ما وراء الخبر

تدرّجات القمع والجريمة في البحرين: عمّال النظافة ومشروع “البدلاء”.. ماذا على المعارضة أن تفعل؟

 

البحرين اليوم – متابعات

يقول ناشطون بأن “التدهور المتتابع” لأوضاع حقوق الإنسان في البحرين لم يتوقف على الرغم من مرور فترة طويلة منذ اندلاع ثورة البحرين في ١٤ فبراير ٢٠١١م، ويؤكد النشطاء بأن “نشطاء حقوق الإنسان وحرية التعبير معرضون بشكل خاص لخطر التعذيب المتزايد”.

هذه الحقيقة التي توردها مثلاً مؤسسة Fanack الهولندية في تقرير عن أوضاع البحرين؛ تبدو واحدةً من أهم الخلاصات التي يستند عليها المواطنون في رهانهم المعروف على مواصلة الثورة، وعدم الركون إلى الخيارات الأخرى التي أضاعت، بحسب معارضين، “البوصلة” وخاصةً بالنسبة لبعض القوى السياسيّة، إلا أن “الإيقاع” التصاعدي للترهيب والإرهاب الخليفي أتاح الفرصة – من ناحية أخرى – لتثبيت معادلة الثورة الأولى التي تم تثبيتها على منصب دوار اللؤلؤة في الأيام الأولى للثورة، والتي ترى أن “البناء الرسمي كلّه” غير نافع، وليس فيه صلاحية للبقاء، فضلاً عن إدارة الحكم، وتم اختصار المعادلة في الشعار الأصيل للثورة، المتمثل في شعار “يسقط حمد”.

منذ يونيو ٢٠١٦، وحتى يوليو ٢٠١٧م، توجد مساحات واسعة لإثبات تلك الرؤية، وإنهاء الجدل التقليدي الذي طبعَ السنوات السابقة من عمر الثورة، وذلك بشأن “السياسي” و”الحقوقي” و”الثوري” في إدارة الصراع مع آل خليفة. فقائمة الانتهاكات والجرائم – بالمعنى الحقوقي – التي ارتكبها الخليفيون خلال الفترة المذكورة؛ تبدو كافية لإعادة التفكير في خطوط الاتصال والإنفصال بين الثلاثية المُشار إليها، وتحديدا لجهة التأكيد على أن المهمة الحقوقية حينما تؤدي غرضها الكامل؛ فإن اللحظة تكون جاهزة للانتقال الحثيث نحو العمل السياسي والثوري على أوسع نطاق، وأنّه – في المقابل – حينما يحدث أيّ تأخير في هذا الانتقال، أو حين يتم متأخِّراً أو من غير جاهزية مسبقة، فإن النتائج ستكون خطيرة، كما أن الأهداف المرجوَّة من النظام من وراء إيقاع الانتهاكات ستكون (أي هذه الأهداف) في متناوله وسهلة التحقيق. وهذا هو الأخطر.

خلال الثلاثة عشر شهراً؛ أخذ “برنامج” القمع والترهيب والاضطهاد الوتيرة الممنهجة التالية:

– كسْر “الخط الأحمر” المتعلق بالرموز والشعائر والعلامات الدينية التي تمثل الأساس الجوهري للوجود الأصيل في هذه البلاد (بدءاً من الاستهداف المباشر للشيخ عيسى قاسم، وليس انتهاءا بموضوع الخمس وقانون الأحوال الأسرية). وأُريد من ذلك تفريغ قوّة الضغط والتأثير المباشر للمؤسسة والرمزية الدّينية في الشأن، واستضعافها إلى الحدود التي تجعلها في موقع دائم للدفاع وردّ الاتهامات والشّبهات الملفقة.

– إسقاط الاعتبار الفعلي والرمزي للمؤسسات الحقوقية، الدولية والأممية، والتعاطي معها بوصفها أداة فاقدة للتأثير الدّاخلي وإحداث التغيير الجوهري لنظام الأشياء. (كما هو الحال مع الهجوم الرسمي على المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والتلاعب الحكومي الفجّ في طريقة الاستعراض الدوري وردّ المساءلات والاتهامات الموجهة للنظام، والاستخفاف بطلبات الأمم المتحدة لزيارة البلاد وإعطاء المواعيد والوعود بهذا الشأن ثم سحبها في لحظة واحدة ومن غير إشعار مسبق).

– تطيير العمل السياسي كليةً، وعدم إتاحة الحدّ الأدنى والشكلي من المعارضة، وإشعار أيّ صوت معارض بأنه سيكون موضوعاً للملاحقة، والاعتقال، والتعذيب، والابتزاز، إلى أن يستسلم ويصْمُت، أو يقطع أجنحته ويظل “يغرّد” من غير لسان حاد أو لغة واضحة. هذا التطيير للعمل السّياسي جاء، خلال الأشهر الماضي، متدحرجاً وسريعاً وبوسائل صريحة في إبلاغ السياسيين المعارضين بأنه لم يعد مرحّباً بهم، وأن الصّبر عليهم قد يأخذ بعضُ الوقت، ولكن الضربة حين تنزل عليهم فإنها ستكون عنيفةً وأكثر مما هو متوقّع.

– إنهاء العهد الحقوقي الذي كان يُتاح فيه للنشطاء أن يكونوا مطمئنين إلى الحماية “الدولية” رغم حرصهم على العمل الحقوقي وفق آليات الأمم المتحدة والقوانين الدولية. وإنهاء هذا الاطمئنان لم يكن على نحو متدرج، ولكنه جاء ساحقاً ووحشياً، على النحو الذي يظهر مع الاستدعاءات بالجملة التي تعرّض لها النشطاء، وعمليات الإخفاء والتعذيب الجسدي والنفسي والتحرُّشات الجنسية والتعدّيات اللفظية والمذهبية التي أحيطوا بها من قبل ضباط التحقيق. وحرص الضباط على أن يقدّموا “أمثلة حيّة وجدية” لما يمكنهم فعله – دون تردُّد أو خوف المساءلة – ضد النشطاء في حال أصروا على مواصلة الطريق وتحدي الترهيب والوعيد. كما هو الحال مع حالة الرمز الحقوقي نبيل رجب، والذي يريد النظام أن يجعله مثالاً على إظهار قدرته (أي النظام) على فعل أكثر أنواع الانتقام وحشية بحق النشطاء الحقوقيين، مهما أحيطوا بالاهتمام الدولي وبيانات الدعم الأممية وكبرى الدّول والمؤسسات الدولية. كما أن حالة الناشطة ابتسام الصائغ؛ تأتي في هذا السياق، وتحمل رسالة من النظام فحواها أن الوحشية التي لا يتردّد الخليفيون في تفجيرها لا تقف عند حد أو يحدّ منها استنكارٌ هنا أو قلق هناك.

– الإجهاز على آخر ما تبقّى من صوت إعلامي حر أو شبه حر، وذلك بعد إغلاق صحيفة (الوسط)، والذي جاء تتويجاً لتحريض ممنهج تعرضت له الصحيفة من قبل أجهزة الإعلام الرسمية، وعلى نحو مكشوف، في الوقت الذي كان إغلاق الصحيفة – توقيتاً وبحسب ظروف المحيطة – مؤشراً إضافياً على أن المنهج القمعي الذي استهدف الأداء الصحافي للوسط؛ كان خليطاً من إسكات الصوت الآخر ومحاصرة المنافذ المحتملة التي يمكن أن تكون فرصة مؤاتية لإزعاج تسلسل مشروع النظام في فرض النموذج التسلّطي الكامل.

– التهيئة المدروسة للعناصر البديلة التي تتولى مهمة إعادة تعويم النظام في أوساط المجتمع، وتقطير “الشرعية المفقودة” بشكل متدرّج على المؤسسات الرسمية التي نالت النبذ والمقاطعة النفسية والعملية من عموم الناس والمعارضة. وتقوم هذه العناصر البديلة – بحسب الخطّة – بأدوار مكمِّلة حينما يظن النظامُ بأن البيئة العامة باتت ملائمة لحصاد مشاعر “اليأس” واللا جدوى من استمرار الوضعية التي تعبّر عنها حالة الثورة.

فما العمل؟

جزءٌ من الخيار الذي يلوذ به الذين لم يكونوا مؤمنين، في العمق، بالثورة هو الالتحاق اللّحوح بهذا المسار والبناء على نتائجه، أي الذهاب – بوعي أم بلا وعي – لتنفيذ الأجندة الرسمية المعدَّة للمستقبل القريب. ولا شك أن أيّ تقييم لهؤلاء لا ينبغي أن يكون معزولا عن حقيقة موقفهم غير الواثق، أو المؤقت، حيال الثورة التي تظل هي المكوِّن المعنوي المجتمعي الوحيد الذي حافظ على ثباته، وهي ثباتٌ يريد “عمّال النظافة” المولعون بسرعة الانتقال إلى اللّحظة القادمة؛ أن يسبغوا عليه كلّ أوصاف السوء، لجعله علامةً على الجمود، وعدم الرغبة في إنقاذ الناس من معاناتهم، والمتاجرة بها وفيها، فضلا عن تكرار الحديث عن فقدان الواقعية السّياسية وغياب المشروع السياسي المعارض البديل، وكلُّ ذلك يُراد منه أن يكون مساعِداً للبدلاء ليشقّوا طريقهم بسهولة.

هي، ولا شك، مهمة محاطة بالعُسر والصّعاب، ولاسيما مع تراكم الأدلة المتتالية التي وفّرت الإثباتات الواضحة على مقولات الثورة. إلا أن التزاحم غير المدروس – وأحياناً التنافس غير الشريف – بين الفاعلين في العمل الثوري والعمل السياسي من جهة، والعمل الحقوقي والإعلامي من جهة أخرى؛ شكّل تحدياً أو عائقا في رؤية حقيقة ما يجري من أحداث، وفي استبصار خارطةِ الطريق التي يتوجب الأخذ بها للخروج من هذه الأشواك المتداخلة. وهذا ربّما ما يستعمله “عمّال النظافة” المشار إليهم في ترويج بضاعة الاقتراب إلى النظام وأيّاً تكن التوقعات متدنيّة منه، وذلك تحت مبرّر أن التوقعات متدنيّة أيضاً من الفاعلين في المعارضة. إلا أنّ هذا التبرير لا زال غير قادر على تركيز دلائله المقنعة، وإلحاق أنصار قديرين معه. ولعلّ البشاعة غير المحدودة التي يظهر به النظام، يوماً بعد آخر، هو أحد أهم أسباب إعطاب أي مشروع يجري الإعداد له في غرف “الحرب الناعمة” ضد المعارضة والثورة في البحرين.

اليوم باتت “مملكة التعذيب” حقيقة فعلية، والنظام لم يدخر شيئا لاستعماله في أيّ خطة للرجعة والاستدارة المنطقية أو في مساعدة “السياسيين المعتدلين” لتدوير زوايا القمع الفاحشة. والوضع الدولي والإقليمي، من جهة أخرى، غارقٌ في انشغالات أخرى غير تحليل التقارير الحقوقيّة واستخلاص التوصيات منها. يدفع ذلك بالفكرة الهامة التي تقول بأن المهارةَ المتبقيّة التي لم يضخ البحرانيون فيها جهدهم الكامل والمدروس، هي التي تتعلق بالعمل المعارض الجماعي، وتوصيل الخطوط المباشرة والتكاملية بين الميدان الثوري والخطاب السياسي، وعلى قاعدة أن الملف الحقوقي ما عاد ينقصه شيء غير أن يبدأ وقت الاستثمار والتوظيف في الميادين الأخرى.

الذين ينتقدون الثورةَ في البحرين هم الذين لا يريدون مغادرة الزوايا الضيقة التي يعيشون فيها، قبل الثورة وبعدها. هناك إعلاميون ومثقفون وحقوقيون وسياسيون تقليديون لا يرون أنهم مستعدّون، نفسياً وذهنياً، للتخلُّص من توقعاتهم ومتوقعاتهم السابقة، والتي لا تجد حتى الآن نصيباً من الوقوع. ويصرّ هؤلاء، وبدافع داخلي لا يبتعد عن عامل المصلحة الشخصية؛ على التشبّث بتلك التوقعات والمتوقعات، مع إضفاء تحسينات عليها، أو الزيادة فيها لكي لا ينكشف أنهم متورطون بالتهمة التي يرمونها على الآخرين: أي تهمة عدم الواقعية والتصلّب على الرأي المسبق. فهؤلاء، مثلا، يتوقعون أن إرخاء الموقف المعارض وتليينه، وإلى حدود الاستسلام السياسي؛ من الممكن أن يدفع النظام لإرخاء جزئي على أصعدةٍ معينة وفي ملفات محدودة. ويتوقعون أيضاً أن تركيبة النظام مازالت مؤهلة أن تكون معنيّة لإحداث “إنفراجة شكلية” تريح الناس من معاناتهم المتعلقة بالحقوق العامة. ولكن، لا يُرهق هؤلاء أذهانهم للإجابة عن الأسئلة التي تُشكك في كلّ ذلك، ولسبب بسيط وهو أن النظام القائم هو ذاته الذي أخلّ أكثر من مرة بتعهّدات سابقة، وهو الذي يُبقي حتى اليوم برموز وشخوص وأدوات القمع والكراهية والاضطهاد التي مورست قبل الثورة وبعدها، ويمنحها الحماية والترقية وإعادة التوليد والتوالد دون توقف. ليس هناك من إجابة على السؤال المتعلق بالضمانات التي يمكن أن يقدّمها النظام للالتزام بأدنى “الإصلاحات”، في مقابل تخلي الناس عن أقصى “القناعات”.

إنّ دوائر القمع والترهيب التي تمتد في كلّ اتجاه وفي كلّ الملفات؛ هي وحدها كفيلة أولاً بتعجيل فشل أي مشروع لإنتاج “البدائل”، ولكنها – ثانياً – تمثل الفرصة الذهبية للمعارضة البحرانية من أجل أن تُسرع الخُطى لإنجاز المطلوب منها، ولسدِّ التبريرات التي يتغطّى خلفها البعض لترويج أفكار العودة إلى أحضان السلطة والتعايش مع أنيابها. والمطلوب من المعارضة، كما جاء أعلاه، ليس أكثر من صعود الدرجة الأعلى بعد درجة الإنجاز الحقوقي الكامل، وهي درجات العمل السياسي المحترف، ودخول معترك الصراع الإقليمي والدّولي من خلال ثالوث: الميدان الثوري الذي لا يرى غير مقاومة النظام والاحتلالات التي أتى بها، والقيادة السياسيّة الموحَّدة التي تخوصُ في خرائط المنطقة الملتهبة وتتحرُّك فوق جمارها وتأخذ منها الإرادة الثورية والديمومة في مغالبة النظام وجنوده وعلاقاته ومرتزقته في الداخل والخارج، والصعود بعد ذلك فوق كلّ المنصّات والفضاءات التي تُسمع العالم صوت الناس الذي لا تراجع عنه: “يسقط حمد”، مصحوباً بورقة الرؤية المشتركة التي تمثل البديل لمرحلة ما بعد آل خليفة.

هذا مطلوب اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، ليس فقط للتعجيل في كشف السياسيين المزيفين الذين يجري إعداهم لزجّهم داخل المجتمع، ولكن أيضاً لأن الظروف القائمة فيها أكثر من محفّز مساعد لإنجاح الصعود السياسي الثوري للمعارضة خارج حدودها المعهودة، الجغرافية والخطابية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى