مقالاتنادر المتروك

زفرات جو.. في ذكرى الشهيد حسن طاهر السميع

 

البحرين اليوم (خاص)

بقلم: نادر المتروك

صحافي وكاتب بحراني

في الأيام الأخيرة لإعداد كتاب زفرات سجن جو المركزي، أخبرني الصّديق علي مشيمع بأنّ حدثاً مؤسفاً وقعَ ذلك اليوم، وسألني بحزنٍ عميق ما إذا كنتُ قد سمعتُ به. كنتُ مستغرقاً حينها في تحرير الإفادة الصّوتيّة للشهيد رضا الغسرة، وكان الشّهيد في تلك الأيّام قابَ قوسين أو أدنى من مغادرة البلاد وتخطّي الحواجز الأمنية المنصوبة في البحر والجو بعد أن اجتاز حواجز البرّ، وبعد أن فعلها للمرة الجديدةِ وكسَر قيود السّجن، إلا أنّ خبر استشهاده كان مفجعاً بالنسبة لي وللزّملاء، وعلى نحوٍ جعلني أُصابُ ربّما للمرّة الأولى منذ زمنِ اندلاعِ الثّورة بالانكسار. كان انكساراً يُشبه تكسُّر الضّلوع، أو انحناءَ القَدم والتواءها وهي على وشك الوثبة للضّفة الأخرى. ولكن كان عليّ تمرير الوجع، أو تجميعه في تجويفٍ آخر من القلب، والعجلة في إتمام الكتاب، وبهمّة الجنود المجهولين: من النّشطاء، والسّجناء، والشّهداء.

في تلك اللّحظة الدّاكنة.. ثمّة شيءٌ من الشّباك الخلفي أطلّ عليّ، شيءٌ أفسِّره دوماً بطيْفِ الملاكِ الحارس الذي راهنتُ عليه، ورهنتُ نفسي له، منذ جرّبتُ ذلك للمرّة الأولى قبل سنين. ملاكُ الشهيد حسن طاهر السّميع. كان الشّهيد حاضراً، ليس من خلال قريبه الأقرب إلى الأنفس العزيزة، الشّهيد عباس السّميع، ولكن أيضاً بسببٍ شرايين الوجع التي تدفّقت عندي لحظة سماع خبر استشهاد حسن طاهر في مثل هذه الأيام من العام ١٩٩٦م، وكيف أدْمعَ الخبرُ المئات من الطلبة والطالبات في جامعة البحرين، الذين توافدوا على مقرّ جمعية التربية التي كان يرأسها الشّهيد وفي بهو كلية الآداب حيث منطلق تظاهرات الطلبة – ليمسحوا على قلوب بعضهم البعض، ويتلوا آياتٍ من القرآن على روحه.

كان الشهيد حسن مؤمناً بخيار المقاومة، واجتهدَ مع رفاقٍ له على تثبيت هذا الخيار، وبوسائلَ لا تختلف كثيراً عن تلك التي جسّدها المؤمنون بهذا الخيار في ثورة ١٤ فبراير. لم يكن إيمان الشهيد حسن منفصلاً عن رؤيته للواقع السياسيّ، وكان يُدرك تعقيدات الوضع الداخلي في تلك الفترة، ولكنه كان حريصاً في الوقت نفسه على “حسْم” الخيارات، وعدم الدخول في جدال “الأضرار المحتملة” أو “العوائق الممكنة”، أو حتّى “المخاطر المتوقّعة” و”التضحيات الجسيمة”، وسعى مع رفاقه لتوفير البيئة الملائمة، و”الغطاء” المناسب للخيار الذي كان آنذاك استثنائياً، ومحدوداً في مجموعاتٍ غير مفتوحة على بعضها. كان الشهيد حاسماً في الشّكل، وفي المضمون، ولم يكن ليُوقفه أيّ شيءٍ عن الإقدام إلى الأمام، وبخطىً واثقة بصواب الاختيار وأثر النتيجة، ولو بعد حين.

أحبَّ الشهيدُ حسن وطنَه البحرين. في الاحتفالات الإلزاميّة التي كانت تفرضها إدارةُ الجامعة على الجمعيات الطلابيّة بمناسبة “العيد الوطني”؛ رفعَت جمعيةُ التربية لافتةً على سور الطابق الأول في كلية الآداب، المواجِه تماما للبوابة الرئيسيّة، وكُتبت عليها عبارةُ “أحبّك يا وطني”، وجرت من حروفها قطراتٌ انسلّت من بقع العلم الأحمر، وكأنها دماءُ شهداء الوطن. كان “شهداء التسعينات أولى بالاحتفاء”، كما قال الشّهيد حسن. أكثرُ صورته مرسومةٌ في ملامح الشّهيد عباس، وكلّه حاضرٌ في تفاصيل ذلك الصّوت الذي خرقَ جدران السّجن. من النادرِ أن يتناسل الحبُّ على هذا المدى، وفي هذا الامتداد الفائض بالشهادة. ولكنّها الوشائج غير المرئية للأحداثِ الكبرى التي لا نعرفُ عنها وقت انطلاقها أكثرَ من كونها “شرارة”، ومن غير علمٍ واضح بمدّها وجزْرها.

حين تحدّث النّاسُ عن “الميثاق” في العام ٢٠٠٠م، قرّر رفاقُ الشّهيد حسن أن يسجّلوا موقفهم الخاص. نشروا لأوّل مرةٍ وصيةَ الشهيد في كتيّب خاص، وحمل عنوان “نعم.. ولا”، ووضعوا دماءَ الشهيد، وبقية الشهداء، فاصلاً وفاصلةً في خيارات الموافقة بـ”نعم” للميثاق، وأكّد الكُتيّب أنّ الجزّار الذي قتلَ الشهداء غير جدير بالثقة، مها كان قناعه سميكاً، وأنّ الرّضا بقادة الانتفاضة وتسجيل الإيجاب لخياراتهم؛ سيكون متبوعاً بـ”لا” قائمةٍ ومؤجَّلةٍ، وإلى حين يتفجّر الدّمُ من جديدٍ “وإلى الرُّكب”، كما قال أحدُ القائمين على الإصدار المذكور. وقد سالَ الدُّم وتفجّر بما يفوق ما مضى، وأثبت الجزّارُ أنّه وفيٌّ لطبعه الشّرير، ولطعم القَتْل الذي يُلازِم كلَّ أنحائه وأنفاسه السّامة. وقد اكتمل المشهدُ بشهادة عباس، واتّصلت الفاصلةُ بالفاصلة، والخيارُ بالخيار، وبرابطٍ لابدّ أن يقرأه الناسُ من خارطةٍ تمتدّ من زئير الشهيد الشيخ نمر النمر، إلى أزيز الشهيد رضا الغسرة. هي حكايةٌ لا يُعْدَم الخلافُ على قبولها، والامتثال بها، ولكنّ أحداً من أهل الأرض لا يمكن إلا أن يشعرَ بالأُنس لهذه الحكاية، وإلى أن يتغيّر الحالُ إلى التأسّي بها، رويداً رويدا.

“زفرات” جوْ ليست وقتاً للاستمتاع في أوقات الهروب من الواقع، أو دعوةً لسْكب الدّموع أو للمجادلة في حقيقة “الحدث” الذي ولّد أحداث ١٠ مارس ٢٠١٥م.. هي شيءٌ آخر، ولأشياءَ أُخر..

هناك تمرُّد ومعاناة. طغيانٌ لا حدود له، سبقته رغبةٌ عارمة في الخلاص وإدْماء اليأس. هي ليست روايةً للتسلية، وليست إفاداتٍ تطلبُ النُّصرةَ من منظمات الحقوق، ولكنها “زفرات” لازال يُطلقها السّجناء.. من جوْ وغير جوْ.. وبشهيقٍ من السجناء الشهداء.   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى