ما وراء الخبر

لكي لا نتيه أكثر: الاندفاع نحو إسرائيل.. والسر المكنون وراء “فواحش” حكام الخليج

 

البحرين اليوم – متابعات

يقترح محللون للطبائع “المارقة” التي يمتاز بها حكام الخليج، وخاصة بعد ثورات العام ٢٠١١م، (يقترحون) اختصارَ الطريق في فهْم الأمور بالعودة إلى ما يصفونه بـ”السر المكنون” وراء الاندفاعة المتدحرجة، ولكن المتسارعة، نحو إسرائيل. لا يقتصر هذا الأمر على فهْم طبيعة زيارة الرئيس “الأكثر جنوناً” في تاريخ الولايات المتحدة، إلى الدولة “الأكثر ديكتاتورية” في تاريخ الدول القمعية؛ ولكن أيضاً لفهم “طبيعة” الطور التاريخي الذي تتجه إليه المشيخيات الخليجيات وهو تعبر “دروتها التاريخية” باتجاه زراعة “فطريات” القمع السامة التي تنمو في جوانبها، والتي يراها محللون سبباً آخر يدفع للاعتقاد بأن هذه المشيخيات تدفع نفسها بنفسها نحو حتفها المحتوم.

ليس الأمر جديداً، كما أن نمو العلاقات الخليجية الإسرائيلية هي أبعد من سماح آل خليفة لوفد إسرائيلي بدخول البلاد للمشاركة في اجتماعات كونغرس (الفيفا) في وقت سابق من الشهر الجاري، كما أن مسلسل هذه العلاقات بالنسبة للخليفيين؛ لا تقف عند القائمة المعروفة من العلاقات “العلنية” التي عبّرت عنها زيارات الإسرائيليين، وبينهم رجال دين يهود متطرفون، للمنامة ولقائهم الحاكم الخليفي حمد عيسى وتحت مظلة الشمعدان. وربما يكون من المهم أيضاً القول بأن هذه العلاقات تتجاوز أيضاً حدود “التعاون الأمني والاستخباري” الذي قدمته تل أبيب للخليفيين، ضمن التعاونيّات الإقليمية والدولية التي توالت على النظام للمشاركة في قمع ثورة ١٤ فبراير ٢٠١١م. إن الأمور – كما يفضّل باحثون – تذهب إلى أعمق من ذلك كثير، وبما يتصل بالجذور المتصلة بنشأة الكيانات الخليجية، توازيا أو تشابها مع نشأن الكيان الإسرائيلي، وبما يبلغ ذروته مع مخطط “التدمير الذاتي” الذي يُراد أن تصنعه المشيخيات والقبائل الخليجية بأنفسها.

 

جذور العلاقات الإسرائيلية: الأرض المشتركة

الورقة البحثية

من المفيد العودة إلى ورقة بحثية نشرها معهد بيكر التابع لجامعة رايس في سبتمبر من العام ٢٠١٦م، وتناولت آفاق ومآلات العلاقات الإسرائيلية الخليجية، والتي ارتكزت على القول بأن العداء لإيران يمثل “الأرض المشتركة” بين الطرفين، وهي أرض أخذت اتساعها مع نهاية عقد الثمانينات، حيث بدأت الاتصالات الدبلوماسية بين إسرائيل وأنظمة الخليج – مبدئيا – بعد اجتماع مدريد عام ١٩٩١م، في حين استقبلت سلطنة عُمان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، اسحق رابين، في ديسمبر ١٩٩٤م، كما زارها في أبريل ١٩٩٦م والتقى السلطان قابوس لمناقشة إقامة علاقات ثنائية، لتفتح بعدها تل أبيب مكاتبَ تجاريه لها في مسقط والدوحة من ذلك العام. ورغم “الاضطراب الشكلي” في هذه العلاقات بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام ٢٠٠٠م؛ إلا أن النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي في الخليج ظل متواصلا من خلال المبعوث الإسرائيلي بروس كاشدان إلى المنطقة.

وقد بادر آل سعود إلى “نزْع فتيل” الخلاف التكتيكي مع إسرائيل من خلال “مبادرة السلام” التي أطلقها الملك السابق عبدالله، الذي كان وقتها وليا للعهد، خلال قمة الجامعة العربية في بيروت العام ٢٠٠٢م. كما تصاعدت العلاقات مع نظام الإمارات، وخاصة في نوفمبر ٢٠٠٤م، وتزايدت المشاريع التجارية المشتركة، والتي شملت مشروع موانيء دبي العالمية، وبالتعاون مع كبريات شركات الشحن في إسرائيل. فيما كان العام ٢٠٠٦م عنوانا “أخطر” في تلاقي حكام الخليج مع الإسرائيليين، حيث أبدوا تقارباً مع حربها الواسعة التي شنتها آنذاك على حزب الله.

 

٢٠١١م: ذوبان الجليد بين إسرائيل وأنظمة الخليج

 

وتضع الورقة البحثية عام ٢٠١١م، عام الثورات العربية، باعتباره فترة “ذوبان الجليد” غير الرسمي في “مواقف النخب السياسية الخليجية تجاه إسرائيل”. وترصد الورقة على سبيل المثال التصريحات التي بدأها رئيس شرطة دبي وقتها، الفريق ضاحي خلفان، لمجلة “شبيعل أون لاين” الألمانية، والتي اعترف فيها صراحة بأن “العديد من الإسرائيليين يأتون إلى دبي بجوازات سفر غير إسرائيلية”. وسبق ذلك بعام تنفيد الموساد الإسرائيلي لعملية اغتيال محمد المبحوح، القيادي في حركة (حماس)، داخل فندق البستان روتانا في دبي.

تحلل الورقة “النهج غير المتجانس” لأنظمة الخليج إزاء الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت في دول الخليج العام ٢٠١١م، حيث “ضرب” النظام الخليفي الاحتجاجات، كما فعل آل سعود الأمر نفسه باحتجاجات المنطقة الشرقية. ومنذ ذلك التاريخ؛ تلاقت كلّ من السعودية والإمارات في إظهار “نهج متشدد” إزاء “التهديد الخارجي للاستقرار الإقليمي”، كما يزعمون، والذي يأتي من إيران. وقد كان الوضع في البحرين “مثالا” على جنوح الحكّام الخليجيين نحو “حرف التركيز على القضايا الداخلية باعتبار أن لها أسبابا جذرية تتعلق بالاستبداد السياسي والظلم”، وتحويل الانتباه إلى “التدخل الإيراني”، كما تقول الورقة التي ترصد وقتها ازدهار “السياسة الطائفية” التي تم استثمارها في سياق تصعيد حدة التوتر بين السعودية وإيران.

من هذا المدخل، تضيف الورقة، حصل التقارب بين أجزاء كبيرة من الجيش الإسرائيلي ومؤسساته الأمنية مع الأنظمة الخليجية، حيث عبر الإسرائيليون، وعلى غرار نظرائهم في عواصم الخليج، عن مناطق “من القلق المشترك”، لتبدأ بعدها المصلحة المشتركة بين “صانعي السياسات الإسرائيليين والخليجيين” في عدد من القضايا الحاسمة التي ظهرت على سطح السياسة في الشرق الأوسط، وعلى قاعدة “افتراض” أن إيران “تمثل تهديدا خارجيا للاستقرار الإقليمي، سواء بالنسبة للعرب أو العالم وإسرائيل”.

كما أن هناك أمرا آخر في “مناطق الاشتراك” ترصده الورقة البحثية، وهو أن “صانعي السياسات في إسرائيل أعربوا عن قلقهم العميق إزاء ما اعتبروه تقليصا من الولايات المتحدة في دورها بالشرق الأوسط تحت إدراة أوباما”، وهي اللغة ذاتها – تضيف الورقة – التي عبّرت عنها “الرياض وأبوظبي وغيرها من دول الخليج”.

في يناير ٢٠١٦م، أشار السفير الإسرئيلي السابق في مصر، زفي مازل، إلى ما وصفها بـ”إستراتيجية التقارب في المصالح الإسرائيلية الخليجية”. وبعد المحادثات النووية الإيرانية، بدأت دوائر الاستخبارات الإسرائيلية في الحصول علي “المزيد من العلاقات الفعالة مع دول الخليج”، كما قال مازل، الذي أضاف بأن لدى تل أبيب علاقات مع الإمارات “بسبب المصالح الأمنية المشتركة ضد إيران وجماعة الإخوان المسلمين”. وعلى نحو مماثل قال عران عتصيون، الرئيس السابق لتخطيط السياسات في الوزارة الإسرائيلية للشؤون الخارجية، (قال) أنه بحلول العام ٢٠٠٩م (وقد كان حديثه في العام ٢٠١٦م) أصبح “واضحا أن تعاونا واضحا بدأ بين كبار العاملين في المخابرات والأمن الإسرائيلي من جهة، ودول الخليج من جهة أخرى”. وأخذ هذا التعاون شكله البيّن بعد إعلان الاتفاق النووي فعليا في يوليو ٢٠١٥م، حيث توالت وفود إسرائيلية وسعودية، وعلى نحو مواز، على واشنطن للضغط عليها من أجل عدم المضي في الاتفاق.

 

 ماذا بعد ترامب.. ومحمد بن سلمان؟

 

اليوم، ثمة تقارب أيديولوجي، واقتصادي، و”وجودي” بين الإسرائيليين وآل سعود. ونجحت سياسة “شيطنة” إيران” في توسيع نطاق “الدائرة المشتركة” بين الجانبين، وإلى الحد الذي تحولت فيه هذه الدائرة من عالم السياسة والمصالح النفعية، إلى عالم الهوية وحماية الوجود. وقد أتاح مجيء رئيس أمريكي مثل ترامب في إضفاء المعالم الأساسية لهذه الدائرة الهوياتية، وبما فيها من جموح مؤجج بالجنون، فيما لم يعد الأمر مقتصرا على اللعب في الهوامش، أو الإتكال على إنجاز نقاط “حظ” من ضربات الجزاء. وإذا الأمر يقتصر، سعوديا، حتى الآن على إيكال المهمة لأمير “من الوزن الثقيل” مثل تركي الفيصل، أو إلى ضباط استخبارات من الدرجة الثانية، مثل أنور عشقي، إلا أن ذلك – في المقابل – يبدو طبيعيا مع “الوضوح” السعودي في “موالاة” الرجل الأمريكي الأكثر دفاعاً عن إسرائيل، أي ترامب، وعلى النحو الذي يبدي فيه آل سعود جرأة غير مسبوقة في الاستعداد لفتح أطهر بقعة للمسلمين في العالم للرئيس غير المحبوب من أكثر المسلمين؛ ولكي يُحاضر في موضوع “الإسلام” وتقديم “اجتهاداته” في مجال الإسلام الوسطي. وهو سماح سعودي يمكن اعتباره درجة أخرى من درجات “الانقلاب” الكامل على هوية آل سعود التأسيسيية، والتي يعبر عنها التواثق والتوافق الإستراتيجي مع الوهابية، ما يعني أن “الخلل” الذي سيبدأ يضربُ في بنية “العقد التأسيسي” لدولة آل سعود؛ قد يكون هو “المسمار الأخير في النعش” الذي يُراد أن يندفع إليه السعوديون بسرعة، وبطريقة يُوهمَون فيها بأنهم ذاهبون إلى “واحةٍ غنّاء” يستيّدون فيها ضد إيران، وليس إلى “الوحل” الأخير الذي يشهد انغماس أرجلهم حتى الزوال.

من العسير، ولا شك، وضْع النتائج السريعة، أو الحصيلة النهائية لما يمكن أن يحصل بعد أن تكون المسافةُ بين إسرائيل والسعودية، مثل المسافة بين تل أبيب وواشنطن. ولكن – وبمعزل عن تعقيدات السياسة العابرة أو العلاقات الدولية – من الأنسب إرخاء “الذهن” كثيرا لمتابعة الكيفية التي ينهش فيها آل سعود في جسدهم المريض أصلاً، وكيف يتضخم داخلهم “وهمُ الغلبة والانتصار” بفعْل “صناعة المسافة التدميرية” بين إسرائيل، وعلى يد منْ قالها بصراحة أنه ينوي “حلب البقرة” – وهو ينجح في ذلك مع إنجاز أكبر استنزاف مالي للسعودية بصفقات التسلح –  وعلى يد منْ أفصح أكثر من مرة عن رغبته في “خلع” التطرف الأيدولوجي في مرابع السعودية، (أي خلع سرّ بقاء آل سعود)، وهو (هذا الرجل الأشقر) أيضا يكاد أن ينجح في ذلك حينما يرتقي السبت المقبل منبرَ الخطابة الدينية في بلاد الحرمين الشريفين.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى