ما وراء الخبر

ولاية جهاز الأمن الوطني: الشيخ مجيد العصفور و”حصان طروادة” الجديد

البحرين اليوم – (متابعات)

“أن أموت في السجن أهون من الخروج منه بهذه الطريقة”

المعتقل المُصاب بالسرطان إلياس الملا

الحرص على تخليص الناس من معاناتهم لا يعني بالضرورة أن هناك روحا بيضاء تلوح في الأفق. هل من الصعب الاتفاق على هذه الحقيقة؟ جزءٌ من الإزدراء الهابط الذي يمارسه “المحنّطون بالعبودية” هو أن يُكرِّروا على الناس أنّ عليهم الكفّ عن إلحاق الإضرار العابث بأنفسهم، وأن يمطروا عليهم وصايا وتعليمات حول ضرورة انتزاع الآلام من الأنفس والعقول، وأن يقبلوا بالأمر الواقع الذي يمكن إجراء تحسينات عليه بشكل متدرج وعقلاني وهاديء! ولكن من غير تفاصيل، أو ضمانات، ولكن فقط كلام مكرور، ومعجون بالهراء الذي يتذكره الناسُ جيداً في وجوه أولئك الذين وعدوهم بأحلى الأيام، ثم فتحوا لهم المقابر، المعلومة والمجهولة! إنه تكريز* للّحاق بالقويّ، مصدرِ العطايا، ولو كان شيطاناً أو راعياً حصريّاً للقتل الوحشي والغادر.

  • تكريز: هو وصف للعمل التبشيري، ويستعمَل في وصف الترويج الديني (المسيحي).

ما يفعله أحد الكتّاب المروِّجين للعبودية من خارج البحرين، مثلاً، لا يختلف عن الاستعلاء العنيف الذي يمارسه الجلاّد حينما يضع الضحيةَ بين خيار أن تعتزل النشاط المعارض، وبين أن تُحْرَق سيارتها وتُختطَف آخر الليل من منزلها بقبضة ملثمين مسلحين. والأمر ذاته مع رجل الأعمال “غير الناجح” الذي يريد أن يُجرِّب حظوظه في السياسة، ولو من خلال التشبّه بحصان طروادة المتبوع لجهاز الأمن الوطني، سيء الذكر، ليس لسببٍ سوى أن يُثبت للجميع أن فشله السيايسيّ السابق، وعدم نجاحه التجاري اليوم، وخلّوه من مواصفات “الاستعمال الكامل” التي يشترطها النظام في مجنّديه المحترفين؛ لن يُجبره على الركون إلى آخر المقاعد وأن يندب حاله مثل الثكالى. لا بأس، بالنسبة للفاشل دوماً، أن يجرِّب كلَّ شيء، وأن ينسى كلّ شيء أيضاً. المهم أن يُرضى الضريرَ القابع بداخله. من العسير الحصول على ضمير حيّ أو غير حيّ هنا!

635556657759982338

ولكن ماذا حين يكون الأمر أكثر تعقيداً، وأشدّ التباساً وتلبّساً، مثل حال الشيخ مجيد العصفور؟

يُحاط بـ”النائب” مجيد العصفور امتدادٌ نظيف وشريف من العائلة الكريمة. فهناك شهداء، وآباء شهداء، وهناك معتقلون ومعتقلات، وهناك تاريخ يُجلّل هذا اللّقب اللامع في سماء البحرين. إلا أنّ ذلك ليس سبباً لأن يكون المرء محميّاً من المساءلة، أو مصاناً من الخطيئة وارتكاب الدّنس، ولاسيما وأن الشيخ العصفور لم يكتفِ بأن يُمارس “حرّيته” في خدمة السلطان الجائر، بل زادَ على ذلك بأن مارسَ ذات اللعبة الجوّانية التي يلجأ إليها عادةً “المحنّطُ بالعبودية” رغبةً في أن يُخفّف عن نفسه وطأة الانحناء المتكرِّر في حضرة الجائر وسافك الدّماء المحرَّمة. فماذا فعل؟ تحوّلَ إلى ساعٍ من أجل معالجة مشاكل الناس، ووفق اختيارات محدَّدة، وفي أجواء تُشبه المقايضة أو انتزاع شيءٍ عزيزٍ – مثل الكرامة – بعنادٍ متكرر ومن غير حقّ.. البتة.

يجولُ الشيخ مجيد العصفور على بعض عوائل المعتقلين ليقول لهم إنّ رسالةً واحدة إلى “الديوان الملكي” يمكن أن تضع حدّاً لهذه المعاناة التي لا طائل منها. يتصل ببعض الأمهات، ويُرسل إليهن آخرين – من ذوي النوايا الحسنة – لكي يقبلن بهذا الخيار الذي لا خيار غيره. الاتصالات التي يُجريها العصفور، ومنْ يدفعهم لذلك، تُوهم الأهالي بأنه من غير الصالح العزوف عن الإقدام على أية خطوة من شأنها أن تُنهي المعاناةَ عن الأبناء والبنات في السجون. يُصوَّر هؤلاء لأهالي المعتقلين أنّ العزوفَ هنا هو جريمة بحقّ أبنائهم الذين يذوبون داخل الزنازن.

ربّما نجحَ الشيخ العصفور في دفْع بعض العوائل للّجوء إلى هذه السبيل الملغومة. وهو اضطرار تندفع إليه بعض العوائل تحت ضغوط لا يعلمها إلا الله، وبعض هذه العوائل قدّم من التضحيات ما لا يمكن أن يكون موضعاً للمزايدة عليه. ولكن المَلامة، والحذر الشديد، لابدّ أن يُوجَّه إلى الأهداف البعيدة المدى لما يتم التخطيط له، والتي يمثّل الشيخ العصفور، وآخرون، أدوات متفرّقة لتنفيذها، بعلم من بعضهم، وبغفلةٍ من البعض الآخر.

العقل المخابراتي الحاكم اليوم يعمل على استراتيجية موجَّهة قائمة على: (توسيع الشقوق والثغرات، وخلْق التباعُد والمسافات)، وإغراق المجتمع الحاضن للمعارضة بكلّ هذه الأشواك ودفْع الأفراد والجماعات للاشتباك بداخلها، حتى تخور القوى وتُزْهَق الأرواح بأيدي أهلها. هذه السياسة العريضة يجري تطبيقها في أكثر من ملف وقضيةٍ في البلاد، من أعلاها إلى أدناها. يحصل ذلك في أسلوب التعاطي مع الشيخ عيسى قاسم، الذي يُراد أن يكون الحصار المفروض عليه وسيلةً لعزله التدريجي عن الذهن العام، وبالتالي الاستفراد به بالمطلق في الوقت المناسب. ويُلحظ ذلك أيضاً في الأساليب المتبعة في قوانين إشارات المرور، وآلية توزيع الحواجز وكمائن التفتيش، ومحتويات الأخبار والمقالات المنشورة في الإعلام الرسمي. هناك جهد مُضني من أجل إقامة جدران بين المواطنين ونزْع التواصل الروحي والمادي بينهم، لكي ينسلّ البعض عن الآخر وينساه، ليزيد النظام المخابراتي – بما لديه إغراء وإرهاب – محاصرة الجميع بالشقوق والشكوك المتبادلة.

ليس لدى الشيخ العصفور غير طلب واحد من أهالي المعتقلين: اصمتوا، لا تتحدثوا إلى منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام، وأرفقوا ذلك برسالة “أبوية” إلى حمد عيسى. ليأتي دوره، ويُحرِّك الأمور من أجل خلاص المعتقلين. وجد العصفور من يساعده في هذه المهمة، وبعضهم من عائلة أقدم معتقل سياسيّ محكوم بالمؤبد في البحرين. وبحسب المعلومات، فإن هذا التحرُّك توجّه ناحية عائلة أحد المعتقلين الشّبان الذي تدهورت حالته النفسيّة بسبب العذاب داخل السجن وتم الإفراج عنه بعد أن بلغ وضعه درجة متقدّمة من الخطورة. في حين يجري الضغط باتجاه عائلة المعتقل المُصاب بالسرطان إلياس الملا، وقد وجد العصفور ممانعة شديدة من إلياس وعائلته، حيث أكّد إلياس بأنه لا يمكن أن يسقط في هذا المستنقع بعد كلّ هذه المعاناة.

التحرُّك الطرْوادي من خلال ملف المعتقلين، هو موازٍ لطرواديّات أولئك الذين يجّهزون أوراقهم وحقائبهم الملوثة لخوض انتخابات ٢٠١٨م، بعد أن يعطي جهاز الأمن الوطني الضوء الأخضر للبدء في المرحلة التالية من مشروع الانقضاض على مجتمع الثورة. والمؤشرات القائمة توحي بأن الخطوات نحو هذا الأمر آخذة في التوسّع، ولاسيما بعد الإقدام على خطوة الاستهداف المفتوح لكلّ النشطاء والمعارضين والمدونين، وإغلاق جمعيتي (الوفاق) و(وعد)، وإخراس صحيفة (الوسط)، فضلا عن محاصرة الشيخ قاسم وقطع التواصل عنه بالكامل. وهو ما يمهّد الأجواء للمتسلقين وخدمة المخطط الأمنيّ للتحرُّك العلني، وأن يكونوا بدلاء للمعارضة، من غير أن يشعروا بضغوط أو مواقف معارضة من الشخصيات السياسية أو الدينية أو الإعلام الحر، كما أنهم سيكونون قادرين – مع خلوّ الساحة من النشطاء – على ارتداء الأقنعة المتاحة، وتمثيل الأدوار الغائبة، بما في ذلك دور “المعارض” الحريص على تخليص الناس من معاناة طويلة ومُرَّة، ولن يتأخر النظام في توفير المساعدات والحاضنات المناسبة لهم.

الخطورة الجدية التي يمثلها تحرُّك الشيخ العصفور، ومنْ معه ووراءه؛ يمكن لمسها من جدية التعذيب الذي يطبع أجسادَ الناشطين والناشطات في غرف التحقيق. والأخطر في الأمر هو رضوخ سياسيين معارضين لأوامر الخروج من دائرة الحدث، والاستسلام للتهديدات، وتالياً إخلاء الساحة لرجال ونساء مشروع الجهاز الأمني المرتقب. ولعلّ الصوت غير الخافت الذي يصّر الشارعُ الشعبي والثوري على المحافظة عليه؛ هو حائط الصدّ الوحيد المتبقّي في مواجهة هذا المشروع، ولكن المعركة التي يجري التحضير لها تتطلب أصواتا أخرى، ولاسيما الأصوات السياسيّة المعارضة التي لن يخيب الظنّ – لدى كثيرين على الأقل – في أنْ تكسر الصمت في اللحظة الأخيرة، وأن تمزّق أوراق الابتزاز التي يلوّح بها الجلادون وترميها في الهواء، وتقول كلمتها الحرّة في الملأ.

أمّا أهالي المعتقلين، الصابرون المحتسبون، فإنهم يعرفون كيف يتصرفّون أمام التحدي القائم. والتصرّف الكريم والحُرّ لن يكون مختلفاً عن الرد الذي قاله إلياس الملا بعد أن عُرض عليه الخروج بطريقة الشيخ العصفور، حيث قال الحُرَّ الذي لن يهزمه القيد ولا المرض: “ماذا؟ أنا أهون عندي أن أموت داخل السجن، ولا أخرج منه على يد هذه الوجوه. وبعد كلّ هذا الذي حصل لي! مستحيل”. نعم.. مستحيل!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى