غير مصنفمقالاتمقالات

مزرعتان.. فبأي علامات الغدر والرذيلة تكذّبان

بقلم: نادر المتروك

صحافي وكاتب بحراني

 

البحرين اليوم – (خاص)

 

هي “كلمة أخيرة”، ولكنها كعادتها لا تسيلُ إلا بسموم البداياتِ وسوءات الأولين والآخرين.

تريد أن تقول لنا أنها برضا الحاكم عليها تكون قد ملكت اسْمَنا، وأرضنا، وسماءنا، والحقَّ الحصريّ في الحديث باسم “شعب البحرين”.

هناك مزرعتان على سليلةِ الأدعياء أن تعرف الفرقَ بينهما. مزرعةٌ مرّت عليها في طوْر نشأتها الأولى، حينما كانت تتعبّد كلَّ ما/منْ يمهّد لها ما يُستطاع لأنْ ترقى وترتقي في بلاط صاحبة الجلالة، المسفوحةِ في بلادنا. هي لا تزال تظنّ أن أفاعيلَ المزرعة إيّاها تصلح لأن تكون مادةً لتنشيط الأفاعي، وإطلاق أخبث ما فيها من الفحيح. ليس لديها، وقد خسرت معركتها الأولى، غير أن تستلم المنعطفَ الخاسر لكي تسجّل حضورها، وترفع أقصى ما يمكن من الستار لتكشف عن أقبح العورات. هي تغْفل أنها تفعل ذلك بنفسها، أو هي تجد أن المضيّ في هذا الفعل المشين هو آخر الخيارات “غير الشريفة” للإبقاء على هذا الوطن مثل المزرعةِ الأولى التي درّت عليها الثمار والخيرات. ولكن الذين انْتشوا من تلك المزرعة يعرفون سرّ الحيزبون ويعلمون أنها لا تحفظ خليةً من خلاياها ولا تسدّ يأساً من يأسها؛ إلا بمزيد من التحلّق حول ذكرى المزرعة الأولى والإبقاء على الستارة مفتوحة للراغبين، ولمن شاء المزيد من العبث وغرْس الأيدي في الحرام.

هو جزء من مرض البدايات. لا يتعلق الأمر بالنبش في الفضائح ومناكفة الرأي بأخصّ الخصوصيات. هذا جزء طبيعي من تركيبة الإنسان العصيّ على الإتزان. منْ منّا لم يرتكب حماقة في حياته، صغيرا وكبيرا؟! يمكن أن يُضرَب المرءُ في حسِّه وإحساسه ويُسلَبُ أعزّ ما يملك، ويمكن أن تطال الأيدي منه، خلسةً أو ترغُّباً، ما لا يرغب أن يعرفه الآخرون. مع الوقت، وحين تتلاقى الأيام مع النيام، يكون المرء أمام اختبار أن ينقلب على الضربة الأولى، ويُعاكِس الإحساسَ بالعُقدة الشمطاءِ ولوازمها. إنْ فعلَ ذلك واستوى مع نفسه، وكفّ عن إدارتها وترتيب علاقاتها مع الآخرين بناءاً عن شبكة المجاري المركبة ومعجون المكبوتات الأولى؛ فإنه ينجح في السلامة النفسيّة، ويكون خياره العقلي مقبولاً، أيا كان، ومع منْ كان. ولكن عُقد المزرعة ليس لها حدود.

الذين خرجوا بعشرات الآلاف بالأكفان قبل أيام في شتى ربوع البلاد؛ فكّوا – من غير أن يقصدوا – ضفائرَ أخرى في ماضي صاحبة “الكلمة الأخيرة” غيرَ تلك التي تركتها مستباحةً في قديم الزمان. ذكّرها الجمْعُ غير المسبوق بأهمّ دروس الشرف، لا بمعناه الأخلاقوي، ولا بمدلوله الجنساني أو النسوي. الشرف هنا – في دروس ١٤ فبراير – هو المعنى الكامل للإبقاء على الذات – الفردية والجماعية – حرّةً لا تتذبذب، والمضيّ على هذه الطريق رغم الأسياف والأحلاف، ورغم الأصفاد والأسياد، ولو أُغلقت الدروبُ الظاهرة واشتدّ الظلام في الأنفاق والجسور. وهذا، لعمري، لا يقدر عليه إلا منْ خلُصت نفسُه من شرور اللهث وراء الغنائم، وخلّص عقلَه من لوثة الجنون الذي يحلّ على العيونِ الوقحة حين تلمع أمامها الدنانيرُ والسكاكين.

لقد أشعلت المزرعةُ التي قُتِل فيها هشام الحمادي؛ ذكرياتِ المزرعة التي ظنّت خبيرةُ التجميل والتطبيل أنها حلّت بلا أثرٍ في اللا وعي، أو أن مفعولها غاب في كلّ نسيجها، ودورتها الدموية، حتّى بات من المستحيل على الذاكرة المحكية أن تذكرها وتفسّر بها بعض أفاعيل الأفعى. ليس في مزرعة الحمادي غير حكايةٍ مدفونة في التراب، حتى يحين أوان الانكشاف الكبير. لا حاجة للانتظارِ طويلا لكشْف بعض هذه الحكاية. صاحبة “المزرعة الأولى” تقول هذا البعضَ وهي تكتب نعياً على الضابط القتيل يُشبه تلاوةَ أحكام إعدام جماعي أصدرها قاضٍ لقيط قضى ليلته الأولى في مخدع سيء بمزرعةٍ عاهرة. تريد حمّالة الحطب أن تُشعل النارَ كلّها في أكناف البحرانيين وقد رأتهم يخرجون مدَّ البصرِ بالأكفان وبخالصِ الأكتاف، وهي تتمنّى من الخليجيين أن يعدّوا العدّةَ من جديدٍ لتكرار الفعلة الشنيعة التي بدؤها قبل ست سنوات بحرْق دوار اللؤلؤة واستباحة البيوت والشوارع وإشعال السجون بمخازي القرون الوسطى. هي أمنيةٌ تظنّ، المملوكةُ لآل المزارع، أن كلّ أبناءِ الخليج هم على شاكلةِ الشواذ القلّة الذين لا يعرفون من البحرين غير ملاهي مزرعة هنا أو منتجع في جزيرة مسروقة.

أمّا الغدرُ فتعرفُ هي من أين ينبُت وكيف ارتفعت شجرته الخبيثة حينما داسَ المدعوُّ على “الميثاق” ونكث بـ”كلام الرجال” الذي اتفق عليه صاحبُها مع قادة الناس. الشرفاء الذين تعرف الأكفانُ بياضَهم؛ لا يغدرون. هم يقولون كلامهم في العلن ولا زالوا، وسط الملأ، وقبالة الجزّارين والمجنزرات. الغدرُ يجيده، يا آخر الكتبة، الملثمون الذين يقتلون الناس في الفجر، ويقتحمون المنازل وأهلها نيام ولا يغادرونها إلا بعد اختطاف أحد الأحبّة وتخريب الديار.

حين تتحدّث الأفعى عن قتلة الحمادي، وتهدّد الناس بالقصاص؛ فليس ها هنا عسير على أحد أن يعثر على موطن الغدر ومزرعته الأولى، والأخيرة. أمِنَ الحقّ والعدل أن يُؤخذ الحقُّ والعدلُ من تلك التي لا يهدأ لها جفْن، ولا يسكن لها رمش، إلا حين تؤكّد لها أجهزة القتل، وقبل أن تأوي للفراش، بأن المدرعات لن تغادر المكان، والحرب ما زالت في أوّلها. لا تطرب كاتبة النعي إلا بألحانِ الدماء، ولا ينفع لإقناع عقلها ومحاورة خوْفها أيُّ كلامٍ موزون، أو نقاش يأخذ بالأسباب والنتائج. شاءت هي أن تكون في المزرعة وألا تغادرها، وعليها بعدئذ أن تعيد النظر مرتين، ومرات. فهؤلاء الذين أعجزوا زوّار الفجر ولم ترهبهم كلّ اختراعات القتْل؛ لا يرون الوطن مزرعةً، ولا يرون أنفسهم صبيانا للشيوخ أو بائعات لهوٍ وهوى لجنود آل خليفة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى