ما وراء الخبر

نهايات “الحرب الخليفية” على الشيخ عيسى قاسم: ضغوط ثلاثة.. وخياران لا ثالث لهما

 

البحرين اليوم متابعات

بالنسبة للكثيرين، تبدو المعادلة في البحرين مفتوحةً على منعطف حاد” قبل ساعات من جلسة محاكمة الشيخ عيسى قاسم، اليوم الأحد ٧ مايو ٢٠١٧م. وقد اختار السيد عبد الله الغريفي أن يُقارب هذا المنعطف وفق الاحتمالين اللذين لا ثالث لهما: فإما إلى خير أو شرّأو بتعبير السيد الغريفي: إما إلى انفراج كبير ينفتح بالوطن على الخير كلّ الخير، وإما إلى خيار مآلاته قاسية وصعبة، ومؤلمة. وأغلب التوقعات حتى الآن ترجّح أن يضع مُحرّكي الخليفيين أنفسهم في الزواية الحرجة، ولكن الرماديّة، أي اختيار المراوحة في المكان نفسه، وبما يُجنب آل خليفة – مؤقتاً على الأقل – مخاطر الذهاب إلى الخيار الأسوأ، ويمنع عنهم الاضطرار لإعلان الهزيمة في المعركة التي يقول ناشطون بأنها الأخيرة في مواجهةٍ يفضّل معارضون وضعها في سياق القرنين ويزيد من احتلال الأرض وثقافة الغزو الخليفية“، ولكن أيضاً في سياق تاريخ طويل من التبعيّة للخارج.

هناك ٣ عوامل أو ضغوط لا يستطيع النظام الخليفي أو بالأحرى مشغّلوه من الخارج الغفلة عنها ووضعها خارج طاولة اتخاذ القرار:

العامل الأول: الموقف الشعبي في الميدان الداخلي

لا يغيب عن النظام الخليفي والأنظمة الآمرة عليه  بأن الغليان الشعبي الداخلي، ومنذ بدء الاستهداف المباشر ضد الشيخ قاسم؛ أخذ موجةً أخرى من التصعيد المتصاعد، كما أتاح للناس إثبات مقدرتهم الإضافية على الصمود وابتكار وسائل المقاومة بعد سنوات من القمع المركّز الذي أرهقَ جزءا غير يسير من طاقة التحريك الشعبي والثوري مع تكالب جيوش ومخابرات وأجهزة عليهم. وقد تبيّن أن الجهات والعناصر الوطنية المحايدة، أو تلك التي لا تجد حافزا للتفاعل السريع مع الحدث العام؛ تجد مبرّرها الذاتي للانحياز وقت الإصابة بالتهديد الوجودي، وعلى شاكلة التهديد الذي يُوجّه إلى الشيخ قاسم هذه الأيام. وهذا يُفسِّر، بشكل من الأشكال، سرّ الاستمرار الشعبي في الميادين، وظهور الوجوه الجديدة من النشطاء، والالتماع البِكر في أفكار الاحتجاج وأساليبه. يمكن التمثيل على ذلك بإعادة تكثيف البروز العلمائي في الحدث السياسي المحلي، والحيوية الضامنة والصامدة في اعتصام الدراز، وكذلك المقدرة “الفردية” و”الجماعية” على إزعاج “قوة القمع المتعددة الجنسيات” وتفريغها من رسالتها الرادعة والترهيبية.

في هذا العامل، لابد من ملاحظة النتيجة الهامة التي تلازمت مع تصعيد استهداف الشيخ قاسم، حيث حصل تلاقٍ متقدّم في الخطاب السياسي والثوري في النسيج الاجتماعي والخطابي داخل مجتمع الثورة بالبحرين، وأضحت – مثلا – الكثير من مفردات القوى الثورية وشعارات الشارع الاحتجاجي حاضرة في خطاب السياسيين المعارضين، وتمت إعادة الترويج والتمثيل للخطابات الثورية التي صدرت عن الشيخ قاسم، بداية الثورة، والتي ارتأى بعض صُنّاع القرار السياسي للمعارضة احتواءها، أو نزْع فتيلها الثوري. ومن المفيد، في هذا السياق تحديدا، التأمل في المعنى الرمزي العميق لتلاقي شعار “لن نخذلك” أو “فدائيون لن نركع”، مع شعار “فلنمت من أجل أعراضنا”. في هذه الشعارات يحضر مفهوم الشهادة، أو “الدفاع حتى الموت” عن الشيخ قاسم، جنباً إلى جنب مع قضية الردع “المقاوم” غضباً لانتهاك أعراض النساء، وهو الموضوع ذاته الذي شرّع فيه الشيخ قاسم – بنحو علني وجريء – الموتَ والتضحية بالأنفس، كما حصل في خطبته الشهيرة. هذا التلاقي يختصر المعنى العميق للتقدّم في الوعي الثوري العام، ليس في الميادين والساحات المحسوبة على القوى الثورية، ولكن أيضاً في المجال السياسي الذي ينتمي للمعارضات السياسية. لقد كان ذلك نتيجة طبيعة لتصعيد الموقف الرسمي ضد الشيخ قاسم، ففوجد الجميع نفسه في خندق واحد، ومسحوباً للحديث بخطاب متشابه، بما يعنيه ذلك من إنهاءٍ حتميّ لمرحلة مريرة سابقة من ضباب الرؤية، واضطراب الخطاب، وتهافت القول مع العمل.

العامل الثاني: الموقف الرادع للمرجعيات الدينية

تصاعدَ موقفُ المرجعيات الدينية إزاء استهداف الشيخ قاسم، ووصلَ الذروة مع تثبيت عنوان الدفاع حتى الموت عنه وإعلان “النفير العام”. وبالنظر إلى الحساسية المفرطة، المعروفة، بالنسبة لمسألة الدماء” في العقل الشرعي الشيعي؛ فإن بلوغ الموقف المرجعي هذا المدى ينبيء عن غضب غير معهود وربما يكون غير مسبوق في مثل هذه الحالات. ومن المرجح أن دوائر القرار المؤثرة على الوضع الداخلي في البحرين؛ تقرأ هذا الأمر بشكل جدّي، وتأخذه بعين الاعتبار.

هناك منْ يفتح جدلا بشأن هذا العامل بالإشارة إلى قضية الشهيد الشيخ نمر النمر، حيث نالت اعتراضا واضحا، وشديد اللهجة، من المرجعيات الدينية والسياسية، والعسكرية أيضاً، في العراق وإيران. إلا أن ذلك لم يمنع آل سعود من المضي قدماً وتنفيذ حكم الإعدام وعلى نحو شديد البشاعة. كما يُسجل هؤلاء جدلاً مكمِّلا مذكّرين بأن حجم الاعتراض “المرجعي” وتوابعه بعد تنفيد جريمة إعدام الشيخ النمر لم تكن بمستوى “تغيير المعادلات الكاملة”، رغم تسبُّب الردود الغاضبة في إيران مثلا بقطع العلاقات مع السعودية. إلا أن هذه المقارنة – ورغم وجاهتها لجهة من الجهات – إلا أنها تغفل عن معطيات مختلفة بين قضية الشيخ الشهيد النمر، وقضية الشيخ قاسم، ليس من حيث مكانة وحيثية كلّ منهما الذاتية – فهذا مبحث آخر – ولكن لناحية سيرورة قضية كلّ واحد منهما، والحضور السابق لكل منهما، إضافة إلى محتوى الموقف المرجعي وتوقيته ودرجاته في الحالتين.

لقد بقي الشيخ النمر غير مذكور، على سبيل المثال، في أدبيات حزب الله اللبناني إلا بعد صدور حكم الإعدام، وكان هذا الحضور محدوداً إلى أن وقعت الجريمة وتم إعدامه، حيث تحوّل الشهيد بعدها إلى أيقونة مؤثرة في خطاب الحزب وقائده، السيد حسن نصرالله. وبمعزل عن الأسباب الموضوعية التي حكمت هذا التأخير، وفرضت التدرّج في التعاطي المباشر مع قضيته، إلا أنها لابد أن تكون ملحوظة في حال المقارنة بين الشهيد النمر وبين قضية الشيخ قاسم في تعاطي الحزب. ومن المحتمل أن الحسابات الدقيقة للحزب، وتنويع أساليبه في الضغط على “السعودي” تجعله يُعدّد من تعاطيه في ملفي البحرين والسعودية عموماً، والشيخين النمر وقاسم على وجه الخصوص.

هذا المثال يمكن أن يضيء أيضاً على اختلاف الموقف المرجعي في وضعية الشيخ قاسم عنه في قضية الشهيد النمر. فقد كان هناك تأخّر واضح من مراجع الدين في التعاطي مع قضية النمر، والتزمت الأوساط الدينية والسياسية الإقليمية بدرجة واضحة من التحفظ، وحبْس الموقف وتأجيله، إلى أن تمظهر بعد صدور حكم الإعدام والإقدام عليه بعد ذلك. وهذا بخلاف الحال مع الشيخ قاسم، كما هو واضح. ولا شك أن ذلك له أثره المتزامن وتأثيره اللاحق في قضية الشيخ ومآلاتها، سواء من حيث ضخّ الضغط حول أي قرار ضده، أم من حيث تضخيم الإشعار بخطر أي قرار في لاوعي المؤيد والمعارض، النظام والشعب، الداخل والخارج. وكل ذلك له اعتباره في مراحل صنع القرار، وبالتالي في نتيجته ومحتواه الأخير.

العامل الثالث: انكسار توازنات المصالح الإقليمية والدولية

يصعب على المراقبين رسْم خارطة واضحة لتوازنات القوى المتصارعة على المستوى الإقليمي والدولي. فالوضع الراهن، طولاً وعرضاً، يأخذ بعضاً من تكتيكات الحرب الباردة، كما أنه مفتوح دون مواربة على ضرورات الاشتباك العسكري“، ولكن المحدود في المكان وفي دحرجة ردود الأفعال القاسية والمتهورة. في الوقت نفسه، فإن مسار الخرائط الإستراتيجية لم يعد محصورا بيد الأقطاب الثنائية، كما فقدت المحاور التقليدية قدرتها المطلقة على فتْح المسارات أو إغلاقها. وهذا يعني أن مفهوم المصالح وهو قطب الرحى في العلاقات الدولية بات مشبعاً بعوامل مركبة ومتناقضة، ولم يعد العامل الاقتصادي وحده هو الحاضر. السعوديون، مثلا، معنيون بتمرير آمن لأزمة التناقض البنيوي في ثناية الوهابية وآل سعود، وهم قد يجدون أنفسهم مضطرين للتضحية بكل شيء من أجل ذلك. هذا يعني أن السعوديين يمكن أن يبيعوا ثروتهم النفطية (أرامكو) في سبيل المحافظة على العرش، كما أنهم قد يمارسون تعديلات “اضطرارية” في قوانين العلاقة مع المؤسسة الوهابية والنخبة النجدية – وعلى طريقة القفزات المفاجئة وغير المحسوبة النتائج – وذلك تحت تأثير الصداع (وربما فقدان الوعي) الناتج عن صراع الأجنحة وتنازع الأمراء داخل القصور السعودية.

ماذا يعني ذلك في قضية الشيخ قاسم؟

“الحكم” في البحرين ليس بيد آل خليفة، كما يعرف الجميع أو كما يجب أن يعرف. فهُم أدوات ضعيفة وطيّعة بلا حدود بيد الخارج. آل سعود في مقدّمة هذا “الخارج القريب”، ولكن البريطانيين والأمريكيين – والإسرائيليين ضمناً – لهم فاعلية مكمّلة – ومتعادِلة – في ضبط الخليفيين وتضبيطهم وتوفير نظام الانضباط معهم وعليهم، وبما يتناسب مع المصالح غير المتوازنة. وهذا معنى “انكسار توازنات المصالح”. فالخارج هنا لا يهيمن على الخليفيين على قاعدة “المصالح المتبادلة”، بل بناء على مصالح هذا الخارج حصراً. بهذا المعنى يكون الخليفيون “أدوات ضعيفة وطيّعة بلا حدود للخارج”. هم ليسوا أدوات من تلقاء أنفسهم (لم يختاروا ذلك بإرداتهم)، وليس لهم مساحات للاجتهاد والاختيار المتعدّد. ولذلك، فإن التعاطي مع جلسة الأحد ٧ مايو، وما بعد هذا اليوم؛ لابد أن يذهب مباشرة لمعرفة ما يدور في رأس “الخارج” الذي يدير “داخل” الخليفيين.

مصلحة الخليفيين، في حال عزْل الخارج المهيمن عليهم، هو إنهاء “الأزمة”، والقبول بالخيارات الشعبية، وإيقاف التورط في خرق الخطوط الحمراء، ولجْم هذا الجنون الذي حوّل آل خليفة إلى وحش بغيض في كلّ العالم. هذه المصلحة “الذاتية” لآل خليفة لم تعد في متناول أيديهم، رغم بداهتها وضرورتها لبقائهم واستمرار حكمهم، وذلك لأن “الخارج” لا يريد أن يجعل هذه المصلحة الذاتية في سلة الخيارات المتاحة لهم. ما فعله الخليفيون خلال السنوات الست الماضية لم تكن مؤلمة للناس فقط، ولكن ضررها وضرارها كان جذرياً على آل خليفة أكثر، ولا شك أنهم لو كان متاحاً لهم أن يفكروا بأنفسهم، ولأنفسهم، لما اقترفوا ما اقترفوه ويواصلون في اقترافه. نعم، هناك في “داخل” آل خليفة منْ يعمل لصالح ذلك “الخارج”، ولكن ليس إلى درجة التماهي، أو التداخل الكامل. أي أن هذا “الداخل” سيظل خليفياً، ولكن بدرجة “العبد” لهذا “السيد/ الخارج”.

السؤال: هل هذا الخارج ذاهب إلى حدود قصوى في كسر “مصالحه” أيضاً؟ أي أن يقترف ما يفقده مصالحه الخاصة مع الأقوياء الآخرين من الذين يشكلون فضاء “الخارج” الآخر (مثل إيران) والذي له تأثيره غير المحدود أيضاً على داخل البحرين، وليس داخل آل خليفة؟ ما يفعله دونالد ترامب مع إيران، وبقعتها الحيوية في لبنان وسوريا ولبنان، وما حصل ويحصل بين الرئيس “المجنون” وآل سعود؛ قد يقدّم إجابة مضطربة، ولاسيما مع الزيارة المرتقبة التي سيحلّ فيها السعودية.

يوم الأحد، ٧ مايو، ليس هو النهاية، هو بداية جديدة. وإذا كان آل خليفة فقدوا إرادتهم وباتوا محكومين بالخارج، فإنّ الشعب وقواه المعارضة، بألوانها المختلفة، معنيّة بأن تفكّر من جديد فيما هو آت، ومن خلال العوامل والضغوط الثلاثة التي يمكن أن يُستخلَص منها الحلُّ العاجل لإنهاء النظام الذي أصبح عبداً مفرطاً في السّواد والوحشيّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى