ما وراء الخبر

قضية خاشقجي: الفرص الضائعة.. والقنص الحاضر

 

البحرين اليوم – (متابعات)

أتاحت قضية الصحافي جمال خاشقجي فرصا عديدة لاختبار العديد من السياسات والإستراتيجيات في المنطقة. حتى الآن، أصبح النظام السعودي كامل الأوصاف لجهة الانتماء إلى المافيا الدموية. وهذه قيمة معنوية وسياسية غير مسبوقة في محتواها وشواهدها اليوم، ومن الممكن أن تؤسّس لنقلة نوعية في ترتيب الرؤية الكاملة للمنطقة، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة ما بعد آل سعود.

في الأجواء الأولى الغامضة لقضية اختفاء خاشجقي، خرج الرئيس الأمريكي ترامب بأكثر من تصريح، وعلى الملأ، وأكد جوهر السياسة الأمريكية، وهي أنها تبحث عن مصالحها الخاصة، وليس لديها أي اعتبار أو مبادئ، عدا عن الحصول على المزيد من الأموال. وكانت السعودية، تحديدا، في واجهة هذه التصريحات التي اعتبرها كثيرون إهانة على الهواء للنظام الوهابي الذي يهيمن على أكبر ثروتين في العالم: الثروة النفطية، والثروة المعنوية بوجوده في بلاد الحرمين الشريفين.

لم يكن غريبا أن يلجأ السعوديون لهاتين الثروتين في معرض الرد على التهديدات، الأشد ربما منذ ٣ عقود التي وُجهت إليهم بشأن قضية الاختفاء الشهيرة. فأصدرت الخارجية السعودية تصريحا هدّدت فيه باستعمال هذين السلاحين في حال تنفيذ التهديدات ضدها، وذكّر البيان بأن السعودية هي بلاد الحرمين الشريفين، ويمكنها أن تستعمل سلاح الاقتصاد في وجه هذه التهديدات وفي حال تنفيذها.

إلا أن التهديد السعودي لم يكن جديا، لا في الشكل وفي الإرادة السياسية. فلم يصدر بيان الخارجية باسم الوزير، أو أي مسؤول سعودي باسمه، بل صدر باسم “مصدر مسؤول”. وهذه الحيلة معروفة في عالم السياسة، وعادةً ما يتم استعمالها لإضفاء رسائل أخرى من وراء التصريحات، غير تلك التي تبدو من ظاهرها. وهي رسائل أراد السعوديون بثّها بوسائل أخرى غير مباشرة أيضا، من قبيل الإيعاز لكتّاب موالين لها لكتابة مقالات “تعبر عن رأي أصحابها”، تتضمن “شجاعة” مصطنعة ضد الولايات المتحدة، وردا على “إساءات” ترامب ضد آل سعود في شأن تصريحاته بأن واشنطن هي التي تضمن حماية عرشهم مقابل ما يدفعونه من أموال، وغير أموال. إلا أن بيان السفارة السعودية في واشنطن الذي أعاد التذكير بعمق العلاقة مع ترامب، والتأكيد على إستراتيجيتها؛ يؤكد المعنى ذاته الذي أراده السعوديون من وراء تصريح “المصدر المسؤول”، وهو: “نحن معكم، وفي خدمتكم، ويمكن أن تأخذوا المزيد منا، ولكن رجاءا بلا إهانات علنية”

تبينت الخطوط سريعا، فبعد التهديد باستعمال سلاح الاقتصاد، وبالتوازي مع اتصال ترامب مع الملك سلمان، بدأ السعوديون يرضخون للضغوط، وسربوا على وسائل الإعلام الأمريكية (مثل السي إن إن)، وبوسائط من مسؤولين أمريكيين؛ أنهم على وشك الاعتراف بتصفية خاشقجي في مبنى القنصلية في اسطنبول، في حين تبرع ترامب بتوفير التبرير والغطاء الذي يحمي “حلفاءه”، وتحدث عن “قتلة مارقين” يُحتمل أنهم متورطون في الجريمة. وعلى هذا المسار، يمكن استكشاف بقية القصّة التي يرى كثيرون أنها لازالت في بدايتها.

بالعودة إلى أول الكلام، وبمعزل عن نهايات قصة خاشقجي وتفاصيل التداخلات التي يجري الترتيب لها، فإن القوى المعارضة في البحرين والمنطقة الشرقية والخليج؛ توفرت لها فرصة “من السماء” لتجديد قوتها في معركة الديمقراطية وإسقاط الأنظمة الاستبدادية في الخليج. صحيح أن قضايا كثيرة مرت على هذه المنطقة، وتفُوق في بشاعتها جريمة قتل خاشقجي، إلا أن التوظيفات – المقصودة وغير المقصودة – التي رافقت هذه الجريمة؛ تجلعها ملائمة بامتياز لدفع الحراك السياسي المعارض في الخليج، وبما يعزز المنطلقات الأساسية التي يُفترض أن هذا الحراك بات يُجمع عليها في الآونة الأخيرة، ومن ذلك:

  • الخطر الدائم الذي تمثله أنظمة الاستبداد الخليج، بقيادة السعودية، على أمن المنطقة واستقرارها.
  • الطبيعة المافويّة للنظام السعودي، ويده الطولى في ارتكاب الجرائم العابرة للحدود. وكانت نداءات المعارض البارز سعيد الشهابي لافتة في هذا السياق، حيث دعا إلى حماية دولية للنشطاء في أعقاب قضية خاشقجي، وتلويح موالين لآل خليفة بأن هناك نسخا للصحافي المغدور به، وينبغي التعامل معهم بالمثل أيضا.
  • هيمنة السعودية على كثير من دول العالم العربي والإسلامي، وإجبارها على الالتحاق وراءها، والدفاع عنها في وجه الضغوط أو الدعوات المحلية والخارجية للكف عن الانتهاكات والجرائم. أي أن السعودية هي محور حقيقي للشر والقمع والقتل والاستبداد في عموم هذه المنطقة ودولها.

تبرز هذه المنطقة بوجه مختلف بين مرحلةٍ وأخرى، وبخارطة جيوسياسية قابلة للانفجار. إلا أن المعارضين في الخليج كانوا أقل المعارضات العربية، وغير العربية، نجاحاً في إدارة مثل هذه المراحل لصالح تحقيق طموحات شعوبهم في الديمقراطية والخلاص من الديكتاتوريات.

برز هذا الإخفاق جلياً في قضية البحرين والقمع الذي تعرضت له، حيث برز الخذلان والتآمر من أطراف عديدة كان يُفترض أن تكون في صف الثورة الديمقراطية في هذا البلد الخليجي، كما لم تستطع معارضة البحرين وحلفاؤها تجميع نقاط القوة وتركيزها في اتجاه موحد وإستراتيجي لإسقاط النظام القمعي. كما ظهر هذا الإخفاق الخليجي بوضوح أكثر في ملف الحرب السعودية على الحرب، والتي تسببت في أكبر كارثة إنسانية معاصرة. إلا أن القوى الديمقراطية في الخليج – بما في ذلك اليمن والعراق – بدت في أداءات محكومة بردة الفعل، والانحصار في صيغ الضغط الحقوقي وما شابه، في حين كان النشاط السياسي الدولي ضئيلا.

ما بعد القنصلية في اسطنبول ليس كما قبلها. هذا العنوان، لا شك، حقيقي بالمعنى الإستراتيجي، إلا أن المعارضات الديمقراطية في الخليج ليست جاهزة حتى الآن لاستيعاب هذه الانتقالة أو القطيعة التاريخية، بخلاف القوى والأنظمة الإقليمية والدولية التي استطاعت – ببراعة – أن تدير قضية القنصلية لصالحها، بدءا من تركيا المليئة بطموح العثمانية الأردوغانية، ومرورا بالأوروبيين الذين يتغالبهم أكثر من شعور تجاه/ضد السعوديين، وطبعاً ليس انتهاءا بالأمريكيين الذين يمثلون الفاعل الأقوى في هذه القضية، كما في غيرها من القضايا السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى