مقالات

مقولة التعب: كيف عالج الشيخ الديهي معضلة الاستبداد في البحرين

 

البحرين اليوم – (خاص)

باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

“مقولة التعب” هي مبدأ تفاوضي معروف يقتضي أن بدء المفاوضات السياسية تبدأ في حقيقتها عندما تنهار توقعات كل الأطراف، وعندما تستنزف كل أنواع القوة لدى كل طرف، وهذا يعني في النهاية الوصول لما يطلق عليه بمرحلة “العماء”، حيث تنعدم فيها وسائل القوة وأدوات الدفع السياسي، مما يجبر كل الأطراف على تقديم تنازلات كان ينظر إليها على أنها ثوابت أساسية لا يمكن التراجع عنها في مراحل الصراع السابقة على مرحلة “العماء” أو التعب السياسي.

هناك شبه اتفاق على أن معادلة خفية تحكم العلاقة بين النظام والمعارضة في البحرين. فحوى تلك المعادلة أن كلا الطرفين تقع عينه على لحظة التوافق والوصول لدرجة ما من التسوية، هذا مع استنثاء أطراف أخرى من القوى الثورية. بعض قوى المعارضة تراهن كثيرا على حدوث هذه اللحظة التي يتراجع فيها النظام الخليفي عن قوته وجبروته، ويقدم تنازلات غير متوقعة بعد مستوى عنيف من الانتهاكات. والنظام بدوره ينتظر من المعارضة أن تتعب، وأن تنهار قواها الشعبية لدرجة أن تقبل بأنصاف الحلول التي يمكن أن تُقدم لها. فالرهان هنا ليس في حجم الصمود، ولا في نوعية التضحية، بل هو رهان على الانخراط في مقولة “التعب السياسي”.

في هذا السياق، فهم البعض خطاب الشيخ حسين الديهي في الذكرى السابعة لثورة ١٤ فبراير على أنه دعوة للمصالحة وطلب بدء الحوار مع النظام. وكانت ردة فعل قوى الممانعة مشككة في قدرة هذا النوع من الخطابات على محاكاة الواقع المتفجر أو حتى مسايرة الغضب العارم لدى كثير من الناس في البحرين. إحدى مقولات التفسير التي حاولت الاقتراب من خطاب الشيخ الديهي أن خطابه كان مسكونا بمواجهة مشروع النظام الخليفي الذي تحدث عنه الديهي في خطابه، وهو مشروع استبدال القيادات السياسية المعارضة بأخرى موالية وسهلة الانقياد، وربما لا تمثل أي طيف سياسي. ولهذا طرح الشيخ الديهي لحظة التصويت على الميثاق باعتبارها نقطة تاريخية صنعتها الشخصيات المعارضة لا الشخصيات الموالية أو السهلة الانقياد.

تحليلا لخطاب الشيخ الديهي؛ يمكن القول أن لديه مستويين من المعالجة تداخلا بشكل غامض ومربك. فهناك بعد إستراتيجي في الخطاب عبر عنه بالشراكة الوطنية والإجماع الوطني على حماية مقدرات الشعب وثرواته وحقه في المحاسبة والمراجعة، وهذا البعد الإستراتيجي يتضممن مبدأ الحوار والتفاوض من أجل انتزاع هذه الحقوق عبر رافعة الاحتجاج السلمي. ومن الواضح ثبوت هذا البعد الإستراتيجي في خطاب الجمعيات السياسية عموما ولدى “الوفاق” على وجه الخصوص. وقد سعى الشيخ الديهي لإبراز هذا البعد الإستراتيجي كإطار سياسي يعالج به مشكلة الاستبداد السياسي في البحرين، رغم أنه إطار غير مكتمل تماما إنْ لم يكن الإطار المناسب لمنازعة الاستبداد كمشكلة تاريخية وسياسية.

المستوى الثاني الذي تداخل مع المستوى الإسترايتجي هو البعد التكتيكي، وهو بعد مرن بطبيعته وغير ملزم عادة، وخطورته أنه إن لم يكن صريحا فإنه يثير غموضا ويسمح للتأويلات الأخرى بسلطة تفسيره. وهذا المستوى أظهر نفسه في فكرة التبشير عن المشروع السياسي الذي تعده “الوفاق”، وأنه مشروع يستوعب كل القوى وكل الأطراف السياسية، وربطه بشكل غير مباشر بمشروع النظام القائم على فكرة استبدال القيادات السياسية.

مساحة التداخل كانت واقعيا أكثر من القدر المسموح به في الخطابات السياسية المفصلية، إذ كان يُفترض أن يقدم المستوى التكتيكي بشكل واضح وغير متداخل، إما عبر التمهيد له مسبقا بخطابات سابقة أو تأجيل طرحه لمناسبة أخرى تسمح له بالتحرك بشكل حر وبدون تقيدات أخرى. ولهذا وقع الخطاب في مساحات غامضة ومريبة، سواء بالنسبة لجماهير “الوفاق” أو بالنسبة للمراقبين أو حتى القوى السياسية المنافسة للوفاق. أكثر من ذلك، فإن التفسيرات الوفاقية التي لاحقت خطاب الديهي رأته غموضا من حيث اتصاله غير المباشر بخطاب المصالحة والحوار من جهة، ومن جهة ثانية أهم وأبرز وأكثر خطورة وهي علاقة المشروع السياسي الجديد بـ”وثيقة المنامة”، وهل هو تجاوز لها أو تراجع عن سقفها أو أي منطقة سيعالجها هذا المشروع الجديد. وفي الواقع، فإن بعض إحالات خطاب الشيخ الديهي وربطها ربطا تحليليا يزيدنا غموضا إلى الغموض السائد في الخطاب نفسه. فعلى سبيل المثال، عندما راجع الديهي السلطة التشريعية نقد أداها ومستوى معالجتها دون أن ينقض أساسها السياسي الذي ينتج هذه المخرجات الهزيلة والسخيفة.

أمر آخر من المهم الانتباه إليه في هذا السياق، وهو ظرفية خطاب الشيخ الديهي وعلاقتها بالممارسة الخطابية السائدة. فمن الناحية الظرفية؛ جاء خطاب الديهي في لحظة الانفجار الثورية، وإعادة وجهها للسطح، وهذا هو معنى استعادة ذكرى انطلاقة الثورة في مشهدها السابع، حيث جاءت أكثر غضبا وأكثر حماسة من المشهد السادس مثلا، إلا أن السياق الظرفي الأهم أن خطاب الديهي جاء بعد خطابات متعددة للسيد عبدالله الغريفي وبعد ظهور تسريبات عن لقاء السيد الغريفي بخليفة سلمان. وبحكم الصلة المرجعية التي تربط جمعية “الوفاق” بالسيد الغريفي؛ فمن الطبيعي أن تذهب الأنظار إلى أن مفردات المشروع السياسي أو المصالحات الوطنية إلى أن هناك اتصالا بين كلا الطرفين أو أن هناك خارطة طريق غير معلنة لا تزال تدرس معالمها بصورة سرية على الأقل.

معضلة خطاب الشيخ الديهي أنه لم يراع كلا السياقين بحرفية سياسية، ربما لأنه لم يستثمر موقعه السياسي في مواصلة الخطابة السياسية التي تحتاجها جماهير “الوفاق” بعد اعتقال الشيخ علي سلمان، وبعد حلّ الجمعية وفق القانون الخليفي. فخطاب الشيخ الديهي ناغَمَ بدرجة ما خطاب السيد الغريفي، ولكن بطريقة سياسية ركز فيها على أساس المشكلة في البحرين، وهي مشكلة الاستبداد السياسي ومشكلة الاستئثار بالحكم. وبالمثل؛ فإن مقدار الحماسة الثورية والسياسية التي ظهر فيها خطاب الديهي لم تكن بمستوى الحدث التاريخي ولحظة الانفجار الجماهيري.

هذا الجانب يظهر بشكل جلي في مقارنة خطاب الديهي بخطاب بعض قوى المعارضة الممانعة التي رأت في الاستبداد السياسي القائم في البحرين جريمة لا تغتفر، بل إن خيارات تصعيدية أخرى قد تجد طريقها في الظهور إذا ما أصر النظام الخليفي على المضي قدما في الرهان على تعب المعارضة وانقطاع نفسها. وهذه المقولة تُقرّبنا كثيرا من مقولة سابقة للشيخ علي سلمان وهي أن قوى المعارضة لم تستخدم سوى ٥٪ من قوتها في المواجهة.

أيا يكن من ملاحظات أخرى تخصّ الخطاب؛ فإن خطاب الشيخ الديهي وغيره من خطابات الشخصيات المعارضة؛ لا يحظى عادة بممارسة نقدية أو تشريحية، الأمر الذي يثير مجموعة من التفسيرات والتأويلات التي تأخذ حيزها لاحقا في فراغات الغموض التي يخلقها الخطاب السياسي المعارض عموما.

في كل الأحوال، فإن هناك حاجة لأن نجترح الرؤى وأن نعيد القراءات السياسية بأنظار مختلفة، لا من أجل تسخيفها أو تسقيط قائليها، وإنما من منظور نقدي ديمقراطي يسمح بالتعدد ويتجاوز الحزبية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى