ملفات

ملف: ٤ سنوات من ثورة "مثخنون بالجراح ولكن لا ينحنون"

revolution_of_the_bahraini_people_by_ya_alkarbalai-d53bq31 copy
ملف البحرين اليوم

بشكلٍ ما، لم تكن الثّورة في البحرين مفاجِئة. وبخلاف ثورات ما يُسمّى الرّبيع العربي؛ فإن البنية التمهيديّة للثورة في البحرين كانت حاضرةً، بتفاصيل واضحة، بالمقارنة مع غيرها من الدّول العربيّة.

بالعودة إلى الأرشيف، من السّهولة الحصول على “إعلانات” مباشرة للثّورة، أو التحذير باندلاعها. وقد أُشتهر عن أمين عام حركة (حق)، الأستاذ حسن مشيمع، قوله المتكرّر بأن “الثورة وشيكة”، وتأكيده بأن غلياناً يسري بين النّاس، وأنه في حال انفجاره سيغيّر كلّ المعادلات التي لا تخطر على بال النّظام.

تأسّس هذا الكلام على وقائع متراكمة منذ، على الأقل، العام ٢٠٠٤م، عندما بدأت المجموعات الضاغطة تنمو في أوساط النّاس، وتتّسع معها الكيانات المطلبيّة (اللّجان الشّعبيّة) التي التزمت بإستراتيّجية المطالبة في الشّارع، والضّغط المباشر من أجل انتزاع الحقوق، وبعيداً عن الإستراتيجيّة التي عوّلت عليها الجمعيّات السّياسيّة، بل وعمومُ الوجوه السّياسيّة الفاعلة.

طفت هذه اللّجان على السّطح بعد التلكؤ الرسمي في الاستجابة للمطالب من جهة، ومن جهة أخرى المضي الخليفيّ في المشاريع التي يراها المواطنون حافلةً بالمخاطر المستقبليّة، وخاصة مشروع التجنيس السياسي.
رسّخت هذه اللّجان معادلة الشّارع، وأعادت الزّخم للحراك الشّعبي العام، وهو ما مهّد لصعود ما يُعرف بتيّار الممانعة، لاسيما بعد تأسيس حركة (حق)، والتي جاءت في أعقاب الإنجاز الثّوري للّجان الشعبيّة، وخاصة لجنة العاطلين ولجنة الشهداء والضحايا ولجنة الأراضي والسواحل.
كان من الطبيعي أن ينزعج النّظام من هذا الامتداد المتنامي ل”الممانعة”، وقد استهدفت الأجهزة الأمنيّة مبكرا جذورها من خلال اعتقال عدد من الرموز والكوادر، وعلى فتراتٍ متقطعة، وباستهدافٍ متوالٍ، وإنما متصاعد، وخاصة في أغسطس 2010م، والتي شهدت “قمعةً أمنيّة” غير مسبوقة منذ العقد الأوّل الذي تلا مجيء حمد عيسى الخليفة إلى الحكم في العام 1999م.

الذين يقرؤون البناء التراكمي لما يُوصف بسيسيولوجيا الثّورة يؤكدون أنّ محطّة “أغسطس 2010م” كانت المقطع المحلّي الأساس في تخليق ثورة 14 فبراير، ولاسيما بعد أن بروز “ملف التعذيب الوحشي” الذي طال معتقلي “شبكة أغسطس”، وبينهم رموز دينيون ونشطاء بارزون، وتداعيات الملف في ساحة القضاء الخليفيّ عندما قرّر المحامون الانسحاب من الدّفاع احتجاجاً على الموقف الرّسمي المتواطيء مع الجلادين.

  • انكشاف الوجه الدّموي للحاكم الخليفيّ

 

The_lady_justice_of_Bahrain
انكشاف الوجه الدّموي للحاكم الخليفيّ

سقوط قناع حمد عيسى الخليفة، الذي ظلّ معارضون ينظرون إليه بوصفه “ملكاً إصلاحيّاً”، كان لازماً بنيوياً لانطلاق أيّ تحرّك ثوريّ واسع في البحرين.

لم يكن من الممكن دخول قطاعات الناس المختلفة، وبتلاوينها السياسيّة والقياديّة المتنوعة، في مدّ احتجاجيّ عريض؛ من غير كسْر “إسقاط” قناع حمد. وقد وفّر ظهور الأخير “الاستبدادي” المصحوب ب”المدمويّة” في إنجاز هذا “الإسقاط”، وبالتالي التهيئة الواقعيّة للانخراط الشعبي الثوري.

بدأت المفاعيل الأولى لسقوط القناع مع الكلمة التي ظهر فيها حمد عيسى الخليفة في العشر الأواخر من شهر رمضان، من العام 2010م، والتي شكّلت نموذجاً للخداعِ من جهة، والشّرارة القمعيّة من جهة أخرى. وفي حين ادّعى حمد في كلمته المُشار إليها؛ فتْح “الأبواب” للمعارضين في الخارج، فإنّه أعطى الإشارة الواضحة للأجهزة من أجل الإجهاز على مفاصل أساسيّة لقوى الممانعة آنذاك، وكان اعتقال القيادي في حركة (حق)، الدكتور عبد الجليل السنكيس، فور وصوله المطار قادماً من الخارج؛ علامةً على هذا الشّر الخليفيّ، والذي التقطه وزير الداخلية الخليفي وقتها، حيث علّق على كلمة حمد بقوله “نحن رهْن إشارتكم”.

حينها بدأ الهجوم الأمنيّ الواسع، فيما أطلق عليه حينه أمين عام جمعيّة الوفاق، الشيخ علي سلمان، ب”عودة الدولة الأمنيّة”.

وفق مجريات الأمور المتسارعة حينذاك، فإنّ السياسة الخليفيّة – قبل انطلاق ثورة 14 فبراير – لم تكن “عودة إلى الصّفر”، بل كانت شبيهة بتنويع إجراءات القبضة الأمنيّة، وقد أعلن المجلس الأعلى للدّفاع وقتها الاستعداد لتنفيذ “ما يلزم”، وهو ما كان يعني أنه لم يعد هناك أيّ “خط أحمر” يمكن أن يجعل النظام الخليفيّ يتريّث أمامه لإدارة “الغضب الشعبي المتراكم” الذي شكّل الممانعون جذوته الظاهرة.

في النتيجة، برز حمد – عملياً – بوصفه دكتاتورا، معنيّا بشكلٍ أساس برعاية مشروعه في الحكم المُطلق، والإجهاز على السّكان الأصليين. وفي حين كان 14 فبراير 2002م تاريخاً لتثبيت الاستبداد، فإنّ انطلاق 14 فبراير 2011 كان ردّاً مزدوجاً على تعمّق هذا الاستبداد المصحوب بالقمع من ناحية، وسحق الهويّة الأصيلة للبلاد من ناحيةٍ أخرى.

  • الضوء الأخضر الأمريكي .. وانخلاع القفاز الحريري

00-carlos-latuff-cnn-whitewashing-bahrain-dictatorship-2012

شاعت في أوساط السياسيين، في أغسطس 2010م، أن هناك ضوءاً أخضر أمريكيّاً للنظام الخليفيّ، وقد تداولت الأوساط تحليلاً مفاده أنّ هذا “الإذن الأمريكيّ” هو سرّ ما وُصف ب”الانفجار الأمني” في وجه المعارضة البحرانيّة يومذاك. إلا أنّ المقرّبين من الجمعيات المعارضة لم تتجاوب مع هذه القراءة، واتجهت وجوه بارزة للتشكيك في هذا “الإذن الأمريكي” وذلك بالاستناد إلى تصريحات صدرت في تلك الفترة على مسؤول بوزارة الخارجيّة الأمريكيّة، وقالت هذه الوجوه السياسيّة بأنها “لا تتضمن إشارات خضراء مضيئة”!

مجموعات سياسيّة ناشطة في التيار الممانع قالت بأنّ تفسير “القمعة الخليفيّة”، قبيل ثورة 14 فبراير، من خلال الموقف الأمريكيّ الدّاعم؛ هو “تفسير مقبول”، لاسيما مع قناعة هذه المجموعات بما تصفه ب”النفاق الأمريكيّ”، إلا أنّها – أي هذه المجموعات – تتجه إلى “تفسير داخليّ” للقمع الخليفيّ الصّاعد حينها، وتربط هذا التفسير بمحتوى التقرير “المثير” الذي عُرف ب”تقرير البندر”، والذي كشفَ عن مخطّط خليفيّ واسع ضد الوجود الأصليّ للمواطنين البحرانيين.

أحد النشطاء البارزين في التيار الممانع يؤكد ل(البحرين اليوم) بأنّ النقاشات التي دارت في تلك المرحلة تتجه إلى “التقليل من دور الحلقة الدوليّة والإقليميّة في إطلاق العنان للوحشيّة الخليفيّة”، بحسب تعبير الناشط، والذي يؤكد بأنّ هناك “اهتماما جدّياً” توافر لدى الجماعات الممانعة في البحرين تجاه المخطط المعروف إعلامياً ب”المخطط البندري”.

وتضع أوساط الممانعة مشهداً يُخلّص “السلوك الخليفيّ” في القول بأن الخليفيين وصلوا إلى قناعة “نهائيّة”، بأنّ الوقت قد حان ل”إخراس” صوت المواطنين الأصليين، وهو ما ترافقَ مع المعطيات التي تتداولها هذه الأوساط بشأن بلوغ مشروع “التجنيس” الحدودَ المناسبة للنظام الخليفيّ، وبما يُتيح له التأسيس على نتائجه باتّجاه السيطرة على “التركيبة السكانيّة” القائمة فعلياً في البلاد، والتأثير على “الإفراز الانتخابيّ”. وتقول هذه الأوساط بأنّ الخليفيين وصلوا إلى قناعةٍ ب”كفاية” نتائج مشروع التجنيس الذي دُبّر منذ مجيء حمد، وأنّ الوقت قد حان للانتقال إلى المرحلة الثانية، والتي دُشّنت ب”قمعة أغسطس 2010م”.

إلا أنّ جهاتٍ قريبة من الأوساط المعارضة تذهب إلى أن “الخيار الأمني” للنظام لم يكن في وارد الذهاب بعيداً، وتتحدث هذه الجهات عن “مجموعات السيطرة الجديدة” التي وفّرتها القوانين الأربعة الشهيرة، والتي تتعلق بقانون الجمعيات السياسية وقانون الإرهاب وغيرها، فضلاً عن “ضبط الإيقاع” الذي يمكن أن يؤديه استمرار خيار الجمعيات المعارضة في “المشاركة” بالانتخابات.

في هذا السياق، فإنّ تفجّر ثورة 14 فبراير، وعلى النّحو المنهجي الذي ظهرت فيه، أربك مشروع “الاستبداد الخليفيّ” المنظّم، أو المقنّن، بحسب تعبير القيادي في حركة أحرار البحرين سعيد الشهابي، واتّجهت الأحداث إلى الحدّ الذي خلع معها “القفاز الحريري” الذي تخبأت وراءه أنياب الخليفييين.

  • ثورات “الربيع العربي”.. زهرة “اللؤلؤة” التي لم تذبل
images
ثورات “الربيع العربي”.. زهرة “اللؤلؤة” التي لم تذبل

شكّلت الثورات العربيّة محفزا أساسيّاً للتعجيل بثورة البحرين، حيث كان فصل “الربيع العربي” – ورغم الجدل الذي طاله فيما بعد – بمثابة “اللحظة الحاسمة” التي وفّرت الظروف الموضوعيّة لإنجاز ما يصفه محللون ب”الثورة الكاملة” في البحرين.

تلاقى المواطنون على تدارس الظروف الملائمة لإنتاج ثورتهم الخاصة، وعُقدت العديد من المناقشات في المنتديات الإلكترونية لاختيار المكان والزّمان المناسبين لإطلاق الثورة. وكان موقع بحرين أونلاين “الورشة الإلكترونية” التي شهدت هذه المناقشات، والتي أفرزت اتفاقاً على اختيار “دوار اللؤلؤة” مركزا للاعتصام الشعبي، وعلى أن يكون يوم الرابع عشر من فبراير موعداً لبدء الاعتصام والثورة.

المتابعون لاختبار الثورات يؤكدون أن البحرين كانت نموذجاً لاستلهام الثورة المصريّة، واستطاعت أن تأخذ منها الإطار والشّكل الأكثر اتّصالاً بمفهوم “الثورة الشعبيّة”، حيث جرى التوافق شعبياً على الدعوة للثورة، وإدارتها حينما استطاعت الوصول إلى مرتكزها الثوري في دوار اللؤلؤة، وبمعزل عن التجاذبات السياسيّة أو الانشغال بالغنائم التي كانت تُقدّمها السّلطة من باب الإغراء تارة، والتهديد تارة أخرى.

وفي حين نالت الثورة، وقبيل انطلاقها، مواقف تأييد عامة من القوى السياسيّة والدّينيّة المؤثرة، فإنّ قارئين للمشهد التفاعليّ وقتها يؤكدون على فائدة الثورة المصريّة، وقبلها التّونسيّة، في إضفاء شرعيّة التّحرك الثّوري في البحرين، لاسيما وأن تأييداً كاملاً قدّمته المعارضة لكلا الثورتين.

الخليط الشبابي الذي ظهر، لأول مرة في موقع بحرين أون لاين، استطاع أن يؤسّس خطاباً مطلبياً واضحاً للثورة باتّجاه “إصلاح شامل”، وذلك من خلال البيان التأسيسيّ الذي وُزّع إلكترونياً، وكان بمثابة الموجّه العام لطبيعة الشعارات والمطالب التي رفعها الحضور الشعبي في 14 فبراير 2011م.

البحرانيون اختاروا مسمى “يوم الغضب” في انطلاق الثورة، وهي تسمية حملت دلالةً تؤشِّر على طبيعة الاحتقان المتراكم، وعدم القبول بالوضع القائم التي تأسّس بعد انقلاب الخليفيين على التعهدات، وإصدار الدستور الذي تصفه أدبيات المعراضة ب”دستور المنحة” في 14 فبراير 2002م. على ذلك، فقد كان اختيار موعد الثورة مليئاً بالدلالات، وعكس جانباً من جوانب الغضب الشعبي على النظام، والمتمثل في نكثه للعهود، وعدم الاطمئنان لتعهداته.

في السياق نفسه، كان للموقف الخليفيّ “المتضامن” مع الأنظمة التي واجهت الثورات؛ تحفير آخر على تعميق الغضب الشعبي، والتأسيس لشرعيّة الثورة.

وقد بادر حمد عيسى الخليفة إلى الاتصال بالرئيس المخلوع حسن مبارك، وتبادلا كلاماً حول ما “إستراتيجية إنقاذ عاجلة”، بحسب ما تم تناقله يومها. وقد تكشف عبر السنوات اللاحقة، العلاقة الوطيدة التي جمعت حمد ومبارك، والتي بلغت في وضوحها مع الاتصال الذي جرى بينهما بُعيد إصدار محكمة مصريّة، في نوفمبر 2014م، الحكم ببراءة مبارك من الاتهامات الموجهة إليه في عدد من القضايا، وهو اتصال أعلنت عنه الوكالة الرسميّة، وقالت بأن حمد نقل إلى مبارك تهانيه بالبراءة.

مبادرة حمد إلى الاتصال بمبارك بعد اندلاع ثورة 25 يناير، كان تعبيراً عن “خشية مبكرة” من النظام الخليفيّ بالارتدادات القادمة إلى البحرين، كما عكسَ عدم اطمئنان النظام بكلّ الترتيبات “الأمنية” وغير “الأمنية” التي أعدّها لمثل هذه الأوقات.

وبموازاة ذلك، كان للخطاب التثميني لرموز الممانعة، وفي مقدمتهم الأستاذان حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين، الدور الكبير في استعجال الاستلهام البحراني للثورات العربيّة، وهو استلهام لم يقف عند حدود الانتساب إلى “الفصل الربيعي”، وإنما تجاوز المعضلات التي وقعت فيها معظم الثورات، بما فيها الثورة المصريّة، الأقرب إلى حدود 14 فبراير وبُنيتها التأسيسيّة.

  • عبد الوهاب حسين يقطع شريط 14 فبراير

 

3bd_lwahab
عبد الوهاب حسين يقطع شريط 14 فبراير

 

اختار القيادي البارز في تيار الممانعة، عبد الوهاب حسين، أن يختار فجر 14 فبراير لكي يبدأ الثورة، ويُعلن رسمياً انطلاق يوم الغضب الشعبي الطويل. وهو اختيار تأسّس على اعتباراتٍ عديدة، وبينها مخاوف “محدودة” من فشل الثورة في أوّل يوم لها، وذلك بأن تأخذ حدوداً ضعيفة على المستوى الشعبي، وأن تقف عند مناطق معينة، أو أن تقع في إشكال النماذج الاحتجاجيّة القديمة التي شهدتها البلدات وهي تعبّر عن احتجاجها ضدّ الخليفيين، وبما يُخرِج “يوم الغضب” عن طابعه الرّبيعي، والذي جمع بين مظهرين، وهما “السلميّة” و”الاستمراريّة”.

مكّن تبكير الأستاذ عبد الوهاب بإطلاق الثّورة في تثبيتها على الأرض، وتحويلها إلى واقعٍ حيّ، ومن لدن أحد أبرز القيادات المؤثرة في الواقع السياسيّ، والتي تحظى بمقبوليّة كافة الفئات والقيادات.

عبدالوهاب حسين في صبيحة ١٤ فبراير
عبدالوهاب حسين في صبيحة ١٤ فبراير

كانت الصّورة واضحة للثورة، حيث تحدّث بيان “صفحة ثورة ١٤ فبراير” على الفيس فوك عن “ثورة شعبية سلمية في يوم ١٤ فبراير للمطالبة بتغييرات وإصلاحات جذرية في نظام الحكم وإدارة البلاد “، وأضاف البيان “الثورة ستبدأ من يوم ١٤ فبراير باعتصامات سلمية في مختلف أرجاء البحرين وستستمر حتى تنفيذ مطالبنا الرئيسيّة”.

كانت المطالب ذات بُعد إصلاحي، وتبدأ بإلغاء دستور ١٤ فبراير ٢٠٠٢م، وتأسيس مجلس تأسيسي “من خبراء وكوادر الطائفتين السنية والشيعية لصياغة دستور تعاقدي جديد”. إلا أن النظام واجه الثورة بالقمع الوحشيّ منذ اليوم الأوّل، وشوهد الدّم في ساحة النويدرات التي أطلقت شرارة الثورة بقيادة الأستاذ عبد الوهاب حسين. إلا أن السّميّة ظلّت الطابع العام في الاحتجاجات والاعتصامات التي خرج فيها المواطنون عند مداخل البلدات والمناطق. إلا أن سقوط الشاب علي مشيمع شهيداً مساء ذلك اليوم، ولحاق الشهيد فاضل المتروك به في اليوم التالي حيث قُتِل في جنازة الشهيد مشيمع، أدّى إلى تغيير مسار الثورة باتّجاه تصعيد الشّعار الثوري، حيث خُتم دفان الشهيد مشيمع في ١٥ فبراير ٢٠١ بتوجّه النّاس نحو دوار اللؤلؤة وهم يرفعون هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”.

هذا الفعل الشعبي، وبقيادة الشّباب، حوّل الأحداث بسرعة، وفرض إيقاعاً جديداً أجبر القوى السياسية على اللحاق بالحدث الجديد، حيث أعلنت جمعية الوفاق انسحاب كتلتها البرلمانية، واستقالتهم لاحقاً. كما سارعَ الناشط الحقوقي البارز، وأحد وجوه الممانعة، عبد الهادي الخواجة للاستقالة من منظمة “فرونت لاين”، والانخراط في الثورة.

وفي هذه البيئة، كانت النواة الأولى لإئتلاف ١٤ فبراير قد بدأت في التشكل، وعلى نحو طبيعيّ وتلقائي، والذي سيجد في فضاء الثورة، ومركزها في دوار اللؤلؤة، المساحات الأكبر للنمو الأشمل.

  • اعتصام الدوار.. مختبر الثورة الأعظم وإجهاض الثورة المضادة
1_1042940_1_34
اعتصام الدوار.. مختبر الثورة الأعظم وإجهاض الثورة المضادة

في ١٥ فبراير ٢٠١١م، زحف المواطنون نحو دوّار اللؤلؤة، مدفوعين بوقودٍ ثوريّ عارم، وبغضبٍ يشع بحرارة دماء شهيدين سقطا في أقل من ٢٤ ساعة. المشهد أجبر حمد عيسى الخليفة للمراهنة من جديد على الخديعة، حيث أطل ظهر ذلك اليوم على شاشة التلفزيون، و”أعرب عن أسفه” من سقوط الشهيدين، وتقدّم بالعزاء لأهلهما، وكلّف جواد سالم العريض لتشكيل لجنة تحقيق حول الأحداث.

كان من الطبيعي ألا يتعاطى المواطنون بأدنى اهتمام بظهور حمد، وبما قاله، واستقرّ الرأي لدى الأوساط السياسيّة بأن النظام سقط في ذلك اليوم، وأنه فقد السيطرة، ولم يعد يملك زمام المبادرة أمام الحضور الشعبي الحاشد الذي توافد بسرعةٍ إلى الدّوار، وتم إعلان بدء الاعتصام.

بعد ٣ أيّام من الاعتصام المركزي، أمر حمد بمباغتة المعتصمين فجر ١٧ فبراير ٢٠١١م، والهجوم عليهم بوحشيّة.

حتّى الآن، لا يزال هذا الهجوم مُحاطاً بالغموض السياسي. فليس هناك ما يُفسّر عودة حمد عن موقفه الخادع بهذه السّرعة، وعلى النّحو الدموي الذي أدّى لسقوط ٤ شهداء، فيما عُرف بمجزرة الخميس، وما أسّس له من فظاعةٍ شلمت منع الإسعاف عن الجرحى والشّهداء، ولتبلغ ذروتها في ١٨ فبراير مع قتل الجيش الخليفيّ للشهيد رضا بوحميّد أثناء محاولة المتظاهرين إعادة تحرير دوّار اللؤلؤة واستئناف الاعتصام المركزي فيه.

مصادر عديدة تتحدّث عن اشتباكٍ عنيف وقعَ بين القرار السّعوديّ الذي كان يرغبُ في إتمام القمع الوحشيّ الذي تم يوم ١٤ فبراير، في مقابل التحذيرات الإقليميّة والدّوليّة التي كان تقترحُ على الخليفيين سياسة احتواء الثورة بوسائل إيجابيّة.

كان الواضح أن سيكولوجيا الدمويّة الخليفية والسعودية غير قادرة على ابتلاع تلك السياسة، وهو ما جعل القمع حاضراً في كلّ المراحل التي قطعتها الثورة، رغم ما تخللها من مناورات لم تكن تعبّر عن سلوكٍ راغب في الاحتواء، أو التهدئة المؤقتة، فضلاً عن الدخول في تفاوضٍ جدّي. وهو ما يؤكّد المنطق السياسيّ الذي يُفسّر أنّ الخليفيين قطعوا علاقتهم بالطبيعيّة مع البحرين وأهلها، وأنهم دخلوا، وقبل بدء الثورة، في طوْر ابتلاع الوطن وهويته، واقتلاع سكّانه الأصليين. ولم تكن المناورات التي قبلت سحب الجيش الخليفي من الدّوار، والسّماح بعودة الأستاذ حسن مشيمع من الخارج، وإطلاق سراح الرموز والنشطاء المعتقلين في قمعة أغسطس ٢٠١٠م، إضافة إلى طرْح لعبة وليّ العهد الخليفي مع الجمعيات السياسيّة.. كلّ ذلك لم يكن سوى التقاط أنفاس لتجريب سياسات قمع جديدة، وبما يُرضي التخلص من الضغوط الخارجيّة، وبما فيهم الضغوط الحقوقيّة الدوليّة.

ويمكن الاستدلال على ذلك، بلجوء الخليفيين إلى وسائل الاحتواء السّلبيّة (تفعيل الثورة المضادة، وتحريك الموالاة الطائفيّة، واستخدام سلاح البلطجية على أوسع نطاق)، ودخول الغربيين على خطّ التغطية تارة، والضغط على القيادات المؤثرة على توجّهات الثورة واتجاهاتها.

  • اتصال وزارة الخارجيّة البريطانية بالأستاذ حسن مشيمع
ds
اتصال وزارة الخارجيّة البريطانية بالأستاذ حسن مشيمع

ويمكن الوقوف على بعض الخلفيّات التي أحاطت بهذه المرحلة من خلال الكشف عن اتصال وزارة الخارجيّة البريطانيّة بالأستاذ حسن مشيمع.

وبحسب المصادر الخاصة ل(البحرين اليوم)، فإن الاتصال كان يتعلق بجدوى عودة مشيمع إلى البحرين في ذلك الوقت بالذات، حيث ذهب تيار الممانعة إلى وجود حاجة ملحّة لوجود مشيمع في ذلك الظرف الحسّاس الذي بلغته الثورة، واعتصام الدّوار، وكان ثمّة توجّه في ضرورة رفْد تيار الممانعة وتحريك مداه على أوسع نطاق، وذلك لسببين، الأول يتعلق بمنع أيّة محاولات للالتفاف على الثورة، والتي لاحت مع الدّفع بورقة ولي العهد الخليفي، الذي حُمّل بأداء لعبة “الحوار”. أما السبب الآخر فيتعلق بحاجة الحركة الشبابية، التي تقود الثورة أساساً، إلى قيادات تاريخيّة متجانسة معها، وتوفّر لها الحماية والمساندة.

أوساط قريبة من الأستاذ مشيمع تشير إلى أن النقاشات الموسّعة التي دارت حول عودته إلى البحرين، خلصت إلى فهمٍ مشترك يقضي بضرورة العودة، وقد وُضع أمام الاعتبار أحد احتمالين، فإما أن يُعتقل الأستاذ مشيمع فور وصوله، وهو ما سيُشكل زاداً إضافياً لضخّ الثورة وتعبئة شعارها الرافض للنظام، وبالتالي فضْح محاولة الإجهاض برمتها. وفي حين كان هذا الاحتمال مستبعداً، لأسبابٍ عديدة، فإن الاحتمال المتوقع هو السماح للأستاذ بدخول البلاد، وهو ما سيؤدي إلى نتائج مرّة على النظام، وبينها تعزيز معنويّات الشباب، وضمان وجود قيادات قريبة منها.

المفاجأة أن الأستاذ مشيمع وهو في طريقه إلى مطار هيثرو الدولي، جاءه اتصال من شخص عرّف نفسه بأنه من وزارة الخارجيّة البريطانية. كان واضحاً أن الأمر عاجل بالنسبة للبريطانيين، حيث كانت الساعة تشير إلى حدود السادسة مساءاً، أي خارج الدوام الرسمي، كما أن الاتصال لم يكن عبر هاتفٍ ثابت. وقد دار الحوار التالي:

– المتصل البريطاني: “عرفنا أنك تنوي العودة إلى البحرين. هل هذا صحيح؟”.

– مشيمع: “نعم هذا صحيح”.

– المتصل: “نطلب منك أن تتريّث، وتؤجل عودتك أسبوعين على الأقل، حيث إننا نضغط على النظام من أجل معالجة الأمور، والدخول في حوار جدي للخروج من الأزمة في البحرين”.

– مشيمع: :يُفترض أن تشجعني على العودة إذن، باعتباري أمثّل طيفاً سياسياً معارضاً في البحرين، وذلك لكي نختبر جدية النظام، بدل دعوتي للتريث والتراجع عن العودة”.

– المتصل: (ارتبك المتصل قليلا، قبل أن يُكمل) “ولكن ربما ليس من المناسب أن تعود الآن، وذلك نظرا لاتهامك ببعض القضايا الأمنيّة”.

– مشيمع: (ضحك الأستاذ قليلا) “هذا ينفي وجود حوار حقيقي أو جهود جدية لتهيئة مناخ التفاوض الجدي، وإذا كانت السلطة ستواصل مطاردة النشطاء والقيادات، وفتح أبواب السجون، فمع منْ ستفتح الحوار. إن ذلك يدل على أن النظام ليس في وارد تغيير سياسته أو مراجعة حساباته”.

– المتصل: “نحن نبذل جهودا مضنية، ونشجع البحرين على اتخاذ الحوار وسيلة للخروج من الأزمة، ونريد منك التعاون معنا لإنجاح هذه الجهود”.

– مشيمع: “ويا ترى لماذا لم تستجب حكومتكم لكل نداءاتنا السابقة، وتعمدت تجاهلنا طوال الفترة الماضية، وكنا نطالبكم بالتحرك الجدي من أجل انقاذ المواطن البريطاني (جعفر الحسابي) والتحرك من أجل إطلاق سراحه، خاصة بعد تعرضه للتعذيب الوحشي، وهو ما يزال في المعتقل؟”.

وأضاف الأستاذ حسن مشيمع للمتصل بالقول: “إنه يجب عليكم أن تختاروا الصداقة مع شعب البحرين أو مع النظام الخليفي، ومواقفكم السابقة لا تدل على أنكم تحملون نوايا طيبة وجدية لمساعدة شعب البحرين”.

يقول المصدر ل(البحرين اليوم) بأن النقاش استمر لأكثر من نصف ساعة، وقد المتصل يسعى بقوّة لإقناع الأستاذ مشيمع بالرجوع عن قرار العودة إلى البحرين، إلى أن وصل الأستاذ إلى المطار، وقال للمتصل: “تستطيع المواصلة في الحديث مع صديقي الدكتور سعيد الشهابي لأنني سوف أتوجه إلى البوابة التي تأخذني إلى الطائرة الآن، وقرار العودة لن أعدل عنه”.

تحدث دكتور سعيد الشهابي مع المتصل، وسأله: “ألست أنت الذي رفضت مقابلتي مع وفد منظمة (آرين) الحقوقية التي قابلتكم قبل فترة لإطلاعكم على وضع المعتقل جعفر الحسابي، وبينتْ بأنني شخص غير مرغوب لديكم؟!”.

– المتصل: “تلك قصة مضت، ونحن في وضع جديد الآن”.

واستمر الدكتور سعيد معه في المكالمة قرابة نصف ساعة أخرى، وأوصل له ذات مضمون الحديث الذي ذكره أستاذ حسن مشيمع سابقا.

في داخل البحرين، وبعد ساعة من انتهاء الاتصال مع الأستاذ مشيمع، صدر قرار ملكي (وليس “عفوا ملكيا”)، ولأول مرة في تاريخ البحرين، يقضي بإطلاق سراح الرموز والنشطاء في القضية المعروفة ب”شبكة أغسطس”، علماً أن الوقت كان متأخراً (الساعة ١١ ليلا)، وهو ما جعل الوسط السياسي الممانع يصل إلى نتيجة من أن الاتصال مع مشيمع كان سبباً في صدور القرار متأخراً، وأنه كان قرارا “بريطانيا” بالدرجة الأولى.

  • لحظات الإنقاذ والإجهاض

 

الاف المحتجين في البحرين ينظمون مسيرة الى العاصمة
لحظات الإنقاذ والإجهاض

 

في دوار اللؤلؤة، تداول المعتصمون، ومن مختلف الفئات، ملفين أساسيين، الأول يتعلق بالشعار المطلبي وتوحيده، والثاني يخصّ وسائل المقاومة المدنيّة المقبلة. وبفضل النقاشات المفتوحة داخل الخيم، وفوق منصة الدوار، تمّ تجاوز “الخوف” بشكل كامل، وبناء مقومات التحدي النضالي السلمي. وبالتعويل على هذه المفهومات، استطاعت الثورة تأسيس العمل الثوري من خلال آليتين، الأولى تتجه نحو التمركز في الدوار، ومواصلة الاعتصام الشعبي، والأخرى تقوم على أساس تنفيذ الاعتصامات المتحرّكة (اعتصام المرفأ المالي) والمسيرات الدّوارة (المسيرات التي تخرج من الدوار وتعود إليه) والمتحرّكة (التي يتم إقرارها في الدوار وتنفّذ في مواقع ذات معنى محدد، مثل مسيرة الديوان ومسيرة الصافرية).

مكّن هذا العمل إنجاز عدة متطلبات كان تقتضيها مرحلة “المقاومة المدنيّة” التي تمت دراستها مفصّلا بين المجموعات التأسيسيّة لثورة ١٤ فبراير. وبين ذلك:

– فصْل الثورة عن المسارات السياسيّة التي تختارها القوى المعارضة، وبما في ذلك اللقاء مع ولي العهد الخليفي، والمبعوثين الأمريكيين والغربيين.

– تنويع التعبير الاحتجاجي، وإلحاق المزيد من الضغط المعنوي على النظام، وبما يُسهم في مزيد من احتواء النظام، وتقويضه، وتفريغ قدرته على الأرض، وهي من الأساسيات اللازمة لإشعار النظام بالسقوط الحتمي.

– أسهم الزخم الثوري المتنوع الذي أنتجه دوار اللؤلؤة في توفير المناخ السياسيّ الملائم لإطلاق “التحالف من أجل الجمهورية”، بما يمثله ذلك من تأسيس إستراتيجي للمرحلة المقبلة، والتي يظهر فيها أنّ النظام لم يكن في وارد الاستجابة لمطالب الناس، وأنه يعمل بكل الأوراق الداخلية والخارجية من أجل استعادة قوته على الأرض، والنهوض من واقع “السقوط” الذي فرضته الثورة في شهرها الأول.

  • التحالف من أجل الجمهورية: خطة إنقاذ مفتوحة

qyu

كانت فكرة العمل المشترك بين تيار الممانعة والجمعيات السياسية؛ من الأفكار التي حضرت بقوة في التداولات في دوار اللؤلؤة. وقد بُذلت جهود مضنية في هذا الاتجاه، وكان نزول الأستاذ حسن مشيمع مؤقتاً إلى لبنان في طريق عودته من لندن إلى البحرين؛ فرصةً لبحث هذا الملف، والنقاش في طرق الوصول إلى تحالف أو عمل مشترك مع المعارضة، وخاصة جمعية الوفاق. إلا أن المصادر المطلعة تتحدث عن صعوبات عديدة حالت دون الوصول إلى ذلك.

ولعل من بين الظروف التي لم تسمح بإنجاز صيغة للتعاون المشترك، هو شعور المجموعات الشبابية التي تقود الثورة بأن ثمّة “مزاحمة” من جانب الجمعيات السياسيّة لمسار الحركة الشبابية القائمة، وهو ما تجلى في عدد من المواقف والفعاليات، وبينها المسيرة التي توجهت إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، ومسيرة الديوان الملكي وقصر الصافرية، واعتصام المرفأ المالي.

إضافة إلى أن عقد جمعية الوفاق أكثر من لقاء سرّي مع وجوه النظام، وعدم إطلاع قيادات الممانعة على مجرياته، أعطى انطباعاً غير إيجابي في أجواء التباحث حول العمل المشترك، فيما شكّل لقاء “الوفاق” مع المبعوث الأمريكي (فيلتمان) مفاجأة للجميع، ما قلل من جدية العمل الفعلي للدخول في مشروع سياسي مشترك.

والأهم من ذلك، فإن المعطى العملي للثورة، والذي تمثّل في تثبيت خيار “إسقاط النظام” داخل الشارع البحراني؛ تجاوز الصّيغ السياسية التي يمكن أن تكون مظلة للعمل المشترك مع الجمعيات، وهي مظلة لن تتعدى مشروع “الإصلاح الدستوري”، وهو مشروع لم يعد يجد صدى في الواقع الجديد الذي أعقب الثورة.

في ظل ذلك، وانسجاما مع الوقائع الجديدة للثورة، جاء مشروع “التحالف من أجل الجمهورية” ليكون بديلا عن الحكم الوراثى. بيان إعلان التحالف كان واضحاً في تأييده لخيار إسقاط النظام، ولكن من غير أن يكون هناك أي فرض على الناس، وأكدت قيادات التحالف بأن القرار في النهاية يعود إلى الناس.

  • الاتصال بين القوى الثورية و”الجمعيات” قبل دخول قوات درع الجزيرة

 

qw

 

رغم الظروف السابقة، فإن هناك أكثر من لقاء عُقد بين جمعية الوفاق ورموز الممانعة، وتحديدا بعد عودة الأستاذ حسن مشيمع إلى البلاد.

وتقول مصادر قريبة من أجواء اللقاءات التي عُقدت بأن الأمل المرجو كان يتوجه إلى تعاون الطرفين من أجل الخروج بعمل مشترك، وأن يتم تنسيق الأدوار وتبادلها. إلا أن الجهود – وللأسباب المذكورة سابق – تعثرت إلى حدود واضحة.

وقد استمر الاتصال بين الجانبين، وبشكل خجول، إلى أن دخلت قوات درع الجزيرة، واعتقلت القيادات، حيث تغير المشهد العام باتجاهات أخرى.

الاحتلال السعودي: قوات درع الجزيرة وهدم الدوار

rgqg0hv5s7f2
الاحتلال السعودي: قوات درع الجزيرة وهدم الدوار

مع دخول قوات درع الجزيرة في مارس ٢٠١١م، وإعلان قانون الطواريء، ودخول الجيش الخليفي في المواجهة المفتوحة ضد الثورة، وما أعقب ذلك من “مكارثية” غير مسبوقة، طالت هدم المساجد واعتقال قيادات الممانعة وهدم دوار اللؤلؤة واحتلاله حتى اليوم؛ كان من الطبيعي أن تتجه الأمور إلى مسارات أخرى في إدارة الثورة.

عملياً، بدأت بعد الاحتلال السعودي، مرحلة المقاومة المدنية، ولجأت قيادة الثورة إلى اعتماد العمل السري، وقيادة الحراك الثوري على النحو الذي شهدته الساحات حتى اليوم.

جندي سعودي بالقرب منميدان اللولو
جندي سعودي بالقرب من ميدان اللولو

كان الهدف من دخول السعودية عسكريا إلى البحرين هو انتشال النظام الخليفي من سقوطه المدوي، وفقدانه السيطرة على الأمور.

إلا أن مهمة “القتل” التي باشرتها القوات السعودية تضمنت أهدافاً أخرى أيضاً، ومنها:

تأكيد استلحاق البحرين وظيفيّاً بالسّعوديّة، وتثبيت هذا الاستلحاق بالوجود العسكري الفاضح والمباشر، وبالشّكل الذي يُعطي النّظام الاطمئنان وهو يُنفّذ قتله المنهجي للمواطنين. بالمعنى القبلي، فإنّ جريمة القتل هنا تُصبح موزَّعة بين القبائل المتحالفة، ما يُشتّت أصابع الاتهّام، ويُضعِف الإرادة السّياسيّة وبخاصة لدى جمعيّات المعارضة التي تنبري للمطالبة بمحاسبة القتلة وملاحقتهم.

إضفاءالطّابعالمذهبيعلىعمليّةالقتل،حيثيُعدّالنّظامالسّعودي من الأنظمة الوحيدة في العالم التي تقوم على الأيديولوجيّة التّكفيريّة ويتاشبك بنيويّاً مع أصالة القتل المذهبي، وهو ما يتوضّح مع ملاحظة أنّ كلّ جماعات العنف المذهبي تمّ تفريخها من حضن المؤسّسة الوهّابيّة المُتحالفة مع سلطةِ آل سعود.

يستهدف تغليف قتل البحرانيين بالضّخ المذهبي السّعودي إنجاز أمرين متداخلين، الأوّل إشعار الثّورة بالذّعر، لكون الثّورة اجتهدت على تأصيل وطنيّتها الجامعة، ونجحت في تجاوز العائق المذهبي مع استثمارها للثّورات العربيّة في تفنيد تهمة التأثّر المغلق بالدّائرة الشّيعيّة. ولذلك كان القتل المذهبي يفترض أنّ عقل الثورة سيُصابُ بالإرباك حين تُفرض عليه مواجهة الدّولة السّنية الأولى، وذات الخصوصيّة العالية لدى المسلمين بسبب الأماكن المقدّسة التي توجد عندها. في الوقت نفسه، فإنّ هذا الدّخول المباشر للقتل المذهبي وبضمّه مع خطابٍ توهيمي حول الخطر الصّفوي ومخطّط التشييع الإيراني سيجلبُ أنصاراً إضافيين للنّظام الخليفي، وسيُضيّق حدودَ التفاعل العربي مع الثّورة.

البحرين.. ساحة السّعوديّة وبوّابتها

بناءاً على ما سبق، فإنّ غاية القتل السّعودي في البحرين هو تهيئة الأخيرة لتكون السّاحة المثلى لانطلاق المشروع السّعودي العابر للحدود. من المفيد هنا عدم التّقليل من شأن البحرين، فأغلب السّياسات الإستراتجيّة لا يمكن المضي فيها ما لم يُتح تسوية التشكيلات القائمة في البلاد ومواءمتها مع مُخطّطات التّغيير الكبرى.

لقد شكّلت البحرين على الدّوام حجرة عثرة أمام مشروع السّعوديّة في ترسيخ بنية الاستبداد في دول المنطقة، وأزعج التّاريخُ النضالي للبحرينيين هذا المشروع، وخاصة مع انطلاق الثّورة وشعارها المطلبي بإسقاط النّظام. من جهة أخرى، فإنّ السّعودية لن تشعرَ بالانجاز ما لم تُنهِ معضلتها الطويلة في البحرين، وتفرض سطوتها الكاملة عليها. يرتبط ذلك بجملة من المعطيات، وأهمّها:

انحسار النفوذ السّعودي الخارجي، وتعرُّض الذّراع السّعوديّة للتّقطيع، وتحاول السّعوديّة أن تُصارِع من أجل الإبقاء على نفوذها المهزوز في أكثر من مكان وبلد، وهي تجد البحرين فرصةً، الأخيرة ربّما،لتحقيق التّعويض الإستراتيجي والسيكولوجي.

تعملُ السّعوديّةعلىترميم هيبتها المهدورة، وذلك من خلال الدّخول المحموم في سباق التّسلّح، والاستعراض العسكري، فضلاً عن تطوير صناعتها العسكريّة الخاصة، حيث ذكرت تقارير أجنبيّة بأن السّعودية والإمارات تتقدّمان في توفير القدرة الذّاتيّة على صيانة المعدّات والأسلحة وبعض الطائرات المقاتلة. إلاّ أنّ ذلك غير مجدٍ لإشعارها بالقوّة ما لم يلحق ذلك تفوّقاً عمليّاً على الأعداء والخصوم. والمشكلة أنّ السّعوديّة لا تحظى بسجلٍّ عسكريّ مجيد، وهي مبتلاةٌ بعقدة الحرب الخارجية منذ حربها مع الحوثيين في اليمن، واشتعلت العقد أكثر مع تضعضع مشروعها العسكري شبه المباشر في سوريا. عندهذا المفترق، تنظر السّعوديّة إلى البحرين على أنّها ساحتها الأسهل لمداواة جُرحها الدّفين.

  • هزيمة الاحتلال وفشل الحرب الخليفية

 

1337715035933
هزيمة الاحتلال وفشل الحرب الخليفية

 

سرعان ما اكتشف السعوديون والخليفيون أنهم وقعوا في المستنقع.

كان الأمل يحذوهم إلى أنّ القتل الوحشي، وضرْب البنية الشعبية، وإشعارها بالنهاية؛ سيؤدي إلى أن يستسلم الجميع، ويعود الناس إلى منازلهم. لكن الأمور سارت في اتجاهٍ فاجأ الجميع. استعادت الثورة، وبسرعة، زمام المبادرة، واستطاعت القيادات الشابية أن تُعيد تشكيل نفسها، وأن تتوزع في الداخل والخارج، لتبدأ المرحلة الحاسمة في إمساك “القوى الثورية” بالثورة، وتأطيرها بنيويا وميدانياً.

ترسّخت القطيعة الجذرية مع الخليفيين، وأضحى إسقاط النظام قيمة موضوعية أكثر من أى وقت مضى. وتم تأمين هذه القطيعة شعبياً من خلال إستراتجية الإشراك الشعبي في العمل الثوري، والذي تمثّل في الابتكارات الثورية المتسلسلة للقوى الثوريّة، من خلال الاعتصامات والجولات الميدانية والإحياءات المركزية للثورة، وعلى النحو الذي سجّلته ذاكرة الثورة في السنوات الأربع الماضية.

هذا المسار اضطر للنظام في محطات مختلفة للشعور بالهزيمة، حيث سرعان ما أعلن عن استقبال “لجنة بسيوني” للتحقيق في الأحداث، والحديث عن الحوار. ورغم أن الجمعيات السياسية في السنوات الثلاث الأولى للثورة، كانت تعتمد أسلوبها القديم في “إحراج النظام” من خلال القبول بمبادراته، والعمل على كشف عدم جديته من الداخل، إلا أن المسار العام للثورة رفض هذا المنهج، مشدداً على الانسجام في الموقف الثوري، وفضح ما وُصف بالأساليب الاحتيالية للنظام. وهو الأمر الذي ستجد القوى السياسية نفسها مدفوعة إليه في الفترة الأخيرة، والذي عبّرت عنه برفض المشاركة في انتخابات نوفمبر ٢٠١٤م، وإعلانها مقاطعتها، ودخولها في طور متقارب من الحسم الثوري الذي تعتمده القوى الثورية.

من المؤكد أنّ القدرة الشعبيّة في استعادة المبادرة، ونجاح قوى الثورة في استعادة المبادرة، وإعادة توسيع النطاق الشعبي في المشاركة الثورية (من خلال الاعتصامات والفعاليات المستمرة والدائمة في المناطق والبلدات)، كلّ ذلك شكّل وقائع قائمة دفعت الجمعيات السياسية لتغيير مقاربتها للأمور، والخروج من قواعدها الخاصة في بناء المواقف والرؤية العامة. وكان لرسوخ المطلب الشعبي في إسقاط النظام، والصمود المذهل لقادة الثورة المعتقلين؛ الباعث الفاعل في تمتين الموقف الشعبي والثوري والسياسي، والتأسيس لمرحلةٍ جديدة من التلاقي المشترك، والذي ينتظر تأسيساً في المرحلة المقبلة.

  • الثورة في عامها الرّابع.. أكثر قوّة.. وأوضح هدفاً

 

Screen Shot 2015-02-14 at 22.23.09
الثورة في عامها الرّابع.. أكثر قوّة.. وأوضح هدفاً

 

منذ انطلاق الثّورة البحرانيّة، فإن العديد من الأحداث والتطوّرات مرّت عليها في الداخل والخارج، ويمكن الوقوف عند العلامات التالية:

– اتّضاح خارطة القوى الثوريّة، إضافة إلى ائتلاف 14 فبراير، سعت كلّ من حركة (حق) وحركة أحرار البحرين، وتيار الوفاء الإسلامي، وتيار العمل الإسلامي، وحركة خلاص، إلى تثبيت معادلات ائتلافية من خلال البرامج المشتركة، ولاسيما في المناسبات المحورية، مثل ذكرى الثورة السنوية. وكان مشروع الاستفتاء الشعبي في نوفمبر 2014م من أبرز هذه الفعاليات التي أخذت زخماً شعبياً، إضافة إلى دلالاته السياسيّة المباشرة، حيث شكّل هذا المشروع انخراطاً مباشراً للقوى الثوريّة في خارطة التأثير السياسيّ، وخاصة لجهة تحديد الإطار التنفيذي لشعار “حقّ تقرير المصير”.

– انكشاف الدّور الغربيّ، وتحديداً البريطاني والأمريكي، لناحية الانحياز إلى النظام الخليفيّ، وعدم جدية الضغوط والدعوات المطالبة ب”الإصلاح” وكفّ يد النظام عن سياسة القمع وارتكاب الانتهكات ضد المتظاهرين. وكان ذلك سبباً في إعادة تموضع المعارضة في إستراتيجية التواصل الدبلوماسيّ، والتي كان يؤمّل منها خلق “لوبيات” مؤثرة داخل مراكز القرار الرسمي في الدول الغربيّة، لاسيما مع شعور معارضين في الجمعيات السياسيّة ب”نجاح” غير عاديّ في توثيق العلاقات الدبلوماسيّة مع الدول الغربيّة، حيث كانت تُعقد لقاءات دوريّة مع السفراء الغربيين، ويتم الاستماع بجديّة إلى موقف المعارضة وتصوّراتها للحلّ. إلا أن السنوات الأربع السابقة أبانت ما يُطلق عليه معارضون ب”النفاق” الغربيّ، والذي أخذ وضوحاً بالغاً في الموقف البريطانيّ خلال الانتخابات النيابيّة في شهر نوفمبر من العام 2014م، وتصريحات السفير البريطانيّ في البحرين المؤيدة للانتخابات والزعم بنزاهتها، وما لحق ذلك من مواقف وزير الخارجية البريطانيّ الذي تحدّث عن “تقدّم في سجل حقوق الإنسان” بالبحرين، وأنها تمضي في “الاتجاه الصحيح”.

وقد كان رفْع الغطاء “الغربي” عن جمعيّة الوفاق، واعتقال أمينها العام الشيخ علي سلمان وعدد من قياداتها، والاستهداف الممنهج للنشطاء الحقوقيين، وبينهم رئيس مركز البحرين لحقوق الإنسان نبيل رجب، كان مؤشراً آخر على تفضيل الدول الغربيّة لمصالحها مع النظام الخليفيّ على موقفها الخاص بدعم حقوق الإنسان والديمقراطيّة في البحرين.

– منذ 14 مارس 2011م، تأسس تبلور شعبيّ واسع رُسمت ملامحه المطلبيّة في اتجاهين، الأول مثّلته الجمعيات السياسيّة المعارضة، والتي تمسّكت بفكرة “إصلاح النظام”، مع تشديدها على عدم القبول بأيّ إصلاحاتٍ “شكلية”، وهو ما جعل الجمعيات “تتماهى” في مقاطع عديدة مع الإطار الثوري الميداني الذي قاد الثّورة منذ البداية وحتّى الآن، رغم أنّ هذا الإطار تحرّك ضمن سقفٍ جوهري يؤكد على إسقاط النّظام، عبر مدخل تفعيل حق تقرير المصير، أو من خلال التأكيد على ضرورة الانتقال إلى الحكم الجمهوري.

– تجاوزت الثورة الاتهامات التقليديّة التي لاحقتها في أيّامها الأولى، وبينها تهمة الطائفيّة والإرهاب. وفي حين اشتغل الشارع الثوري والشعبي على ردّ هذه الاتهامات، والاهتمام بطمأنة “الشارع السني”، ونفي التوهمات التي زرعها الخليفيون في أوساطه، بما في ذلك محاولة تجييش هذا الشارع بالحديث عن “الخطر الإيراني” وأكذوبة “المخطط الصفوي” الذي يستهدف “تصفية” أهل السنة في البحرين، وتهجيرهم منها. إلا أنّ البحرانيين المنخرطين في الثورة، سرعان ما تخلّوا عن “دور الدفاع”، وذلك بسبب وضوح “اللعبة المخابراتيّة” وراء الاتهامات الموجهة ضد الثّورة، إضافة إلى انفراط عقد “المجاميع الموالية” التي خلقها النظام لتؤدي دور “الثورة المضادة” في الداخل، وبما له علاقة بالانهيارات التي طالت جماعة الإخوان المسلمين إقليمياً، الأمر الذي كسرَ العديد من القنوات والأصوات التي انشغلت بمحاربة الثورة البحرانيّة وإعادة إنتاج الاتهامات الخليفيّة لها.

– نوّع الخليفيّون وسائلهم في إجهاض ثورة 14 فبراير خلال السنوات الأربع، وهو تنوّع أخذ عناوين ثلاثة، وهي استنزاف الشارع الثوري من خلال الاعتقالات والعمليات الأمنيّة الواسعة، وكسْر القاعدة الشعبيّة الحاضنة عبر محاولة تأليب الناس على التحركات الثورية والعقاب الجماعي، وإشعار الجميع بالخطر الوجودي وانقطاع الأمل من خلال زيادة وتيرة التجنيس وسحب الجنسية وتوسيع الحضور الأجنبي العسكري في البلاد.

بالنظر إلى استمرار الحرك الثورة في السنة الرابعة من الثورة، فإن النتيجة تتجه إلى إخفاق السلطة في كلّ أهدافها الرامية إلى الإجهاز على الثورة، كما أنّ العنف المتنوع والانتهاكات الممنهجة والعلاقات العامة التي حرّكها النظام لم تمنحه نقاطاً حقيقيّة ضدّ الثورة، والتي أنهت سنتها الرابعة بعنفوان أكبر، أثبته الحضور الميداني الواسع في فعاليات “إضراب الإباء”، فضلاً عن قوّة التشكيلات الميدانيّة الثوريّة، وذلك في مقابل تضعضع الخطاب التبريري لقوى الموالاة، وافتضاحها أخلاقياً، والذي مهّد لغيابها الكبير عن المشهد العام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى