الضحايا
ماذا يحدث لو حسبنا أعمار الشّبان في البحرين بعدد الأحكام التي صدرت ضدّهم، وتلك التي تنتظرهم؟ سيظهر عندها كثير من الأطفال والفتيان في أعمار الأمم والدول الكبرى!

منتظر ميرزا مهدي العجيمي واحد من هؤلاء الفتيان الذين يُقاس عمرهم بأحجام الأمم. منتظر من مواليد العام ١٩٩٦م. حينما تنسّم هواء البحرين؛ كانت الأجواء مليئة بالكرامة التي أشعلتها انتفاضة التسعينات. تشرّب هذا الهواء، وسكن في كل أنحائه، وحينما وُلد – ومعه كل البحرانيين – في ١٤ فبراير ٢٠١١م؛ اشتعل هوى الكرامة من جديد، وكأن الحياة قد لبست رداءها الأخير.

التحم منتظر بالثورة وميادينها، وما بدّل تبديلا. يقول رفاقه بأن فيه إقداما لا يعرف “المستحيل واليأس”. أنْ يكون وحيدا لا يعني أن الأرض ينبغي أن تنام. كان يخرج إلى الميدان ويصنع، بمفرده، الحدث والمبادرة، ومنه كانت تتوقد في نفوس الآخرين العزيمة وتقوى إرادتهم.

وكما هم شبان الثورة وفتيانها، كان منتظر من الطلبة المجدين في الدراسة، وأحرز معدلات عالية، ولكن المطاردة والملاحقة التي كانت بانتظاره لم تمنحه الفرصة لإكمال سنته الأخيرة في المرحلة الثانوية، حيث كان طالبا في مدرسة جدحفص الصناعية. فكيف بدأت سيرة معاناة هذا الفتى الكبير؟

في مطلع العام ٢٠١٣م أُعتقل منتظر من مجمع “الكاونتري مول” المقابل لبلدته، كرانة. الاعتقال لم يدم أكثر من يوم واحد، ولكن الجلادين تعرضوا له بالتعذيب والإهانات. لم يكن ذلك الحدث “غير العادي” الذي حصل ذلك اليوم. كان الاختبار “الأخطر” الذي واجهه منتظر هو العرْض “القاتل” الذي عُرض عليه من قبل أجهزة المخابرات الخليفية، وهو أن يعمل معهم، ويزودهم بالمعلومات عن الشباب الحركيين في بلدته. وجد منتظر نفسه أمام أن يكون “خائنا”، ولأعز النّاس لديه.

 

cbf0db1c-67b2-41ae-86bb-7fd1a6a8caf9
معاناة المطاردة والملاحقة
منذ ذلك الوقت، كان يتلقى اتصالات متكررة من أجهزة المخابرات. لم يجد حيلة غير أن يغير بطاقة الاتصال في كل مرة ليهرب من هذه “المحنة الخطيرة”. هروبه من هذه المحنة، أوقعه في محنة أخرى، ولكنه كان يراها “أقل ضررا”، و”أكثر حلاوة”. اضطر لأن يكون مطاردا بعد حادثة اعتقاله ب ٣ أشهر، وخلال ذلك كان منزله يتعرض للمداهمة كل أسبوع، وفي أوقات مختلفة. مزرعة الوالد، التي كان يذهب إليها منتظر للمساعدة، لم تسلم من هذه المداهمات التي كان ينفذها المرتزقة بطريقة يحرصون فيها على إظهار “أقصى” ما يمكن من الإرعاب والبشاعة، فكانوا يضربون الأبواب بكل قوة، وبشكل يبعث الخوف في نفوس الأهل، ويقتحمون الدار بأحذيتهم النتنة.

مع استمرار المطاردة، كان منتظر يتجرع مزيدا من المرارة والمعاناة. لم يكن يستقر في مكان أو مأوى واحد. كان يفترش منزلا في يوم، وينام في المزرعة في يوم آخر، ويذهب إلى زاوية بمأوى مهجور في أيام أخر. انقطع عن أهله لفترات متباعدة، ولم يكن بمقدوره أن يزور والدته وأهله إلا بعُسرٍ وبفواصل زمنية تصل أحيانا لأشهر ممدودة.

مع استمرار مطاردته، كانت تُنصب ضده عدة كمائن لاعتقاله، وكان ينجو منها بأعجوبة، ومن ذلك أثناء مداهمة القوات لشقة أخته التي توجد في الطابق الثالث بإحدى البنايات. تمكن منتظر من الخروج من الشقة، وتسلق بناية تلو الأخرى، حتى تمكن من الإفلات من المرتزقة بعد أن آوته سيدة بحرانية شريفة.

كان اسمه يُسمع في غُرف التحقيق والتعذيب. المعتلقون من أبناء بلدته كانوا يواجهون أسئلة عنه، وكيف يمكن الوصول إليه، فكانوا ينقلون الوصية من داخل سجنهم بأن يأخذ حذره. لقد بات مهدَّدا بالتصفية. هذه هي العبارة التي يعرفها المطاردون في البحرين، ويدركون جيدا معناها بالنسبة لأجهزة القتل والميليشيات الخليفية.
قصة الاعتقال

اشتاق منتظر إلى بلدته التي ظل بعيدا عنها بسبب المطاردة. في إحدى الأيام ذهب برفقة ٣ من الشبان إلى بلدته كرانة. كانوا يستقلون السيارة وهم يتوجهون إلى منزله للسلام على أهله بعد فراق طويل. لم يعلم أن عيون المخابرات كانت تراقبه وتتعقبه من بعيد. قبل أن يصلوا إلى المنزل، فوجئوا بسيارة تعترض طريقهم في المقدمة بإحدى الأزقة، وسيارة أخرى تغلق الطريق عليهم من الخلف. حاول منتظر الهرب وأخذ بالجري نحو إحدى المزارع، وتسلق سورا من الحديد الهش، ولكن السور وقع به، فانقضت عليه الميليشات الخليفية، ليبدأوا بضربه بكل وحشية، حتى كان صراخه يُسمع في أجواء المنطقة، وظن الناس أن الشاب في طريقه نحو الشهادة. ثم أخذوه إلى مكان مجهول.

في المساء، حضرت فرقة من البحث الجنائي مصحوبة بأعداد كبيرة من القوات الخليفية، وأخذوا بتصوير محيط المنطقة التي تم اعتقال منتظر منها، كما التقطوا صورا للمكان المجاور لمنزله.

انقطعت الأخبار عن منتظر بعد اعتقاله، ولم تكن العائلة تعلم شيئا عن مصيره طيلة الأيام العشرة الأولى من الاعتقال. كانت تصلهم من أحد المعتقلين أخبار بأنه نُقل إلى مستشفى القلعة متأثرا بجراح بعد يومِ واحدٍ من التعذيب الوحشي الذي استخدمت فيه كل أساليب الحقد والتشفي. كانت العائلة قلقة على حياته، وأجرت اتصالات مع المنظمات الحقوقية المحلية، وخاطبت ما تُسمى ب”وحدة التظلمات” التابعة لوزارة الداخلية الخليفية، إلا أن النتيجة كانت دوماً: لا شيء!

عشرة أيام والعائلة لم تكن تعرف عن إبنها غير الخبر الذي وصلها بأنه يرقد في المستشفى. وبعد انقضاء عشرة أيام تلقت العائلة اتصالا منه لمدة ثوان وطلب أن يحضروا له بعض الملابس إلى مبنى التحقيقات الجنائية.
بعد عشرة أيام أخرى من الاتصال الأول، تلقت العائلة اتصالا آخر من منتظر، استغرق بضعة دقائق، وأخبرهم بأنه في سجن الحوض الجاف، وتحدث قليلا مع أهله، وطلب بعض الملابس، وبعد قرابة الشهرين من الاعتقال، تمت أول زيارة في الحوض الجاف، واستغرقت ربع ساعة فقط، ومن وراء حاجز زجاجي.

أخفى منتظر عن أهله آلامه وما تعرض له من التعذيب. إلا أن آثار المعاناة كانت بادية عليه. قال لأهله عبارة واحدة فقط عن حاله: “إذا تعرفون أحدا تواصلوا معه من أجل تخفيف التعذيب عني!”. في الزيارة الأولى قال لأهله وسيلة واحدة من وسائل التعذيب التي تعرض لها، حيث تم رفعه من الأيدي لمدة ١٠ ساعات وهو مقيد ب”الأفكري”، ولم يُسمح له بالذهاب إلى الحمام.
تعذيب وسجن إنفرادي: “سنقتلك يا منتظر”
في الزيارات اللاحقة، روى منتظر بعضا آخر من قصة العذاب. كان الجلادون في التحقيقات الجنائية من جنسيات مختلفة، ويتحدثون بلغات غير محدودة. كانوا يمارسون “طقوسا” معروفة من التعذيب النفسي: السباب والشتائم، والتهديد بهتك العرض (الاعتداء الجنسي)، وإزدراء المذهب وشتم العلماء، وكانوا يواصلون البصق عليه بأسلوب مليء بالاحتقار والإساءة.

بقي في السجن الإنفرادي ٣ أشهر، عشرون يوما في مبنى التحقيقات، المعروف لدى المعتقلين والنشطاء ب”وكر التعذيب” والبقية كانت في سجن الحوض الجاف. تم تعذيبه باستعمال الصعق الكهربائي في أنحاء متفرقة من جسمه، وكانت آثار ذلك تظهر واضحة للأهل أثناء الزيارات. الحرق السجائر، والضرب بمختلف الأدوات، كان مسلسلا يوميا في مكاتب التحقيق. لم يتحمل جسده التعذيب المتواصل في اليوم الأول، فتم نقله إلى المستشفى وبقي هناك أكثر لأكثر من أسبوع، لتتم إعادته من جديد إلى جلادي التحقيقات الذين استقبلوه ب”التصفيق” والتعذيب. كانوا يقولون له: “سنقتلك يا منتظر”، ويعمدون إلى إيهامه بقتله وبطرق مختلفة.

حين شكى إلى وكيل النيابة الخليفية من تعذيبه، قام بطرده، وتم إرجاعه إلى مبنى “التعذيب”، ليُكرَّر المسلسل الوحشي، وبشكل مضاعف.
بقي منتظر ٢٠ يوما في “وكر التعذيب”، ومنذ اعتقاله، وبعدها نُقل إلى سجن الحوض الجاف، وأبقي هناك في السجن الإنفرادي، ليستمر التحقيق معه من أجهزة المخابرات. بعد ٣ أشهر من الإنفرادي والتحقيق القاسي، نُقل إلى السجن العام في الحوض الجاف، حيث تخلص من معاناة مؤلمة عبر عنها لأهله حين نُقل خارج الإنفرادي، وقال لهم: “أشعر الآن بأنني في الشارع”.

4dae022d-315d-48a0-a0ab-0f3bc0fe2ffa
أحكام مفتوحة على المزاعم: أكثر من ١٠٠ سنة
صدرت ضد منتظر حتى الآن أحكام بمجموع مئة ١٠٠ وعامان، وذلك عن ١٠ قضايا مزعومة تشمل: حيازة أسلحة، حرق مدرعة، حرق شرطي، تفجير كرانة (الذي وقع بعد اعتقاله بعشرة أيام)، وتفجير الدراز، واستعمال سلاح شوزن مصنوع محليا. كما أنه ينتظر أحكاما أخرى عن قضايا أخرى تبلغ مجموعها ١٤ تهمة.

لم يكن منتظر إلا في أحسن أحواله وهو يتلقى الأحكام الجائرة. كان يستقبل الحكم تلو الآخر بابتسامة ساخرة، ويعتبرها وكأنها مثل العدم. إنه شعور المفعم بالأمل، والمليء بالفرج المنتظر.

عائلة منتظر، التي نال أفرادها نصيبا من الاعتقال والسجون، تنتظره كل يوم. هو الرابع في ترتيب أفراد الأسرة. بُرُّه بوالديه لازال يلامس جدران المنزل، وهواء المزرعة. تفتقده والدته التي حرّمت على نفسها أكل السمك، الذي كان يفضله ابنها المحبوب. يقضي منتظر وقته في السجن مرتلا أنشودة الصمود، ويمارس تعلقه بمجالس عاشوراء عبر إقامة المجالس الحسينية في السجن والخطابة بين زملائه الأحرار. ترنيمتهم اليومية هي عزة الحسين، وإباء زينب، وشهامة العباس، وبطولة القاسم والأكبر.. وهم واثقون بأن القيود التي تصلي في أيديهم ستنكسر قريبا، وهم في ذلك ينتظرون انتظار الواثق النصرَ الكبير.. والمبين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى