منوعة

حكم الطاغية في سجون البحرين.. وإبداع الانتفاضة المقبلة

 

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهدي

كاتب من البحرين

ثمة حقيقة تكشف عنها اعتداءات أجهزة القمع الخليفية على مبنى رموز الثورة في البحرين في متنصف أكتوبر ٢٠١٧، ومصادرة ممتلكاتهم وحرمانهم من أبسط احتياجاتهم؛ وهي أن النظام في البحرين غير قادر على التعايش مع أبناء الشعب ورموزه حتى ولو كانوا تحت قبضته وتحت عيون جلاوزته. هذه الحقيقة تعكسها مجريات سجن جو، سيء الصيت، والذي يُحيل أي متابع لمقارنة إدارة هذا السجن بسجون أوربا في القرن الثامن عشر، حيث وُصفت بأنها أشد السجون قسوة وانتهاكا لكرامة الإنسان.

كان جرم الكثيرين في تلك السجون أنهم تحدوا الملكيات الجشعة في أوربا، وتحركت الجماهير والقيادات المثقفة في مسار استعادة حقوق الإنسان المنتهكة من قبل الملوك وقتها ورؤساء الإقطاعيات التابعة لهم. ما يعيشه قادة الثورة ورموزها في سجن جو، ومعهم أكثر من ٤ أربعة معتقل؛ هو عينه الذي عاشه كل الثائرين في العالم الذين عندما يُعتقلون وتُسلب حريتهم ويُودعون السجون. ينقلون معركتهم مع الملك والحاكم لقعر السجن، ويتحول صمود الشارع وحماسة الخطاب في الخارج إلى مقاومة علنية لسطوة الجلاد وبشطه ورمزيته. فسجن الباستيل، مثلا، الذي بُني كحصن لحماية باريس في ١٣٧٠؛ تحول إلى سجن للمعارضين السياسيين والمحرضين ضد الملكية، وأصبح رمزا للطغيان والظلم وسجنا للتعذيب تابعا للملك، ويجرى فيه كل شيء بعيدا عن الرقابة، ومنه انطلقت شرارة الثورة الفرنسية في ١٧٨٩ وانتفض حوالي ٥ آلاف سجين فيه، ليقودوا الثورة في الخارج من جديد.

التاريخ الشفوي المضطهد

في فبراير ٢٠١٧م أعلن القادة الشعبيون ورموز الثورة في البحرين عن امتناعهم عن الزيارات العائلية بعد أن فرضت إدارة سجن جو قيودا جديدة على إدارة الزيارة وتقليصها لنصف ساعة فقط. وفي مارس ٢٠١٧م شددت إدارة السجن من قيودها أكثر، وتم حرمان العديد من الرموز من تلقى العلاج، من بينهم الدكتور عبد الجليل سنكيس وعبد الهادي الخواجة والأستاذ حسن المشميع. وكان الحاج جواد برويز قد عانى كثيرا من الإهمال الطبي، حتى اضطر لكتابة وصيته وتسلميها لأهله بعد أن يأس من حصوله على الرعاية العلاجية الملائمة لصحته.

برويز الذي كشف عن وجود مئات من الرسائل التي تطالب إدارة السجن بتحسين أوضاع السجناء؛ قال أيضا إن إدارة السجن تتعمد وبشكل ممنهج أن تلحق الأذى بالرموز وتمنعهم من أبسط احتياجاتهم اليومية، وأنهم ومنذ اعتقالهم يعيشون في حالة عزل متعمدة تستهدف الانتقام منهم ومن نشاطهم السياسي.

في سياق المعاملة اليومية؛ كان السجناء يتعرضون لشتى أصناف الضغط والابتزاز، ويتعمد السجانون الاستهزاء والسخرية والاضطهاد الطائفي. فعمليات الدهم والتفتيش تبقى الأداة المتكررة يوميا، ويختار الجلادون أسوأ الأوقات لها، فضلا عن ممارسات العزل ومنع الزيارات والأكل غير الصحي والحرمان من العلاج وفرْض وضع القيود والسلاسل أوقات الزيارات لإحداث أكبر أثر لإهانة المعتقل أمام أهله وعائلته.

حكم الطاغية

لكن ما معنى أن النظام غير قادر على التعايش مع أفراد الشعب، وقبل ذلك لماذا يعجز عن ذلك؟

ما من شك أن افتقاد النظام لتلك القدرة يرجع لمجموع العقد التاريخية والنفسية التي عاشها ولا يزال يعيشها النظام، لا كأجهزة إدارية وهياكل قانونية التي يتفق الجميع على خوائها وفي أفضل الحالات شكليتها؛ بل إن العقدة تركب أفراد النظام أنفسهم وبمختلف طبقات وظائفهم. فالتنشئة السياسية والاجتماعية التي ينشأ فيها أفراد العائلة ترسخ بشكل كبير عقدة الثقة وعدم الوثوق بالآخرين، حتى ذوو الأرحام المقربين. فمحمد بن خليفة الذي حكم البحرين بقوة السيف والهمجية؛ قَتل أخاه علي بن خليفة ليستلم الحكم، وخرج على أبيه وأبناء عموميته في سبيل أن يكون حاكما، وهو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكل ما كان يجيده هو قول “صب القهوة يا ولد”!وحمد بن عيسى توافق مع الإنجليز لعزل أبيه عيسى بن علي، وفرْض الإقامة الجبرية عليه لحين وفاته في ١٩٣٤.

هكذا تاريخ من الإنقلابات والحيل لاستلام الحكم؛ تشكل المرجعية السياسية في تعامل الحاكم مع محيطه. وبالمثل، فإن التنشئة الاجتماعية البدوية والقبلية الممجِّدة لقيم الحرب والغزو والافتخار بالجريمة؛ يصعب معها التعايش مع المدنية والمجتمع المدني.

نتيجة هذه العقدة وانعكاساتها تظهر واضحة، وبجلاء، في جدار الخوف الذي يبنيه الطاغية. في حكم الطاغية يقوم الملك الطاغي بخلق مجموعة من الأمراء الكسالى الجهلاء ذوي الشهوات. ومن سمات هذا النظام أن يعين الطاغية وزيرا أو مسئولا يحمل الأعباء شكلياً، بحيث يسمح هذا النظام للطاغية بأن يفعل كل ما يُرضي نزواته ورغباته باسم ذاك الوزير أو ذاك المسئول.

هكذا يصبح الجلادون في سجن جو علامةً مسجلة لرغبات الملك وزمرته، فعموم العاملين في سلك الأجهزة الأمنية الخليفية يشغلهم هم واحد: هو تأكيد عظمة ملكهم في نفوس المسجونين، كمحاولة لغسل أدمغة المعتقلين ومحاولة زرع القبول بالواقع اليائس في نفوسهم. فالجلاد في السجن الخليفي هو رمز للحاكم، هو حارس جدار الخوف، وهذا الجدار هو سور حماية الدولة الخليفية. ليس اتهاما القول بأن كل ضابط في المخابرات وأجهزة الأمن الوطني قد مارس التعذيب بيديه. ليس من بينهم منْ لم تتلوث يداه ووجدانه بتعذيب المعتقلين.

الانتفاضة المقبلة

في ١٠ مارس ٢٠١٥م كان شعب البحرين على موعد غير مألوف، موعد سجّل أول انتفاضة في سجون النظام الخليفي. وقتها كانت الآذان تسترق السمع من كل جهة لتعرف مصير ٤ آلاف معتقل بسبب نشاطهم السياسي وحراكهم الميداني بمعدل ٣٠١ من كل مئة ألف من السكان وفقا لأرقام نشرها المركز الدولي للأبحاث السياسات الجنائية، مما جعل البحرين تحتل المرتبة الأولى عربيا. انتفاضة الكرامة تلك كانت نتيجة متوقعة، وربما تأخرت في حدوثها انتظارا للحظة تاريخية يصعب الحديث عنها الآن، لكنها حفرت في تاريخ الذاكرة الموجوعة بالألم عذابات ومحنَ أشخاص قاوموا مبدأ الطغيان الذي يقوم على سياسية التخويف وتحويل الجميع إلى عبيد يطيعون أوامر الملك، كما يقول مونتسيكو.

هذه الانتفاضة رغم قمعها؛ لكنها ظلت باقية كجمار مشتعلة تنتظر لحظة التعميد المقدسة التي أصبحت قريبة جدا لاكتمال أغلب شروطها التاريخية والموضوعية. انتفاضة أخرى تكشف أن عالم الجلادين في كل الأحوال ضيّق وتكراري، وأن الطاغية يكرر نفسه وأشياءه إلى ما لا نهاية. فالانتفاضة في وجه هذا التكرار هي فعل إبداعي لكسره وتهميشه، لا لشيء سوى أن كل من الثقة والصداقة والمسالمة وغيرها من قيم المدنية والحضارة لا تنتمي لعالم الجلاد والطاغية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى