ما وراء الخبر

٩ مارس: عندما انتفض الشيخ عيسى قاسم في وجه “شرذمة آل خليفة”

البحرين اليوم – (خاص)

في ٩ مارس ٢٠٠١م، عاد آية الله الشيخ عيسى قاسم إلى البحرين، بعد نحو عقد من الغربة في إيران. ومع تداعيات هذه العودة؛ كانت البحرين تشق طريقا جديدا باتجاه رسم مستقبلها الجدلي في أعقاب “انتفاضة الكرامة” التي فرضت على الخليفيين، والداعمين لهم على حدّ سواء، تغيير النمط الاستبدادي والأمني الذي ساد البحرين لعدة عقود بعد استقلال البلاد في العام ١٩٧١م. إلا أن الأمور، وبطرائق وأحداث مختلفة، لم تتجه وفق التعهدات التي أعلنها النظام لقادة المعارضة، وسرعان ما عادت الأوضاع تدريجياً إلى انحدار متدحرج.

في ذلك اليوم الذي وصل فيه الشيخ قاسم البلاد، خرج المواطنون إلى الشوارع من كل حدب وصوب، وأُجري استقبال تاريخي له امتد من مطار البحرين وحتى مسقط رأسه في بلدة الدراز. الاستقبال الذي أشرف عليه الأستاذ عبدالوهاب حسين، ورغم وجهات نظر أخرى في الموضوع؛ أثار غيظة متفحمة آل خليفة الذين لم يجدوا من الناس يوماً ما يُشبه هذا الاحتفاء والاستقبال، وحتى حين كانوا في أوج مسرحية “الخداع” التي تلت مرحلة الإعلان عن “ميثاق العمل الوطني” في العام ٢٠٠٠م.

 

٩ مارس ٢٠٠١م: لماذا عاد الشيخ قاسم إلى البحرين؟

 

تدور الأيام بسرعة، ويتكرر مرة أخرى استياء الخليفيين وهم يرون جموعا غفيرة في ٩ مارس ٢٠١٢م تنزل إلى الشوارع وتكتظ بهتافاتها الغاضبة، وبأمر مباشر من الشيخ قاسم نفسه، وذلك في ذات تاريخ عودته إلى البحرين، ولكن بعد عقد من الزمان. إنها مفارقة التاريخ والأحداث، وهي ذاتها المفارقة التي ترسم المسارات غير المتوقعة.

ولكي تتّحد الفواصل بين ٩ مارس ٢٠٠١ و٩ مارس ٢٠١٢م، من المفيد هنا استعادة أهم ما ذكره الشيخ قاسم في كلمته التي ألقاها في جامع الإمام الصادق في حفل استقباله، حيث أكد على مفهوم المواطنة في التعاطي مع الواقع المذهبي المتعدّد في البلاد، وشدد على إعلائه لمبدأ حماية مصالح الجميع من هذا المنطلق، كما أكد على أن عودته للبلاد تأتي تأسيساً على رغبته في “رتق فتوق (الماضي) بين مواقع القرار الرسمي ومواقع الطموحات الشعبية”، وفي تشييد “الوئام والانسجام داخل الصف الإسلامي”، إضافة إلى العمل على توحيد المواقف المتعارضة التي شهدتها صفوف المعارضة في لندن وقم والساحة المحلية، مذكّرا وقتها على أن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي، وأن إسهامه في العمل العام سيكون إرشاديا، في حين سيترك تفاصيل العمل السياسي للمتصدين آنذاك، وبقيادة المرحوم الشيخ عبد الأمير الجمري.

حرص الشيخ قاسم على الالتزام بهذا البرنامج كما يتضح من خطابه الأسبوعي المركزي في صلاة الجمعة، حيث كان يعمل بناءا على دوره التبليغي الذي بلوره موقعه الديني المتقدم بوصفه مجتهدا من الناحية الحوزوية، فيما أطلّ على الساحة العامة وقضاياها عبر موقعه الأبوي الذي ترفّع فيه – إلى حدود معينة – عن الاصطفاف في الجدالات السياسية المنفلتة ونأى عن محرقة الاختلافات التي أفرزها الواقع السياسي الجديد بعد تأسيس الجمعيات السياسية وبدء مرحلة صراعات النفوذ الرمزي بين السياسيين من جهة، والنظام الحاكم من جهة أخرى.

وفاة الشيخ الجمري، ونمو الاختلافات داخل الجسد المعارض، وما سبق ذلك وتلاه من إشكالات مفاهيمية وعملانية في إدارة الآثار التراكمية لواقع الإنقلاب الدستوري في العام ٢٠٠٢م؛ كلّ ذلك وبدرجات متفاوتة فرضَ على الشيخ قاسم إجراء إنزياح “ناعم” عن النمط الإرشادي الذي أعلن عنه ومارسه بعيد عودته للبلاد، وقد توالى دخوله في المعترك العام – السياسي والديني معاً – مع نمو الصراعات القطبية التي تسرّبت إلى صفوف المعارضة، إضافة إلى الإنكشاف التدريجي للمشروع التخريبي المضمر لآل خليفة، والذي كان اتساعه وشظاياه بمثابة المؤشر التّبعي الذي حدّد الطرائق والعبارات التي اختارها الشيخ قاسم في تغيير نمطه القيادي للساحة، والانتقال – بتسلسل زمني – من “الأبوية” الإرشادية، إلى النصح الأبوي المباشر، ثم إلى الرعاية الفاصلة للمواقف العامة التي تعلنها المعارضة – و”الوفاق” تحديدا – وصولا إلى الفعل القيادي المباشر الذي انطبعت ملامحه المتتالية مع بدء ثورة ١٤ فبراير ٢٠١١م.

والحقيقة، أن الشيخ قاسم وهو يوسّع من طبيعة تصديه للواقع المحلي، لم يكن يخرج عن الإطار “الشَّرْطي” الذي حدده في كلمة الاستقبال في العام ٢٠٠١م، حيث ألمح آنذاك إلى أنه سيكون حاضرا حيث تتطلب المسؤولية “الشرعية” منه، ولن يتخلى عن القيام بها مهما كانت الظروف والتقلبات. وعلى هذا النحو؛ يمكن استيعاب الانتقال السياسي المباشر في خطاب الشيخ قاسم، وحرصه اللافت في مقاربة الواقع الرسمي والشعبي عبر إدارة خطابية جمعت بين التصدي الشفاف للأحداث من جهة، وتقديم النصائح والإرشادات والتنبيهات والتحذيرات من جهة أخرى. لقد كان حضوره الفاصل في تظاهرة ٩ مارس تتويجا لهذا اللون القيادي الذي جعل الشيخ قاسم، مرة أخرى، المحرِّك الأساس للشارع العام، ولاسيما بعد إخفاء قيادات الثورة، واضطراب الفعل السياسي نتيجة موجات القمع والاضطهاد غير المحدودة.

 

تظاهرة ٩ مارس: لماذا وسّع الشيخ قاسم قياديته للساحة؟

لأسباب كثيرة، ستظل تظاهرة ٩ مارس، واحدة من أهم التظاهرات التي شهدتها البحرين خلال سنوات الثورة التي انطلقت في ١٤ فبراير ٢٠١١م. ليس فقط لأن التظاهرة دعا إليها وقادها الشيخ قاسم، أو كونها واحدة من أكبر التظاهرات التي احتشد فيها البحرانيون على امتداد الشارع الرئيسى المعروف بـ”شارع البديع”، ولكن أيضا لأنها سجلت محطة هامة في “المواجهة العلنية” بين القيادة الدينية البارزة التي يمثلها الشيخ قاسم، والنظام الخليفي، وفي شخص الحاكم حمد عيسى الذي وصف يومها البحرانيون الرافضون لجرائمه بأنهم “شرذمة”. وقد كان النزول الشعبي العارم – وبمشاركة الرموز الدينية قاطبة – إعلانا واضحا على التلاقي في خندق الثورة، وإعلان “التمرد” على “الطوق السميك” الذي بدأ الخليفيون تثبيته لمحاصرة الثورة بعد أكثر من عام من انطلاقتها، وهو ما شكّل “مبادرة إستراتيجية” من “العقل العلمائي” – وفي شخص الشيخ قاسم تحديدا – في التصدي للإجراءات والسياسات القمعية وإفشالها بعد أن بلغت أوجها قبل عام من انطلاق تظاهرة ٩ مارس، وخصوصا بعد الاحتلال العسكري السعودي للبلاد في منتصف مارس ٢٠١١ ودعمه لأوسع عمليات الاضطهاد والقتل التي شُنت على الثورة وشعبها.

لم يكن أمام الشيخ قاسم من خيار آخر غير أن يوسّع من درجات تصديه للساحة، فبعد الزخم الشعبي الذي بدأ بعد الثورة، وقدرة الناس على تثبيت الأقدام رغم القمع والقتل المبرمج؛ كان “الاستخفاف” الوقح لحمد عيسى بالناس وحضورهم الثوري؛ أشبه السهم المثلث الذي أراد منه تحقيق جملة من الأهداف الخبيثة، وبينها الإجهاز على الوجود الحي للمواطنين واعتبارهم هامشا في هذا الوطن، وليس لهم أي قيمة حقيقية تؤهلهم لأن يكونوا حاضرين في مواقع القرار وفي تحديد مستقبل البلاد. رأى الشيخ قاسم هذا “الإلغاء” جراءة فاحشة لا ينبغي السكوت عليها، ولاسيما بعد أن برهن الناس على قوتهم عددا وكيفا، فيما لن يكن في وسع المرء – من وزن الشيخ قاسم – أن يتجاوز هذا الفحش في العداء أو يتعاطى معه من خلال إيكال الأمر إلى الفاعلين السياسيين الموثوق بهم من جانبه، لأن حجم النكران والفحشاء التي أفصح عنها حمد عيسى تتطلب ردّا صارماً للمنكر وبالتكتيك البياني الذي أعلنه الشيخ قاسم وهو يدعو إلى تظاهرة ٩ مارس، حيث قال إن المطلوب إن تكون تظاهرة شعبية وليس تظاهرة جمعيات سياسية، وأن تُصبح موضوعا لإعادة توحيد الموقف الشعبي في مواجهة “بؤرة” التضليل والتعذيب في “عقل” النظام، كما شدد على جعل هذه التظاهرة مساحة جاذبة أخرى لجميع الفصائل المعارضة ومكونات الحراك الشعبي، وكان الشيخ قاسم في ذلك يتقدّم خطوات مبكرة لرسم ضمانات نجاح الثورة واستمراريتها وعلوّها على التحزّبات والألوان الفئوية المختلفة.

 

مقاربة الشيخ سلمان: ٩ مارس “ماسحة” 

التظاهرة كانت – بحسب الشيخ علي سلمان – “نموذجا” لما يمكن للحراك الشعبي المعارض أن يقوم به في مواجهة النظام، وأكد الشيخ سلمان حينها بأن “المعارضة تملك أكثر” على صعيد إثبات الموقف الشعبي رغم الانتهاكات والجرائم الرسمية. الشيخ سلمان الذي استطاع أن يُحرِِّك هذا النموذج من خلال فعله السياسي المعارض – وحتى قبل اعتقاله في ديسمبر ٢٠١٤ م – قاربَ تظاهرة ٩ مارس باعتبارها “ثيمة مفصلية” في “رأس حربة الثورة”، ليس فقط في إثبات القدرة الحيوية للشارع المعارض، ولكن أيضا في توظيف هذا المنعطف في “مسح” أي “تلاعب رسمي” أو “أي إجراءات قمعية” بحسب تعبير الشيخ سلمان الذي وصّف ذلك اليوم بأنه “استفتاء شعبي حقيقي”.

بقدراته الاستثنائية؛ نجح الشيخ سلمان في الاستثمار السياسي لتظاهرة ٩ مارس، ومن الأجواء التي واصل الشيخ قاسم في تثبيتها عبر منبره الأسبوعي؛ رسّخ الشيخ سلمان تلك المعادلة السياسية والشعبية التي أحبطت العديد من التلاعبات الخليفية، سواء تلك التي كانت تتم من خلال أدوات التضليل السياسي، أم تلك التي ضختها أدوات القمع التقليدية وغير التقليدية. ومن الممكن توصيف العمل السياسي للشيخ سلمان، وحتى العام ٢٠١٤م؛ بأنه استطاعة متفوقة في الصعود نحو الأفق التغييري الذي كان يرسمه الخطاب القيادي للشيخ قاسم، وهو ما جعل هذا الثنائي واحدا من أهم العلامات التي طبعت الفصل السياسي للثورة في السنوات الأربع الأولى، والتي لم تُصب بعاهات قاتلة في الاصطدام مع الحراك الثوري والاجتهادات الميدانية التي كانت تُمسك زمام الميدان بدرجات عالية.

هذه الاستفادة العملية يمكن استيعابها مع ملاحظة الفروق، والشقوق، التي اجتاحت مواقع المعارضة السياسية والثورية بعد “تغييب” الشيخين قاسم وسلمان، وانحسار تلك القيادية الدينية والسياسية التي تضع في اعتبارها ضرورة الإنجاز “المؤلم” في مناوأة النظام وإسقاط ادعاءاته وحروبه النفسية والدموية، وإلى جانب مواصلة احتضان الثورة والأخذ بأضلاعها المتكاملة. وعند هذه العبرة، خاصة، يُفترض أن يسترجع الجميع تظاهرة ٩ مارس بوصفها مختبرا مستمرا لإحياء الثورة، واستنطاق الدروس التي تحتاجها تحديات الواقع بعد العام ٢٠١٤ (تغييب الشيخ سلمان) ومخاطر هذا الواقع بعد العام ٢٠١٦م (تغييب الشيخ قاسم)، وسيكون من الإيجابي التفكير في هذه الدروس ابتداءاً من الشعار الإستراتيجي القائل “ستعجزون ولن نعجز”، ومن روح تلك القواعد والمباديء التي شيّدها الخطاب السياسي لجامع الإمام الصادق في الدراز، وذلك الخطاب التفسيري والحركي الذي رافقه في جامع الإمام الصادق بالقفول.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى