ما وراء الخبر

مفاتيح الدكتور سعيد الشهابي في قراءة ما بعد ٣٠٠ يوم من الاعتصام المفتوح في الدراز

 

البحرين اليوممتابعات

يؤكد القيادي في المعارضة البحرانية، الدكتور سعيد الشهابي، بأن “الالتفاف” على ثورة البحرين لم يتوقف أو “يركد” طيلة سنوات انطلاقها الستّ. وهو اليوم يرى بأن هناك منْ “يخطط للالتفاف على الثورة، والبحث عن (حلول)” على قاعدةٍ “تحفظ الوجودَ الخليفي المجرم”، وهو أمرٌ – بالنسبة للشهابي والتيار الذي يمثله – ليس مقبولا به البتة، وهو يساوي الهزيمة المُنكرة و”خيانة دماء الشهداء” قاطبة.

يتحدّث الشهابي عن “مخططات” جديدة للالتفاف على الإنجاز الشعبي، وهذه المرة “بدعوى الحفاظ على الشيخ عيسى قاسم والشيعة”. إلا أن الزعيم التاريخي لحركة أحرار البحرين؛ لا يتردد في التحذير “المباشر” و”المشدَّد” من أمثال هذه الخطوات وأصحابها، ويدعو الناس إلى “صفْع” أولئك الذين يحاولون، كما يرى، “تكريسَ الاحتلال الخليفي والسعودي”.

يؤسّس الشهابي رؤيته هذه بناءا على خبرةٍ طويلة في دهاليز الوضع السياسي في البحرين وخارجها، وبالاستفادة من تجربةٍ “عالمية” في الحركة الإسلامية في الغرب، والتي كان أحد نشطائها وقادتها. يُدرك صاحبُ “لكي لا ننتحر مرتين”، أن الحاكم الخليفي حمد عيسى بلغ أوْج “القمع والإجرام”، ويُشدّد – على الدوام – على أن الجرائم التي ارتكبها الخليفيون قطعت “كل شعرة مع الشعب”، وهو معنىً كان يجده الشهابي شاخصاً في “عيون ولسان” حمد بعد أن التقى به شخصياً مرتين بعد العام ٢٠٠١م، رغم القناع السّميك الذي تغطّى به آنذاك ولبضع سنين، ولكنه (أي حمد) سرعان ما نزعه وأعاد السيرة المعهودة لوارِث “ثقافة الغزو والسّبي والاستلاب”، كما يرويها الشهابي كتابه “البحرين: قراءة في الوثائق البريطانية”.

سعيد الشهابي

التحذير الجديد الذي يطلقه أمينُ عام حركة أحرار البحرين يأتي بعد مضي أكثر من ٣٠٠ يوم من الاعتصام المفتوح في بلدة الدراز المُحاصَرة عسكرياً منذ شهر يونيو من العام الماضي. ويستطلع الشهابي الخارطة العامة لما قبل الاعتصام وما بعده، ويوجّه نقده الحاسم للذين يروّجون لإعادة “التواصل” و”الحلول” مع النظام، مذكّراً إياهم بأنهم “لاذوا بالصمت حين قطع الخليفيون أشلاءَ البحرانيين، ولم يحضروا يوما منزل الشيخ قاسم للدفاع عنه”، خالصاً إلى أنّ هؤلاء “ليس من حقهم الظهور فجأةً كمنقذين” وقذ خذلوا المواطنين في ثورتهم، وانكبّوا على مخادعهم حين تم استهداف الرمز الديني والوطني الأكبر في البلاد. ولكي يقطع الطريقَ عليهم؛ يضع الشهابي مفهومه غير المهادِن في توصيف هؤلاء، ويقول بأنه “حين يتكلم أحد عن حلول تحفظ الاحتلال الخليفي وهيمنته على الشعب؛ فإنه مدعوم من الديكتاتور وعصابته وداعميهم”، مؤكداً على نزْع الحياد عنهم، والقول بأنهم ينتمون إلى الطرف الخليفي، لا محالة في ذلك ولا شكّ.

بعض اللاعبين في السياسة، وخاصة من الجيل الذي ظهر في العلن بعد العام ٢٠٠١م، يُفضّل أن يُعانِد طروحات الشهابي المعروفة، وعادةً ما يستعمل هؤلاء الباقةَ المحفوظة حول “الحوار” و”التفاوض الجاد مع النظام” و”الشراكة” معه رداً على كلّ طرح “تفاصليّ” يدعو إليه الشهابي ضد النظام، كما يستند الناقدون أو الناقمون على ملاماتٍ – وأحيانا “طعونٍ” – تُوجه إلى التيار “الممانع” أو “الثوري”، والقول بأن رموز هذا التيار “لا يُجيدون السياسة”، أو قراءة “الواقع القائم” و”الظرف الإقليمي”. وفضلا عن أنّ هذه المحاجَجة تبدو من “الكلام المكرور”، وبالتالي فليس فيه رائحة من براعة السياسة وإجادة قراء معطيات الواقع المتغيّرة؛ فإنه أيضا لا يُقدِّم إجابات صُلبة حول الأسئلة الأساسية التي يطرحها خطاب الشهابي مثلاً، وخاصة فيما يتعلق بالطرق التي يُتاح فيها إمكانُ تجسير العلاقة مع نظامٍ تجاوز كلّ الخطوط الحمراء، وانتهكَ كلّ الممنوعات والمحرمات، وفي ظلّ الموقف الشعبي الذي اختار إسقاط هذا النظام، والعمل على إقامة نظام سياسيّ آخر، وعلى قاعدة الحقّ في تقرير المصير.

قد لا يجد سياسيون شباب وناشطون من الجيل الجديد (لا يجدون) أيةَ حماسة للاستماع إلى الشهابي وصحبه، أو للإقرار برمزيته التاريخية التي قد تكون غير متكرَّرة في مجالها. إلا أنّ إصرار هذا الرّجل على رفْع “عصاه” – التي يتكيء عليها أحياناً بسبب عبء تقدّم السّن – في وجه “المرجفين”، ليس هوايةً ثورية أو إبلاغاً من غير بيان أو سبب. ففي كلّ مرة يتورط فيها الخليفيون وينتهون إلى مواجهةٍ فاشلة مع الناس وقياداتهم؛ فإنهم يجدون أنفسهم غير قادرين على الذهاب إلى الأمام أكثر، ويضطرون بعدها للبحث عن أولئك الذين يتولّون – باندفاعٍ مدفوع أو بمبادرةٍ مسكونة فيهم على الدوام – مهامَ الإيهام بالمصالحات “المؤلمة” وضروراتها للجميع. هؤلاء، وعدا عن دور التطبيع تارة والتلميع تارة أخرى، ليس لديهم ما يقولونه للناس الذين يتساءلون بصدقٍ عمّا إذا كان الخليفيون بدورهم لديهم “صلاحيّة ذاتية” لكي يتصالحوا مع الناس، كما أن أحدا من أولئك غير قادر على أن يُجيب الناس عن كيفية إعادة “تصحيح الوضع” بعد هذه القوائم المملوءة بالانتهاكات والجرائم، وبما يعجز الزمانُ أن يمحو أثرَه من حياة البحرانيين ومن ذاكرتهم.

مبادرة إنقاذ النظام.. وإهانة الشيخ قاسم

C9XZ1KgUwAIpl_j

هذا العجز هو ما يُفسِّر سرعة اختفاء هؤلاء حينما يفشل الخليفيون في إخفاء أنيابهم مدّةً طويلة، أو حينما يرون أن هذه الأنياب ينبغي أن تحكّ الأرضَ، للمرة ما قبل الأخيرة، قبل أن تُخْرِِج منها الأيدي المرتعشة ما يعتقد آل خليفة بأنه “صكّ الولاء الإجباري” لهم. هكذا يبدو الأمر مع انطفاء أضواء سباقات الفورملا واحد، وانقضاء أكثر من ٣٠٠ يوم على اعتصام الدراز، في الوقت الذي يُرادُ أن يكون مخطّط القمع الجديد الذي يُعدُّ له؛ ممدوداً برغبة النظام في إنهاء “ملف الشيخ قاسم”، ومن بوابة الدّفع مرة أخرى بـ”الأبواق المحسوبة على السلطة للترويج لمبادرة حل لملف الشيخ عيسى قاسم”، وفق تعبير أحد النشطاء الذي تحدّث إلى (البحرين اليوم) عن معلوماتٍ تشير إلى أن “بعض الشخصيات بدأت تلعب دورا ضاغطاً لإقناع الشيخ قاسم بالتنازل، والقبول بالمخارج الخليفية، بحجة حفظ هيبة الشيخ، والحفاظ على كيان الطائفة”.

المصادر التي ينقل عنها الناشط تؤكد أن الشيخ قاسم لم يُبد تجاوباً مع الطرح العام لهذه المبادرة، كما أنه بدا “رافضاً لأي اعتراف ضمني أو شكلي بالمحاكم الخليفية”، فضلا عن إصراره على موقفه الرافض للقبول بالمحاولات التي تحدثت فيما مضى عن “خروج آمن” له من البحرين، ونُقِل عنه بأنه لن يقبل “مغادرة البحرين طواعيةً”.

ويوضّح بعض العارفين بتاريخ الشيخ قاسم وبـ”طبعه الخاص”؛ بأنه من المستبعَد أن يجد “المروّجون لمثل هذه المبادرات منفذاً لإقناع الشيخ بها”، مشيرين إلى أن “ثقافة الشيخ ونفسيته لا تتلاءم مع الأجواء التي يمثلها أصحابُ هذه المبادرات، إضافة إلى أن شخصيته ليست من الصّنف الذي يمكن أن يقدِّم تنازلاً مكشوفاً، ولاسيما بعد تسجيله لمواقف مفصلية في مواجهة النظام وظلمه”.

إلا أن ثمّة أمراً آخر يرجِّح ألا يجد المروجون بسببه طريقاً إلى دارة الشيخ قاسم. فهذه الطريق باتت معبّأة بنضالات وتضحيات يسجلها الناس منذ أكثر من ٣٠٠ يوم. ومن المستبعَد بالقطع، أخلاقيا ودينيا، أن يفعل أبو سامي شيئاً يمسّ البناءَ التضحوي الذي يشيّده المعتصمون على مرأى منه في “ساحة الفداء”، وهو لن ينسى كيف أبى الناس أن يتركوه وحيداً وقد خرج إلى المحتشدين حول منزله، يوم إعلان إسقاط الجنسية عنه في يونيو من العام الماضي، طالباً منهم ما طلبه الإمام الحسين بن علي من أصحابه ليلة العاشر من محرم الحرام. لقد كان ذلك اليوم تأسيساً لانعطافٍ جديد في النضال.. اختصره هذا الاعتصامُ الذي لم يُضعفه صمتُ العالم، وما أخفاه حصارُ شامل من الجُند والآليات العسكرية، وما أخافه هجومُ الملثمين المسلحين والحروبُ النفسيّة غير المنقطعة.

اعتصام الدراز.. واعتزاز الشيخ 

C9jgH_PXYAARcB_

على خلاف ما كان يتوقّع النظام؛ قطع المعتصمون في بلدة الدراز أكثر من ٣٠٠ يوم من المرابطة بجوار منزل الشيخ قاسم؛ من غير أن يكسب (النظام) أي نقاط حقيقية لصالحه. وبحساب المبارزة، فإنّ خسارة كبيرة لحقت بآل خليفة خلال الأشهر الماضية، لجهة العجز الواضح في إنجاز الضربة الأخيرة، ووجدوا أنفسهم مضطرين لإفراغ كلّ مخزون القمع والابتزاز، ولكن من غير أن يحصدوا النتيجة المرجوة. ولكن ماذا بعد هذه المئات من أيام الصمود في الدراز؟

على المستوى الشعبي، قدّم الناس نموذجهم الحقيقي والمشهود على “فعْل” الثّبات وتجسيده، وفي تحويل الحصار والحرب النفسية والهجوم المسلح.. إلى عوامل غير متوقعة في ممارسة الصمود وابتكار فنونه المتعددة، بما في ذلك “فنون” التضحية بالنفس. كانت هناك خشية أن يكون الاعتصام ردة فعل مؤقتة، كما أبدى البعض القلقَ من أن يُصاب المعتصمون بالضعف المتدرج، حتى يتلاشى، وخاصة بعد اعتقال العلماء الذين قادوا الاعتصام في يومه الأول، ومع انحسار جملة المعارضين السياسيين عن واجهة الاعتصام. إلا أن تجربة ميدان الفداء أثبتت أنّ المبادرة والإرادة الشعبية أقوى من أيّ تحدّ أو صعاب أو خذلان قد يتكاثر حول الناس، رغم الجراح الغزيرة والدماء العزيزة التي تراكمت خلال أكثر من ستّ سنوات من الثورة. ولهذا السبب، فإن دروس اعتصام الدراز، المنظورة وغير المنظورة، لا تقلّ أهمية على مفاعيل اعتصام دوار اللؤلؤة، وخاصة على صعيد تدريب الناس لأنفسهم على البقاء في أحلك الظروف، وممارسة طرائقهم الخاصة في تجويف الظلام وإحداث الثغرات المستديرة في سياسات القمع وآليات الإكراه العسكري.

بالنسبة للشيخ عيسى قاسم، فإن الرّجل وجد نفسَه في اختبارٍ تاريخي، مليء بالتعقيدات والحسابات المربكة. المسألة هنا تبدو شبيهة بالمعلِّم الذي أفنى عُمرا طويلاً من حياته وهو يُعطي الناسَ قيمَ العزة والكرامة عدم الخنوع للظلمة، ثم يرى تلاميذه وقد كبروا معه وكبّروا بقيمه، وجسّدوها في أضيق الأيام وأشدّها اهتزازاً بالتحديات وهزّاً المغريات. فكيف يكون شعورُ المعلّم؟ وعلى أيّ نحو سيكون موقفه من أولئك الذين يطلبون منه أن يخرج إلى تلاميذه الأوفياء ويقول لهم: “كفى عزّةً وكرامةً.. واستسلموا للدّعي؟” لن يكون الرّدُ إلا بمثل خطابه نهاية السبعينات في جمعية التوعية، حينما قال مخاطباً الأجهزة الخليفية: “نحن لا نُحبّ أن نُستَفزّ”.. وبمثل الرد الذي عرفه مسجدُ الخواجة بالعاصمة المنامة حينما كان صوته صادحاً بهتافات التكبير والموت للشيطان الأكبر.. وبمثل الصدح المدويّ الذي عرفه جامعُ الإمام الصادق – وقد سكت السياسيون الجُدد حينها – عندما وضعَ قاعدةَ السّحق، وجلجلَ بصوته ويديه “فداءاً للعزة والدين”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى