حكايات الضحايا

محمد الفرج: ضحية الانتقام القذر

البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)

 

محمد الفرج هو أكبر اخوته الثلاثة، أمضي عيد ميلاده السادس عشر تحت قبضة الجلادين في زنزانة معتمة بعد أن أنهي شهرين في السجن الإنفرادي بعد اعتقاله مع مجموعة من شباب بلدة العوامية بالقطيف، شرق السعودية، بعد ثلاثة أيام من عيد الفطر في المدنية المنورة. يمتاز محمد بروح اجتماعية مرحة، وهو نشيط في حركاته، وبسبب ضخامة جسمه مقارنة بعمره صار يشارك في لجان حماية المواكب الحسينية في منطقته بعد الهجمات الإرهابية التي تعرض لها المواطنون الشيعة في المنطقة الشرقية. يصفه القريبون منه بأنه ذو وعي متقدم على عمره وأقرانه، فهو يختار مواقفه بوعي، ويدافع عنها، ويصمد أمام مخالفيه في الرأي. لا تختلف حكايته عن حكايات شباب العوامية الآخرين الذين اعتقلوا فجأة ودون أي تهم حقيقية، كما لم تختلف عذاباته في السجن عن أصدقائه الذين عُذّبوا بفظاعة وحشية في مملكة السوء.

أحداث حي المسورة التاريخي بالعوامية كانت عصية على عصبة الحكم في مملكة آل سعود، وقد أصابتهم بمقتل، فبالرغم من جرف أحياء المسورة بالقنابل والجرافات العسكرية؛ إلا أن ذلك الركام جرف معه هيبة المملكة البائسة وقوتها المتضخمة، ولهذا هرع الجلادون لإعادة الاعتبار لأنفسهم عبر استهداف المواطنين والتنكيل بهم أينما كانوا.

يقع بيت محمد الفرج قرب مركز للشرطة، وهو مضطر يوميا أن يمر بنقاط التفتيش، حاله حال مواطني أراضي فلسطين المحتلة عندما يعبرون على الحواجز ويتعرضون للإذلال اليومي. وكانت والدته تحرص أن تأخذه معها يوميا لتوصله للمدرسة التي يحبها، وكان على وشك الانتهاء من مرحلته الإعدادية ليدخل مثل غيره المرحلة الثانوية. إذن، كل الأمور كانت تجرى بشكل طبيعي تماما، فالشرطة الذين يفحصون الهويات لا يفوتهم أي مطلوب أو مشتبه به.

فجأة يجد محمد الفرج نفسه في المدينة المنورة – بعد الانتهاء من زيارة قرب النبي الأكرم –  محاطا برجال مخابرات وهم يرتدون لباسا مدنيا، وفوهة البندقية موجهة إلى وجهه، ويطلبون منه النزول هو واصدقاؤه، لتبدأ رحلته المؤلمة والغامضة، ولتبدأ معها سلسلة المواقف الانتقامية منه ومن عائلته. ولكي يصيب العذاب الجميع؛ يُطلب منه الاتصال سريعا بأهله وإخبارهم أنه في مباحث المدينة، ويُقطع الاتصال. يذهب والده ليسأل عنه هناك، لكنه يلقى الرفض والنفي ليزيده عذابا على عذاب فراق ابنه الأكبر. بعد خمسة أيام من اعتقاله؛ يعاود محمد الاتصال بأهله ويمضي معهم ثلاث دقائق فقط ليُخبرهم أنه في مباحث الدمام. الدقائق الثلاث كانت الفرصة الوحيدة لوالدته لأن تعطيه الوصايا المهمة: ” عليك بالارتباط بالله كن مع الله دائما…”. وصية الأم المكلومة كانت الرقية التي حملها محمد ليواجه سجنا إنفراديا لمدة شهرين متواصلين لا يرى فيها غير جلاديه وسياطهم السوداء.

انتهت فترة الثلاثة أشهر ليُسمح لعائلة محمد بلقائه في زيارة بعد عيد الأضحى، وجدوه حليق الشعر، متعثرا في كلماته، مظهره تغيرت كثيرا، وملامحه تكاد تختفي، صداع مزمن مع مشكلة في ارتفاع الضغط نتيجة الوقوف الدائم والمستمر لساعات. لكنه يتهرب من سرد تفاصيل التعذيب الذي تعرض له. لماذا كان يتهرب من سرد معاناته؟ هل هُدّد بأن يُوقع عليه كيل العذاب مرة أخرى؟ هل أصبح التعذيب له عاديا، واعتاد عليه، فَفَقد الإحساس به؟ لا إجابات مقنعة تقنع العائلة التي خرجت من الزيارة وهي مذهولة وعليها الصدمة مما رأته من حال ابنها البكر. مشاعر صعبة ومؤثرة يكف القلم عن سردها، لكنهم عرفوا أنه واجه أياما عصيبة تشيب منها الرؤوس، فما بالك بطفل ذي ١٥ عاما.

المحققون معه يعرفون صعوبة الدخول لمنزله، فضلا عن الدخول لحي المسورة، لكنهم يصرون عليه ويجبرونه على الاعتراف بتهم لم يقم بها ولم يفكر بها أصلا. أما الخرف لديهم فبلغ أقصاه عندما وظّفوا مكان بيت محمد الفرج وقربه من مركز الشرطة؛ لتلفيق تهم مزعومة ضده.

يستمر عناء العائلة وابنها عندما يصر محمد على استكمال دراسته وهو في السجن، إلا أن إدارة السجن تهمل الموضوع وتدّعي ضياع أوراقه المدرسية التي قُدّمت لإدارة السجن مرة بعد أخرى. لكن محمد الفرج يبقى صامدا وملهما في صموده لمن هم أكبر منه عمرا. فهذا الشاب المقبل على الحياة؛ يعرف جيدا أن لحب أهل البيت ضريبة قدمها السابقون من شهداء العائلة ومعتقليها.

يعرف محمد الفرج أن باب زنزانته سيُفتح له يوما ما، وسيخرج ليروي لنا أيام الوحدة والعذاب، وليكتب شهادة حية تدين مملكة السوء وجلاديها الذين يتهاون سقوطا وانهزما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى