عبدالله العكراويمقالاتمقالات

الغسرة.. يا صليب الماء

عبدالله عبدالجليل العكراوي - ناشط إعلامي بحراني
عبدالله عبدالجليل العكراوي – ناشط إعلامي بحراني

اعتقلت بسبب ايوائي لمطلوبين، كان ذلك قبل اندلاع الثورة. هذا أول الكلام منه، وأخذ يشرح ما لحق به. ينطق ببصيرة وذكاء بحراني، ثم غادرتني أخباره، إلا صورته وحديثه فلم يغادرا ذاكرتي، بعدها تلقفني خبر اعتقاله مع خيرة من أبناء “بني جمرة”، كان من بينهم “الجنرال” علي الغانمي، أوجعني الخبر، هؤلاء أخلص المناضلين، وأكثرهم إيمانا بالثورة.

لم تمض أيام، حتى سمعت اسمي ضمن مجموعة سجناء “سجن أسري” الذين سيتم أخذهم للعيادة، أخذتنا حافلة الشرطة لعيادة سجن “الحوض الجاف”، في باحة السجن رأيته شامخاً يلوح بيده، لم يتغير فيه شيء، قلبه في المكان نفسه، وبصره ينفذ إلى الداخل، كأنما له عادة قراءة الأرواح، شيء ما كان يربطني بهذا البحراني الأسطورة، شيء ما لم أكن أعرفه حينها.

بقي رضا ستة أشهر انفرادي في معتقل (السرداب)، ذلك قبل اندلاع ثورة 14 فبراير، ذاق جسده كراهية وحقد الغزاة ومجنسي النظام، بعدها خرج العشريني للحياة، افرج عنه مع “الرموز”، خرج أكثر صلابة وشموخا، اتضح له الطريق، ووضحت له ملامح المشروع، فالطريق هو الصعود، والمشروع هي الشهادة.

سائق الشاحنة ترك شاحنته لينزل مقام المقاومين،،
“لا أملك إلا هذه الماشية. فأجابه السيد موسى الصدر: بع فراشك وماشيتك، واشتر سلاحاً”. وهذا الجمري لا يملك إلا شاحنته، التي يفتح بها نافذة الله على رزق الفقراء، في أول منعطف باعها، واشترى بها ما يدفع به عن وطن أنهكه القمع والاستبداد، سائق الشاحنة لم يكن إلا رضا الغسرة، الذي اشتعل كشهاب سريع، وغادر ككل أفراحنا التي لم تأت بعد.

حاول الغزاة ترسيخ عدم امكانية دخول أو خروج شيء من هذه الجزيرة (البحرين)، المسيّجة بالماء وبعيون أنظمة الدولة، لكن الغسرة مرغ أنف الدولة، وضع قلبه في كفه، ومضى ككل الأحلام التي نهضت مع حراك الرابع عشر من فبراير 2011، عيد الؤلؤة المصادف لعيد الحب.

تلميذ الإمام الذي وضع روحه في البندقية وسدد طلقته،،
الغسرة هذا الرجل الاستثنائي في الزمن الاستثنائي، اذ كانت مقولة السيد الإمام الخميني ( قدس ) تلامس روحه: “على الشعوب انقاذ انفسهم بانفسهم”، اعتقلته انظمة الدولة، مرغ أنف سجانه وهرب، ثم اعتقل وعذب، فمرغ أنف سجانه أيضاً، أربع محاولات هروب، نجحت منها ثلاث، فلا يعرف طائر قلبه إلا الحرية، وروحه تأخذه إلى الطريق الذي رسمه، والمشروع الذي سحبه إليه.

مثله هربت من السجن وركبت البحر، وحين استقريت في الغربة، استرددت التواصل معه، وفي إحدى اليالي سمعت بحصار أمني مشدد على “بني جمرة”، حاولت الاتصال به عدة مرات، لم يحالفني الحظ، اعتصر الخوف قلبي، خصوصا بعد أن أنتشر خبر اصابته بطلق ناري، وآخر أصاب صاحبه عقيل عبدالمحسن، حيث نهش رصاص “الشوزن” وجهه، لكن رضا أبلغني بعد أيام أنه نجى بأعجوبة من كمين، عملية تهدف إلى تصفيته، أشرف عليها نقيب أمن الدولة “يوسف المناعي”، لتصفية ثأر بينه وبين رضا، وبهدوء قلبه أخرج الرصاصة من جسده، وأنتظر الموت الذي أخطأه.

سائق الشاحنة، نزل من حافلته وصعد البحر،،
لماذا البحر؟ ربما لأنه أدرك أن الناس شبّه لهم أن عيسى صُلب على اليابسة،، ودوره أن يكون “صليب الماء”، لم يدقوا المسامير في باطن كفه، بل فتحوا بالرصاص نوافذ في جسده، كانت روحه الطاهرة أكبر من جسده، فتسللت من ثقوب الرصاص الكثيرة، لم يرض أن يموت، ولم تكن تكفيه رصاصة واحدة، كان أكبر من الموت، وكثير على الحياة، باستشهاده قطع مشوارا كبيرا من التأصيل لمنهج المقاومة، حتى الذين رفضوا خياره جعلهم يفتخرون ويعتزون بشهادته، تحول إلى نموذج ومثال، أيقونة سنروي أسطورتها إلى أبنائنا، سنقول لهم أن رجلا أسمه رضا الغسرة، “من أشرف الرجال” وأنبلهم، صعد من الماء بثياب شهادته، مباركا مباركا، لحق بركب الأنبياء، لذلك سنعلّق صوره في كل بيت وشارع وصدر، هنا عرفت ما يكان يربطني به، لم يكن الهروب من السجن، أو المغادرة عن طريق البحر، ولا حتى طيبة البحراني فيه، كان يربطني به خيط رفيع أبيض من الأمل.

سلام لأبناء الغسرة حيثما ولدوا وعاشوا واستشهدوا، سلام عليكم مناضلين، معتقلين، مهجّرين ومستشهدين، وسلام لأمهاتكم الزينبيات، الآتي وقفن أمام أجساد فلذات أكبادهن ليقلن: ما رأيت إلا جميلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى