حكايات الضحايا

نجاح الشيخ: تعمدوا انتهاك حرمة جسدي.. “أحب أبنائي ولكن ليس على حساب قلب أم أخرى”

 

 

البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)

 

لم يكن شهر أبريل ٢٠١٧م شهرا اعتياديا بالنسبة لنجاح احمد الشيخ “أم علي” ذات الأربعين عاما، والأم لأربعة من زهور وطنها المثخن بالجراح والندبات منذ عقود. إلا أن هذه الجراح والندبات أصبحت غائرة منذ ١٤ فبراير ٢٠١١م. قبلها لم تعرف نجاح للسياسة وجها، ولم يدر في خلدها أن تصبح بلدتها النويدرات حاملة لمشعل انطلاقة الثورة، أو أن تكون سترة – محلّة سكنها مع زوجها المتقاعد – عاصمة الثورة.

بداية المراقبة

في ١٧ فبراير ٢٠١٢م، وجدت نفسها مثقلة بالألم جراء استشهاد عمها (والد زوجها) الشهيد منصور سلمان، جراء اختناقه بالغازات السامة. كانت أيامها حافلة، ولا تتوقف، لأن عطاء الأرض لم يفتر منذ اندلاع الثورة في ٢٠١١م.. عطاء لا يزال يضخ دماءا تلو الأخرى، رغبةً في الانعتاق، وطلبا للكرامة والعزة، وتطلعا لأن يأتي اليوم الذي يُقهَر فيه جبابرةُ الجزيرة الحزينة. أخذت في التواصل مع المنظمات الحقوقية، ومع النشطاء المهتمين بتوثيق الانتهاكات لكي لا تضيع بوصلة الحقوق، ولكي لا تُنسى المظالم وتندثر قضية عمهها الشهيد منصور سلمان.

لم يكن نشاطها مستترا، أو خجولا، فهي صنيعة الثورة العلنية والمجاهِرة بعدائها للظلم والطاغوت، ولذلك عملت أجهزة القمع – التي تدمنُ الانتقام وتحترف في فنون الإخراس – على تدبير قضية كيدية لابنها الأكبر علي، البالغ وقتها خمسة عشر عاما، ولُفِّقت ضده عدة قضايا لاعتقاله بتهمة التجمهر وحرق الإطارات، وقُدِّم للمحاكمة الجائرة التي حكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات، وليُبعَد عن والدته، وعن مدرسته وأصدقاء قرية مركوبان، في سترة.

لم تضعف الوالدة المكلومة في ابنها الأكبر، ولم تخر قوتها، بل زاد ذلك من عزيمتها وقوة صمودها، وهي تعي أن دائرة الاستهداف لن تتوقف، كما أن عجلة الانتقام لن تبرح تدور حول منزلها لتُجهز على عائلتها.

الاتصال المربك

بعد سنة وأربعة أشهر من اعتقال نجلها الأكبر علي وسجنه، وتحديدا في يوم الأحد الموافق ٢٠ أبريل ٢٠١٧م تلقت العائلة اتصالا من مركز التعذيب الجديد السيء السمعة، مركز المحرق، يفيدهم بضرورة حضور الابن الثاني لنجاح، كميل وعمره ١٤عاما، وضرورة حضور والدته معه.

كان اتصالا يثير الشك والريبة، لكنه لا يُدخل الرُّعب في قلب امرأةٍ صلبة وشجاعة مثل أم علي. وصلت الوالدة بصحبة ابنها إلي الوكر الذي شهد أبشع جرائم الانتهاكات في عُمر الثورة، مركز المحرق، وفور بلوغها باب مركز التعذيب السري أُخذِت هواتفهم، وأدْخِل كميل. بعد عدة ساعات، خرج كميل من غرفة التحقيق منهكا ومتعبا، وكانت آثار الضرب بادية على وجناته. وقبل أن تستلمه أمه من أيدى الجلاوزة والمعذبين؛ توجه أحد الضباط إلى نجاح قائلا: “لقد خلصنا من ولدك، والآن جاء دورك”!

كان هذا النداء صادما لعقل نجاح، وأصبحت الآن تمتلك الإجابة على تساؤلات عديدة منعتها من النوم في اليوم السابق: “لماذا الإلحاح على ضرورة حضوري مع ابني التحقيق..؟” المطلوب في التحقيق إذن كان “عقل” الوالدة، وليس ابنها الذي لن يكون بمأمن من قبضتهم ومحاولة الانتقام منه، وهو الحدث الصغير العاشق لمدرسته، والحريص على أن يكون في طليعة زملاء صفه في المدرسة.

أُدْخلت نجاح غرفة التحقيق لوحدها، وحضر معها ثلاثة من جلاوزة الأجهزة القمعية. تسلل الخوف إليها، ولكنها قاومت ذلك الشعور، “فهي في مركز المحرق، وليس في مبنى التحقيقات على الأقل”، هكذا كانت تخاطب نفسها في محاولة لتخفيف وطأة المكان على نفسها. لم تعرف نجاح الشيخ، حتى قبل لحظات، أن مبنى التحقيقات قد فتح فرعا سريا له في مركز المحرق، وأن وجبات التعذيب ستظل واحدة، وأن أساليب الابتزاز هي ذاتها، وكلها أساليب ممنهجة كما وصفها “بسيوني” في تقريره الشهير.

سُئلت نجاح عن نشطاها السياسي، وعلاقتها ببعض الأشخاص داخل البحرين وخارجها، وُوجّهت إليها اتهامات بالتعاون مع جهات “إرهابية” في إيران والعراق. ولكنها أنكرت كل تلك التهم. في نهاية اليوم الطويل قالوا لها: “نعلم أنك تعملين مع هؤلاء الأشخاص، ونحن لا نريد منك التوقف عن العمل معهم، كل ما نريده منك هو الاستمرار في العمل معهم، ولكن بطريقتنا للايقاع بهم.. فكري في الامتيازات التي ستحصلين عليها في هيئة سوق العمل، كما سنعمل على ترتيب أوضاع ابنك علي، وسيتم الإفراج عنه. فكري في الموضوع، وسنرى ردك غدا”.

 

جريمة التعذيب والتحرش

 

تشير (المادة ٣) من إعلان الجمعية العام للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة؛ بأن للمرأة الحق في الحرية والأمن الشخصي، والحق في عدم التعرض لأي شكل من أشكال التمييز، والحق في أن تكون في مأمن من التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية او اللاإنسانية أو المهينة. ما واجهته نجاح في غرفة التعذيب ليس خرقا لهذه المادة فحسب، بقدر ما كان سحقا لها، ومحواً لكل ذرة كرامة وشهامة وغيرة، إنْ بقيت في عناصر أجهزة القمع الخليفية ذرّة من ذلك بالطبع!

في يوم الاثنين ٢١ فبراير؛ حضرت نجاح إلى مركز أمن المحرق الساعة الثامنة صباحا، وفي بداية جلسة التحقيق طُلب منها الرّد على العرض المشين الذي قدموه لها في اليوم الفائت. كانوا يتوقعون ردا إيجابيا، فهي الأم المكلومة بابنها، والمحاطة بالعذابات. لكنهم وجدوا ردا قاطعا. كانوا أمام إجابة عرّت هيبتهم المزوزة والوهمية. قالت لهم: “صحيح أنني أتمنى عودة ابني، وأن يرجع إلى حضني، ولكن ليس على حساب قلب أم أخرى تُحرم من أولادها..”. هكذا أجابت نجاح على مدّعي الرجولة و”الوطنية”. كان ردّ الجلاوزة: “إذن استعدي للخطوة القادمة يا خائنة الوطن..”.

ابتدأ التحقيق بعرض محتويات هاتفها، وما فيه من رسائل خاصة بينها وبين نساء العائلة، بما في الصور الخاصة والأحاديث الجانبية. نعم، نحن هنا في البلاد التي تدعي حكومتها بأنها تُحكم بقانون “أن للبيوت حرمة وأن المراسلات الشخصية مصانة”.

كل ذلك بالنسبة للجلاوزة لم يكن محرما، بل وجدوا فيه ضالتهم، ووسيلة للوصول إلى أغراضهم الخبيثة. تسللوا إلى بريدها الإلكتروني، وحصروا بعض المراسلات – التي كانت تبعثها نجاح عندما استشهد عمها – مع بعض النشطاء في الخارج، وأصبحت أسماء هؤلاء النشطاء مادة للابتزاز. طلبوا منها بإلحاح أن تقر نجاح بمعرفتهم، وأن علاقتها معهم هي “علاقة تنظيمية”. لكنها أنكرت ذلك، وقالت إنها تواصلت معهم فقط لذلك الغرض فقط.

وكأي تحقيق في مراكز القمع؛ يتحول السؤال اللفظي إلى “ضربات”، و”الضربات” تتحول إلى تعذيب.

قام الجلادون الثلاثة بضرب نجاح ضربا مؤلما على مناطق عديدة من جمسها، حتى سقطت على الأرض، فقام أحدهم بركلها عدة مرات بغرض إذلالها وتعذيبها. لم تنته وجبة التعذيب عند هذا الحدّ. فالكلاب المسعورة تظل تمارس قذارتها متى ما أتيح لها المجال. والمجال هنا لا تقوى على البوح به الحروف!

ولكن نجاح أصرت على توثيقه وروايته للتاريخ، وامتلكت الشجاعة النادرة التي يجعلها “ضحية نادرة” بامتياز. تُفصح في حكايتها وتذكر بأن الثلاثة قاموا بتحسُّس مواضع العفة في جسمها، وطالبوا منها الاعتراف بأنها عملية لاستخبارات خارجية، وأنها منظمة في تنظيم إرهابي يُقاد من الخارج، وأن عليها أن تعترف بالتوجيهات والتعليمات التي أرسلها لها أولئك النشطاء.

فوجيء الوحوش بصمود نجاح التي استجمعت قوتها وصبرها، استلهاما من صبر قدوتها السيدة زينب وفاطمة الزهراء، وصبر أمهات الشهداء والأسارى اللاتي حضرن بصورهن في مخيلتها في تلك اللحظات، وتذكرت أمسيات الدعاء ووقفات التضامن.

بعد أن يأس الأوغاد من أسلوب التعذيب والتحرش الجنسي القذر؛ انتقلوا إلى أسلوب أشذ قذارة انحطاطا! نادى أحدهم على رابع كان خارج الغرفة، ثم أشاروا إلى نحاج أن هذا الشخص “مخصص” لمهمة محددة، وهي: “الاعتداء عليك جنسيا”، وقالوا لها بأنه لن تأخذه رأفة بك. ولإيقاع المزيد من الرعب، خرجوا ثلاثتهم من الغرفة، تاركين نجاح وحدها مع ذلك الشخص.

تواصل نجاح سرد مأساتها وعذاباتها وتقول: “تُركت لمدة خمس دقائق في الغرفة مع ذلك الشخص دون أن يفعل شيئا، بعدها رجع الثلاثة للغرفة يُضاحك بعضهم بعضا”.

 

التهديد بالقتل

 

كان الثلاثة يتبادلون أحاديثهم بصوت عال. قال أحدهم لها: “حسنا سندبر لك أو لأحد من عائتلك حادث تموتين فيه، أو يموت أحد افراد عائلتك إنْ لم تتعاوني معنا أو تقرِّين بالتهم التي تواجهك..”. وأضاف “كوني حذرة في أن يظل ما حدث لك اليوم سرا بيننا، وعندما تخرجين وتتحدثين بما جرى لن تكون لك فرصة أخرى للنجاة من ذلك الشخص، وسوف نأتي ببقية نساء عائلتك الذين تحدثوا في المجموعة الإلكترونية، وستكونين أنت السبب في اعتقالهن”. ثم أمروها بالمجيء مرة أخرى في اليوم التالي أيضا لاستكمال التحقيق.

تمالكت نجاح زمام أمرها، وادركت أنها أمام ابتزاز قذر. إنها أمام محنة أبطالها “حثالة” يدعون الرجولة والعروبة.

حضرت نجاح التحقيق ليومين متتالين. الأسئلة هي ذاتها، والتهم لم تتغير. يستمر التحقيق معها من الثامنة صباحا حتى الرابعة عصرا، وترجع بعدها لبيتها بعد تعذيب نفسي لها ولأسرتها.

في يوم الأربعاء، حضرت نجاح للتحقيق في الساعة الثامنة بصحبة زوجها المتقاعد. وفي يوم الأربعاء عصرا؛ طُلب منها استكمال التحقيق والحضور في اليوم التالي، إلا أنها رفضت الحضور، وقالت لهم بشكل قاطع: “إنني لن أحضر، وإذا كانت لديكم النية في اعتقالي فاعتقلوني من الآن، لأنني لن أعود ثانية لمثل هذا المسلسل الفاشل”. أخبروها بأن عليها أن تعود مجددا في اليوم التالي لكي توقّع على تعهُّد بعدم ممارسة أي نشاط، وبعدها ستكون تحت المراقبة. وأضافوا “إذا لم تلتزمي بالتعهد سيكون لنا شغل آخر معك”. ومرة أخرى رفضت نجاح التعهُّد بالحضور. وعندها لجأ الوحوش الثلاثة إلى زوجها الذي ينتظرها في الخارج، وأجبروه على أخذ نجاح من المركز، وإحضارها في اليوم التالي لكي توقع تعهدا أمنيا.

عادت نجاح يوم الخميس، وهي غير مطمئنة لما سوف يحدث. وعندما حضرت؛ وجدت أن خوفها كان في محله. فالتعهد الأمني تحوّل إلى لائحة اتهام جاهزة، وتضم أربع تهم منها: التخابر مع جهات خارجية، والتحريض على كراهية النظام، وجمع أموال بطريقة غير مشروعة، إضافة للتهمة الجاهزة والمعروفة: التجمهر والتظاهر في مسيرات غير مرخصة.

عرفت نجاح أن هذه التهم الكيدية هي ثمن قوتها وصلابتها، وهي ضريبة تدفعها لحماية عائلتها ودفاعا عن كرامتها وشرفها. نظرت إلى كل ذلك على أنه “قربان” تقدُّمه في سبيل تحرر وطنها من العصابة الحاكمة وجلاوزتها الأوغاد.

وفور تلقيها هذه اللائحة؛ نُقلت نجاح الشيخ إلى سجن النساء في مركز مدينة عيسى، لتنضمّ إلى بقية أخواتها الحرائر الصابرات. وهناك كان لها أكثر من موقف في الدفاع عن المعتقلات أمام عنف الشرطيات والسجينات المدفوعات لمضايقة الحرائر في سجنهن.

رغم مرور أكثر من ستة أشهر على اعتقال نجاح الشيخ إلا أنها لم تتلق تهما رسمية، ويتم تجديد حبسها من خلال النيابة العامة كل شهر أمام المحكمة فقط، وآخرها الثلاثاء ٢٤ أكتوبر ٢٠١٧م، ومن ثم ترجع إلى حضن صديقاتها ورفيقاتها في النضال، لتستمر محنتها في ظل أجواء السجن ومضايقات الضابطات للحرائر بشكل مقصود وممنهج.

أما خارج السجن؛ فإن الطفل الأكثر تعلقا بأمه، إلياس – والبالغ من العمر ١١ عاما – قد فقد اهتمامه بالأنشطة التي كان يمارسها، بسبب وجود أمه في السجن، كما تراجع مستوى تحصيله الدراسي بسبب ذلك، وهو ما يضاعف محنة العائلة وألمها. هي وقائع تكفي لكي يكون هناك ما يدفع نحو “التدخل العاجل” لإطلاق سراح كل أم معتقلة في البحرين، زُجّ بها ظلما في السجون، وتحت تهم كيدية ملفقة اعتاد على حبْك خيوط حبائلها “مخلوقات” نُزعت من قلوبهم الرحمة، ولا يستحقون صفة الرجال.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى