ما وراء الخبر

السعودية وقطر: سياسة الغاز الذي لا يُرى.. وعقدة النفط الأسود الذي لا يبقى

 

البحرين اليوم – متابعات

“ليست هناك دولة مثل قطر في تجميعها الفذّ والوقح في آن، لكل تناقضات الوجود”. هكذا يعلّق أحد المراقبين على عودة التوتر قبل أيام بين دول الخليج (السعودية، الإمارات، البحرين) من جهة وقطر من ناحية أخرى. بالنسبة للكثير من متابعي الشأن الخليجي؛ فإنه من الصعوبة بمكان الإمساك بتفسير “منطقي وواقعي وظاهري” للاشتباك الجديد الذي اندلع بين المشيخيات الخليجية المحسوبة على آل سعود، وبين الدولة التي يصفها بعض شُرَّاح “المعضلات الخليجية” بـ”الدّولة الغازيّة”، نسبة إلى الغاز الطبيعي الذي حوّل هذه الدولة الصغيرة إلى “وحش مالي يغزو أوروبا”، ونسبةً أيضاً إلى الغاز الذي لا يكاد يُرى، إلا أن أثره كبير وأكبر من المساحة التي يتحرّك فيها. إذن، حتى الآن يبدو الاشتباك الجديد أشبه بـ”الغاز”: آثاره وتداعياته واضحة، ولكن أسبابه الأولى والمباشرة غير ملحوظة، وكأنه تولّد من الفراغ أو من باطن الأرض مثل الانفجار غير المتوقع. تكتمل بعض الصورة مع استدعاء “الدولة السوداء” التي تمثلها دولة آل سعود، بنفطها الآيل للنفاذ.

أصل الحكاية الجديدة يعود، كما هو معروف، إلى تصريح منسوب إلى أمير قطر، تميم بن حمد، بثته وكالة الأنباء الرسمية الثلاثاء ٢٣ مايو ٢٠١٧، وعبّر فيه عن موقف مغاير للسياسة الأمريكية التي تم الاحتفاء بها سعوديّا على نحو “أمبراطوري” في الرياض الأحد الماضي، بحضور جمهرة من الدول والمشيخيات والقبائل التي ظهر كثير منها وكأنها تتسابق لكي تقدّم إلى سيد البيت الأبيض مراسم الطاعة وأموالها أيضاً. لم يتأخر القطريون في نفي الخبر، وتحدثوا عن اختراق وكالة الأنباء الرسمية، إلا أن ذلك لم يمنع التسارع “المذهل” في المواقف والكتابات والمقالات التي روجت للتصريحات القطرية، ومعها كم هائل من التذكير بالموقف القطري الذي لا يريد أن ينصاع للاندماج “الخليجي” القائم على أساس الطاعة لآل سعود، في الحرب والسلم، في الداخل والخارج، في الخليج وما بعد الخليج، مع الولايات المتحدة ومع إيران.

وقد سعت قطر، رسمياً، يوم أمس الخميس ٢٥ مايو، إلى “تهدئة التوتر” مع “دول الخليج السعودية”، خاصة بشأن سياستها تجاه إيران. وقالت قطر إن “التصريحات التي نشرت في وقت متأخر يوم الثلاثاء “مفبركة”، وإن الوكالة التي نشرتها تعرضت “للاختراق” في محاولة فيما يبدو لتشويه آراء الشيخ تميم”. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية القطري، محمد آل ثاني، أمس الخميس في مؤتمر صحافي بالعاصمة الدوحة “نسعى لعلاقات خليجية متينة لأننا نؤمن بأن مصالحنا ومصيرنا واحدة”. وأضاف أن قطر أجرت مناقشات إيجابية للغاية في الرياض بشأن العلاقات بين الدول الخليجية، في إشارة إلى محادثات الأسبوع الماضي في العاصمة السعودية مع ترامب. إلا أن هذه “التهدئة القطرية” لم تأت من فراغ، حيث كشف مسؤول خليجي لوكالة (رويترز) بأن أمير الكويت أجرى اتصالا مع تميم، وعرض عليه التوسط “باستضافة محادثات لضمان عدم تصعيد الخلاف”، وهو أمر يؤكد أن “ثمّة شقّاً وخلافا – في الأصل” بين قطر والسعودية، وهو خلاف لا يخفى على أحد على كلِّ حال، وله ارتباط – على وجه الخصوص – باستمرار الموقف القطري الداعم لجماعة الإخوان المسلمين في قبال التعرُّض الدائم لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، المدعوم سعوديا وإماراتيا. وقد كان هذا الملف سببا مباشرا في تصدُّع العلاقات مع قطر، وسحب سفراء الدول الخليجية الثلاث من الدوحة في مارس ٢٠١٤م.

هذه المرة، لم تشأ “الرؤوس” الدخول مباشرة في المواجهة المتفجّرة على حين غرّة، وأوْكل كلُّ طرف لوسائل إعلامه و”مرتزقته” مهمة شنّ الحرب وتبادل الاتهامات والشتائم والمفاضحات. وعلى هذا النحو مثلاً، نشرت صحيفة (الراية) القطرية تقريرا على صفحتها الأولى ضم صور كتّاب وصحافيين إماراتيين وسعوديين وغيرهم مع وصفهم بـ”المرتزقة”، فيما نشر موقع إخباري سعودي كاريكاتيرا لشخص قطري يُصافح آخر من دولة خليجية بينما يطعنه بسكين في ظهره، في اتهام للدوحة بـ”الغدر”. كذلك، لم يكن مستغربا أن تبادر حكومات السعودية والبحرين والإمارات إلى حجب المواقع الخاصة بصحف وقنوات قطرية، فالموضوع له علاقة – في جانب أساسي منه – بالتعاطي الإعلامي “اللزج” الذي تقوم به الدوحة بشأن الملفات الحساسة في المنطقة، والتي يظهر فيها القطريون “لاعبين ماهرين” في سلّة التناقضات، ولكنهم يفضلون تارةً أن يكونوا متقدِّمين على نحو “الاندفاع”، ويختارون تارة أخرى الإنكفاء ظاهريا، ومواصلة اللعبة ذاتها ولكن تحت الأرض، أو من خلف الظهر، أو بلغة أخرى تُشبه الهمس، ومن غير تغيير في المحتوى أو المضمون أو قواعد اللعبة.
وزير الخارجية القطري، وكما هي العادة الخليجية المشتركة، غضّ الطرف عن إعلام بلاده وما يُمارسه من ابتذال باتت قناة الجزيرة نموذجه الأكثر افتضاحاً، ولاسيما في ظل اللعبة “الشيطانية” التي تمارسها الدوحة عبر الإعلام وفضائه المتعدّد، وخاصة وأن هذا الإعلام شارك ولا يزال في “الحرب الإعلامية المتبادلة” والانخراط في دواخل الملفات المعقدة التي يتلاقى فيها مع السعوديين والإماراتيين قليلا، ويتعاكس معهم في كثير من الأحيان وغالبا. وبدلا من ذلك، حاول الوزير في مؤتمره الصحافي أن يُعطي بُعداً “غازّياً” للهجوم الذي تعرضت له حكومته، وذلك بحديثه عن “حملة إعلامية” استهدفت نظامه في وسائل الإعلام الغربية، واتهمتها بدعم جماعات إرهابية مسلحة. فالإعلام مزعج لقطر، إذن، وهي لذلك تُزعج به، وتختلق أحيانا ما يُزعج الآخرين عليها، لكي تعبّر عن إنزعاجها إزاء ما يمارسه الآخرون ضدها من إزعاج. هذه ليس لعبة لفظية أو أحجية، فهناك منْ يقول بأن أصل حكاية “وكالة الأنباء المخترقة” هي اختراع قطري، أو فبركة إعلامية من الدوحة، لكي تعبّر من خلالها عن “عتاب” إلى واشنطن، وتقول بأنها أيضاً تحتاج إلى منْ يسمع لها، ويكفّ “أذى الإعلام والمنظمات الحقوقية الأمريكية عنها”.
وبعيداً عن دائرة الحدث “القائمة والسريعة”، فإن باحثين في ظاهرتي “الغاز القطري والنفط السعودي”؛ يفضّلون قراءة قصص الاشتباك والخلاف والتعارض بين الدوحة الرياض – بالمباشرة أو عبر الوكلاء/ المرتزقة – الذهابَ إلى جذور الملف وأصوله. فإضافة إلى النشأة التاريخية غير الطبيعية لدويلة قطر، وتقاطعها مع مساحة متشظية من قيامة الدويلات والمشيخيات الأخرى في الخليج المتقاطعة مع العلاقة بالمستعمرين الكبار؛ فإن قطر ظلت غير مستقرة في داخلها فترةً طويلة من الزمن، وعلى النحو الذي يختصره مثلا انقلاب الأمير السابق على والده، وتخليه بعدها عن الإمارة طوعاً لابنه الشاب. كما أن نظام آل ثاني مرّ بجملة متسارعة من “التهجين الأيديولوجي” عبر تعاطيه جرعة كاملة من “حقنة” الإخوان المسلمين وغرسها في وريده غير البعيد عن “القلب الوهابي”، الذي ينبض في بيت آل سعود. بأشياء كثيرة قدّمتها الثروةُ الفاحشة من الغاز الطبيعي؛ تجمّع في قطر ذلك الخليط العجائبي الذي يُشبه “العلمنة التكفيرية”، أو “الإخوانية المتوهبنة”، أو “الحداثة الجاهلية”. لقد أمسك باحثون كبار، ومفكرون بارزون، ورجال دين مخضرمون (أمسك هؤلاء) ملفات السياسة القطرية الشديدة السواد والتناقض والنفاق، ليجعلوها مليئةً بالسحر والنقاء والإتقان الترويجي. والأمثلة في ذلك كثيرة، أسماء وأحداثاً ومحطات. وكانت النتيحة المرجوّة من وراء ذلك – في الظاهر وفي الخفاء – هو أنّ قطر يجب أن يكون لها موطيء قدم في كلّ مكان، في الشرق والغرب، لتكون “القطرة” التي لا تنفذ، أو القطرة الذي يُنتظَر أن تهبط في الوعاء ليفيض كلّه، أو القطرة الأخيرة التي يتقاطر عليها كلّ العالم!
في المقابل، فإنّ في آل سعود أشياء من ذات الأشياء التي تشتغل في قطر وشيوخها الأثرياء. إلا أن سواد السعودية القبيح – هل هناك سواد غير قبيح؟!- أوضح وأكثر ما يميّز حكّامها وسياستها وإعلامها وأيديولوجيتها. لا شك أن آل سعود لم يأخذوا من النفط – ثروتهم الأثيرة والتي لم تعد وفيرة – اللونَ فقط، بل وطبيعته الماديّة والسياسيّة. فهم، مثلُ هذه الثروة الآيلة للنفاذ؛ يشعرون بأن بقاءهم وعرشهم مهدَّد على الدّوام، وفي داخلهم إحساس دفين وسريع النّمو يُخبرهم بأنّ ساعة النهاية قد أقبلت، والنهاية ستطرق الأبواب في أية لحظة. هذا الشعور “الاستفزازي” لا يُشجّع آل سعود على “التوبة النصوحة” ومراجعة أخطائهم وإعادة الحسابات والكفّ عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، بل على العكس تماماً: يندفع السعوديون أكثر نحو ارتكاب كلّ ما هو أسود وقبيح، وكأن لا وعيهم المتباكي على نضوب النفط؛ يقول لهم بأن النفط سيبقى حين يصبغوا لونه الأسودَ في كلّ مكان: في الأفعال والأقوال، في الداخل والخارج، في الليل وفي النهار. كلّ السياسات السعودية السوداء هي بفعل أزمة الذهب الأسود الذي أبقاهم وأعطاهم كلّ هذا العُمر والقوة والنفوذ، وهو الذي سيأخذ منهم – مع انتهائه ماديّا وإستراتيجياً – كلّ شيء، بما في ذلك إنسانيتهم وما يُفترض أن يكون في قلوب البشر من بياض الرحمة.
بالنسبة للشعوب في الخليج، وخاصة في اليمن والبحرين، فما يحصل بين آل ثاني من جهة وآل سعود (وآل نهيان أيضا) من جهة أخرى هو من قبيل “اللهم اشغل الظالمين بالظالمين”. فكل هذه “القبائل” لها يد وضلع غير نظيف في ملفات الشعبين اليمني والبحراني، وليس صدفةً – ربما – أن يُحرّك القطريون لعبتهم المفضلة في التوتير المفبرك؛ تزامنا مع اللعبة المفضلة لآل سعود وآل خليفة في قتل المواطنين في العوامية والدراز، لأن القطريين يعرفون – بسبب تفكيرهم الغازيّ – أن السعودية وأتباعها كلّما كانوا غرقى في ارتكاب السواد والبشاعة؛ كلّما أمكن المرور بين الثقوب الضيقة، وصبّ “القطرة” التي تجلب الحظّ والرّبح، على الأقل كما يحلم القطريون هذه الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى