ما وراء الخبر

على ضفاف الاختلاف مع السيد الغريفي: إدارة التقارب بين خيارين متعارضين

 

البحرين اليوم – (متابعات)

في المسار العام للعلامة السيد عبدالله الغريفي؛ من السهل اعتباره واحدا من الوجوه الرمزية التي ارتبطت بالتيار الديني والسياسي العام في البحرين، ليس لأن السيد الغريفي كان له حضوره القيادي المباشر، أو تصدّيه الفعلي لهذا التيار، ولكن لأنه – بسبب مباشر – كان ضمن التشكيلة الرمزية التي قادها آية الله الشيخ عيسى قاسم تحديداً، ومثّل المرحومان العلاّمتان الشيخ عبدالأمير الجمري والسيد جواد الوداعي إضافة خاصة فيها وكلٌّ بطبعته ولمسته الخاصة، حيث كان الأول فاعلاً في تصديه للتيار، فيما وفّر الثاني حاضنة أبوية متميزة بتأييد المواقف الفاصلة أو المركزية التي دخلها التيار بقيادته السياسية والدينية المتصدية. عدا ذلك، فإن السيد الغريفي حافظ على نمطه في الخطاب السياسي والديني، وأتاح له تثبيت موقعه الطبيعي في صُلب التيار العام في البلاد، ولكن من غير أن يكون متداخلاً مع تفاصيل هذا التيار وتحدّياته في المواجهة الصريحة، والبعيدة المدى، مع النظام.

من بين العلامات التي عبّرت عن هذا النموذج؛ اعتياد السيدالغريفي على طرح دعوات متكررة – وعلى فترات لا يبدو أنها ذات مغزى إستراتيجي – لإنهاء ما اعتاد على وصفه بـ”الأزمة” في البلاد، والدخول في حوار وتفاوض بين طرفي “المعارضة” و”النظام” لإيجاد “صيغة مشتركة لحلحلة الأوضاع”. لم يكن السيد الغريفي غريباً عن السياق الذي شكلته المعارضة السياسية وهو يُعلن عن مثل هذه الدعوات، ولكن اللافت أن الخطاب السياسي للغريفي ظل “ملتزما”، ومن غير انقطاع، بالحدود الدّنيا التي تجاوزتها المعارضة ذاتها وهي تواجه سيلا من الانتهاكات والجرائم الخليفية خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد اعتقال الشيخ علي سلمان وما أعقب ذلك من موجة عاصفة من التعديات التي تجاوزت كلّ الحدود. برغم ذلك، لم يتغير محتوى خطاب الغريفي السياسي، وتحاشى الاندماج التفصيلي مع التحولات التي فرضها واقع القمع الدموي المفتوح. لهذا السبب لم يمثل الغريفي قناة مرجعية للثورة، واختار بدلا عن ذلك أن يتحدّث في كثير من الأحيان من المنطقة “اللزجة” التي جعلته يخاطب “طرفين” متنارعين، لا علاقة له بأحدهما، محاولا اجتراح “حلول” تجمع بينهما، و”تصفّي” النوايا بينهما، وتهيء الظروف الملائمة لجلوسهما على طاولة “التفاوض”، وبمعزل عن أي متغيرات أو مستجدات طارئة.

ما ينبغي الانتباه إليه هو أن السيد الغريفي ظلّ دائرا في هذا الخطاب منذ سنوات، وكان قد فضّل توجيه انتقادات صريحة للتيارات السياسية التي لا تؤمن بخيار الحوار مع الخليفيين، ورأى في الشعارات الداعية إلى إسقاط النظام لونا من ألوان التطرف، مشددا في هذا السياق على توجيه ملاحظات علنية حول أداء المعارضين “المتشددين”، كما عبّر عن ذلك في خطبة بتاريخ ١٩ ديسمبر ٢٠١٤، في حين عمّق هذا الاتجاه النقدي للمعارضين في أغسطس ٢٠١٥ حينما وجّه إلى ضرورة اجتناب ما وصفه بـ”التحريض” واضعا الدعوة إلى إسقاط النظام الخليفي في دائرة التحريض التي يتوجب الابتعاد عنها لصالح ما وصفه بـ”المناصحة”. وقد شكلت هذه الخطبة أولى حالات إثارة الجدل مع السيد الغريفي وخطابه السياسي، ولكن ردود الأفعال في حينه اقتصرت على مواقع التواصل الاجتماعي، واستدعى ذلك أن يعلق الغريفي عليها مؤكدا احترامه لوجهات النظر الأخرى، وعدم ادعائه بامتلاك الحقيقة أو الصحة المطلقة، وهو اللغة التي سيحافظ على استرجاعها في كلّ مناسبة يندلع فيها الاختلاف مع رؤاه. ومن المؤكد أن هذه التجربة لم تحمل السيد الغريفي على تغيير قناعاته أو منهجه في التعاطي مع الواقع السياسي، كما أن المعارضين أو من وصفهم بـ”المتشددين”؛ بقوا كذلك على حالهم “مؤمنين” بخياراتهم السياسية والثورية، بل أُضيف إليهم آخرون من الأنصار والمؤيدين بعيد تدحرج كرة القمع النارية.

في الخطب الأخيرة التي صدرت عن السيد الغريفي؛ ثمة معطيات تؤشر إلى أن الأخير مازال مؤمنا بما كان اعتاد على طرحه مرارا، إلا أن الجدال الاجتماعي والنقاش التي تولد مؤخرا في أعقاب ما سُمي بـ”المبادرة” التي طرحها الغريفي؛ أسهم في تثبيت جملة من العلامات الهامة التي يُتوقع أن تكون أسسا مستقبلية لتحولات في خطاب مؤيدي الغريفي ومعارضيه.

العلامة الأولى هو صعود مستوى الاعتراض أو النقد لخطاب الغريفي، وعدم انحصاره على مواقع التواصل الاجتماعي أو المجالس المغلقة. فبعد خطبته في نهاية ديسمبر ٢٠١٧، تحرّكت الأصوات علنا لتسجيل مواقف وتعليقات ناقدة لما تضمنته الخطبة من ترسيخ لخيار الحوار مع النظام والتصالح معه، وهو ما دفع كثيرين لإبداء التعجب والإستياء، نظرا لانكشاف النظام الخليفي على جرائم متتالية كان يُفترض أن تستدعي خطابا منازِعاً. في سياق الاعتراض، أصدرت حركة (حق) بيانا واضحا في تسجيل الاختلاف مع الخيار الذي اجتهد فيه الغريفي، ووجّه البيان ملاحظات على المحتوى العام لخطبته، فيما مثّل ذلك إظهارا مرئيا لعدم الاتفاق مع الغريفي ورؤيته السياسية العامة حيال ما يجري في البلاد، وعلى النحو الذي توالى مع نقودات وجهها معارضون بارزون، ومنهم الدكتور سعيد الشهابي والشيخ عبدالله الصالح وآخرون.

في الخطب التالية للسيد الغريفي، وعلى الرغم من التحشييد الذي قام به مؤيدوه وعلماء دين؛ جدّد الغريفي التشديد على حق الاختلاف مع طروحاته وعدم إسباغها بالقداسة، كما أكد بشكل واضح – وهذه علامة هامة – على أن طروحاته تتحرك في أجواء الذين يؤمنون بخياره في الحوار مع النظام، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن هناك من يؤمنون بهذا الخيار، وقال بأن الاعتراضات التي طُرحت كانت تعبّر عن الدائرة الأخرى التي حسمت موقفها الرافض للتعاطي مع آل خليفة والقناعة النهائية بضرورة إسقاطهم للعبور نحو الحل الحقيقي. وقد كان تثبيت الغريفي لهذه الأمور (حقّ الاختلاف مع شخص الغريفي رغم رمزيته – انطلاق خطابه السياسي من قاعدة “خيار” الحوار مع النظام – الإقرار بوجود خيار رافض للحوار مع النظام)؛ قواعد هامة يتوجب توسيع النظر إليها، والنقاش في نطاقاتها، والتأسيس منها لتلك الأسس المطلوبة لإدارة الاختلاف داخل “المعارضة” بأطيافها وخياراتها المختلفة، ولاسيما مع تمركز الطيف المعارض “السياسي” في الداخل في رمزية الغريفي، وعلى النحو الذي عبّر عنه مثلا بيان الدعم الذي أصدره بعض علماء الدين (١٤ شخصا) بتاريخ ٥ يناير ٢٠١٨، وقالوا فيه بأن خطاب السيد الغريفي كان عبارة عن “عين الحكمة وفصل الخطاب”، من غير تفاصيل أو توضيحات تصلح لفتح نقاش ذي مغزى مع محتوى حديث الغريفي، إذ فضّل المؤيدون إطلاق التأييدات الختامية والشعرية التي تنطوي، في جهة من الجهات، على تناقض مع وقائع الأحداث “الدامية” على الأرض، وكما عبّرت عنه بيانات متتالية صدرت بتوقيع “علماء البحرين” ممن يُفترض أن الأشخاص المذكورين في بيان التأييد للغريفي؛ هم من بين أولئك العلماء، أو بعضهم على الأقل.

لم يفلح هذا البيان في إخفاء حقيقة “الجدال” الذي ترافق مع الخطابات “السياسية” للغريفي، وهو جدال أقر به – كما تمت الإشارة – العلامة الغريفي وتعاطى معه بإيجابية على قاعدة “الحق في الاختلاف” وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة في عالم السياسة، ولكنه شدّد أكثر من مرة على ضرورة أن يكون هذا الاختلاف محكوماً بالآداب المعروفة في ثقافة الاختلاف. إلا أن الأجواء المحيطة بالسيد الغريفي لم تُسهم على نحو فعّال في توفير الأبواب المفتوحة للاختلافات التي أُثيرت مرارا حول الطروحات السياسية للغريفي، وعمدت هذه الأجواء إلى إعادة إثارة تلك “المصدّات” التي تتغاير مع التوجه “الانفتاحي” للسيد الغريفي، حيث تم “تعليب” أفكاره وإحاطتها بحمولة “معصومية” لا يدعيها السيد نفسه، وهو ما لوحظ على نحو خاص بعيد الخطاب الأخير نهاية ديسمبر ٢٠١٧، حيث تداعى البعض لتنظيم تعبئة داعمة للخطاب، وبفائض من الدعايات الترويجية. من جهة أخرى، كان هذا الترويج إشعارا بارتفاع موجة الاعتراض والاختلاف مع طروحات الغريفي، وبما جعلَ البعض يظن أنها تتطلب موجة مضادة، ومرة أخرى على خلاف التوجه الفكري والثقافي المفتروض للمدرسة “الحوارية” التي ينتمي إليها الغريفي.

بمعزل عن كلّ تلك الأجواء، فإن هناك ضرورة ملحة وعاجلة لإدارة العلاقة بين الطرح السياسي “المتكرر” للسيد الغريفي، والتركيبة السياسية والثورية التي تقف على خط معارض أو متعارض مع هذا الطرح، وهذه الضرورة ليس الغرض منها إلغاء هذا الطرف أو ذاك، أو “التسخيف” بأثره وتأثيره على المتغير السياسي العام في البلاد، ولكنها مطلوبة بهدف الحدّ من الاستفادات الجانبية التي يقتنصها “الطرف الثالث” وتوابعه من تداعيات هذا التعارض.

وفي المقترح المكثف؛ فإن أساس هذه الإدارة يبدأ من “الاعتراف” المتبادل بالآخر، بما ينطوي عليه ذلك من أهمية النأي عن التوصيفات الاختزالية والإلغائية التي يتراشق بها بعض مؤيدي هذا الطرف أو ذاك، بما في ذلك توصيفات “التشدد” و”العنف” و”التحريض”. ويمتد من هذا الأساس البناءُ لتأسيس ثقافي وميداني “يتفهّم” الاعتبارات الموضوعية لكل خيار يؤمن به الطرف الآخر. فكما أن المؤمنين بخيار “الحوار” مع النظام يتحدثون عن “الواقعية” و”الوطنية” و”الحلول الممكنة”، فإن المتمسكين بخيار “إسقاط النظام” يملكون مساحة معتبرة أيضا من التأسيس الواقعي، وذلك بالنظر إلى “واقع” النظام وطبائعه المنظورة للجميع والتي تؤكد فقدانه لصلاحية الحوار الجاد، وبما يصعب إثبات عكسه.

لاشك أن هناك صعابا كثيرة ستواجه الذين يتحركون في سبيل “تجسير” العلاقة بين خيارين لا تلاقي بينهما، ويتعارضان على نحو التناقض الكامل، إلا أن “الإدارة” المشار إليها – وفي حال تحرّكت بالأسس المذكورة – من شأنها أن توّفر الوقت والجهد وتمنع الإرتدادات العكسية، وبما يُنجز التقاءا في المناطق الوسطى الأكيدة التي تجمع بين “المؤمنين” بذلك الخيارين. فالمنظور هنا ليس التقريب بين خيارين متعارضن، بل التقارب بين المؤمنين بهما، ولتحقيق مصالح مشتركة كثيرة، ليس أولها الحفاظ على التركيب المجتمعي المشترك، وليس آخرها تفويت الفرص لتمصلح النظام وأتباعه المكشوفين والمتلوين على حدّ سواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى