ما وراء الخبر

المصالح الثابتة والقيم الطيّارة: أمريكا “شيطان أكبر”.. ولكن!

البحرين اليوم – (متابعات)

من الأسئلة الصعبة بالنسبة للكثير من المتابعين والمشتغلين في الملفات السياسية؛ هو السؤال المتعلق بالموقف من الولايات المتحدة، أو الإدارة الأمريكية تحديدا. لا يختلف أحد، من الناحية النظرية على الأقل، بأن هذه الإدارة ليس لها أمان، ولا يمكن أن تكون حليفا أو عونا للشعوب، أو من نطلق عليهم في الخطاب الخميني بـ”المستضعفين”. ففي نهاية المطاف؛ أمريكا هي “شيطان أكبر”، وقد كانت كذلك وستظل على هذه الحال، حتى إشعار آخر. ولكن ألا يتطلب الموضوع مقاربة أخرى حينما يتعلق الأمر بالعمل السياسي؟

في البحرين، يمثل الملف الأمريكي معضلة مضاعفة. الخطاب الخميني الذي يؤمن به أغلب التيار الديني المعارض في البلاد؛ يصر على اعتبار الأمريكيين “شيطان” حقيقي و”شر مطلق”، وهذا ليس – فقط – اعتقادا أيديولوجيا موروثا من الفكر الثوري الذي أسسه الإمام الخميني الراحل، ولكن إضافة إلى ذلك فإن السلوك العملي للأمريكيين كان على الدوام يبرهن، وفي كل مرة، على صحة هذا الاعتقاد الراسخ. ونتذكر في هذا المجال كيف أن الخطاب المبدئي الذي ثبّته، على مدى أكثر من عقدين، آية الله الشيخ عيسى قاسم حيال الأمريكيين؛ نبّه مرارا إلى أن “السهم المثلث” الذي يطلقه الأمريكيون ينبغي الحذر منه ولو جاء تحت يافطات براقة، مثل دعم الديمقراطية وتدريب الشباب على “القيادة” والعمل المدني والابتكار للمستقبل. ففي كل الأحوال، هناك أهداف مبيتة وراء ذلك كله، وهي تصبّ حصرا لصالح الموقف الأمريكي والسياسات المقنّعة التي يتسلّل بها الأمريكيون في كل الملاعب التي يخوضونها.

قسم واسع من السياسيين – بمن فيهم الذين يمثلون تيار الشيخ قاسم – لم يَرُق – عمليا – لهم هذا الخطاب، واعتبره البعض جزءا من الشعارات “الخشبية” التي تتعارض مع قواعد العمل السياسي ومتطلبات التعامل مع اللاعبين المؤثرين في المسرح السياسي المحلي والإقليمي والدولي. وبالفعل، جرّب هؤلاء السياسيون حظوظهم مع الأمريكيين في محطات عدة، والحقُّ أنهم حصلوا على بعض “النتائج الإيجابية”، ولكنها ظلت في النهاية مقصورة على الحدود “اللفظية” والشكليات التي لا تغير اتجاهات الواقع القائم، وذلك على نحو إدانة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما علنا لانتهاكات النظام في العام ٢٠١١م وذكْره لجمعية “الوفاق” في موضع الحديث عن استهداف النظام للنشاط السياسي المعارض. وكذلك الحال بالنسبة للقاءات وزيارات المسؤولين والسفراء الأمريكيين مع المعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين، والتصريحات الأمريكية التي بدت أنها مؤيدة للقوى المعارضة في البلاد، فضلا عن التقارير السنوية التي تصدرتها الحكومة الأمريكية، مثل تقرير الحريات الدينية وتقرير أوضاع حقوق الإنسان. لاشك أن كل ذلك يمثل “حصيلة” لافتة في أجندة العمل السياسي المعارض، ولكن من المفيد أن نتساءل هنا: هل كانت تلك الحصيلة نتيجة للعمل السياسي المعارض بالفعل؟ أم أنها نمط معتمد لدى الإدارة الأمريكية وهي تمارس سلوكها المزدوج المعتاد؟

بمعزل عن الإجابة على ذلك السؤال، من المهم بالنسبة للمعارضة البحرانية أن تعمل على إعادة ترتيب خطابها وسياستها حيال الإدارة الأمريكية، وأن تجتهد في تغيير طريقة تلقيها وتوظيفها وتوقعاتها من تصريحات ومواقف وتقارير الأمريكيين، والمطلوب في هذا المضمار هو أن تجمع المعارضة بين حقيقة ومصداقية الموقف المبدئي الذي تعبر عنه عقيدة أن “أمريكا هي الشيطان الأكبر”، وبين ضرورة وعقلانية الموقف السياسي الذي يفترض أن يخوض حروبه في كل الميادين والساحات، بما في ذلك ساحات الشياطين الصغار والكبار. الجمع بين هذين الأمرين ليس من قبيل “الجمع بين النقيضين”، بل هو إعادة تركيب للأمرين، وعلى طريقة “وحدة الهدف وتنوع الأدوار” التي تجري بحكم المتعارف وليس التنسيق بين القوى السياسية من جهة والقوى الثورية من جهة أخرى، ولكنه تركيب يمكن أن يكون منتجا أكثر في حال لم يذهب توقُّع القوى السياسية بعيدا إزاء الأمريكيين، هذا من جانب، ومن جانب آخر في حال أتاحت القوى الثورية للسياسيين المعارضين المساحة “المعقولة” للمناورة مع “الشيطان الأكبر”. واضح أن المسألة تتطلب ترسيما دقيقا لمضامين الخطاب، ولحدود العلاقة تجاه الإدارة الأمريكية، ولكن ذلك ليس مستحيلا.

لنأخذ على ذلك مثالا. في فترة متقاربة أخيرة؛ صدر عن الأمريكيين موقفان يبدوان متعارضين حيال الوضع في البحرين. في الخانة السلبية، أصدر السفير الأمريكي في المنامة جاستين سيبيريل تصريحات “استفزازية” بنظر القوى الثورية، وذلك عندما  تحدث عن علاقات وطيدة مع النظام الخليفي ودور هذه العلاقة في ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة، وفق ادعائه. السفير ذو الخلفية الأمنية لم يتطرق للوضع الحقوقي في البلاد، ولم يكن ذلك بالطبع جهلا منه لهذا الوضع، ولكن لأنه ليس معنيا به إطلاقا من الناحية الرسمية، بقدر اهتمامه بأداء الدور الذي يريده رئيسه دونالد ترامب، أي أن تكون العلاقات المربحة هي الأولى، وليس أي شيء آخر. الوضع الحقوقي، وفي الخانة الإيجابية، كان حاضرا بالتفصيل في التقرير السنوي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الخارجية الأمريكية – وهي الدائرة التي يُفترض أن يمثلها سيبيريل – وقد رصد التقارير أبرز انتهاكات النظام وفي مختلف الملفات. فماذا يعني ذلك؟ وكيف يُقارب الناشط السياسي والثوري هذين المشهدين؟ وهل هما متناقضان ويعبران عن توجهان داخل الإدارة الأمريكية؟

بالطبع لا يوجد تناقض، ولا تعدُّد أجنحة في هذا الشأن، فالموقف الذي عبر عنه السفير الأمريكي هو الموقف الإستراتيجي الذي رأيناه في كل عهود الرؤوساء، أما التقارير الحقوقية الأمريكية فهي “عمل تقني” معتاد في المؤسسات الحكومية، حيث تضمن بها الإبقاء على الوجه المركب للحكومة الأمريكية: المصالح الثابتة، والمباديء الطائرة. فيمكن للأمريكيين أن يُقنعوا حلفاءهم بأنهم باقون في الحفاظ على علاقات المصالح، ويمكنهم في الوقت نفسه المحاججة، ولو شكليا، بالتزامهم بالمباديء والقيم الإنسانية العليا. ولكن هناك فرق كبير؛ فالحلفاء لهم المواقف العملية، وللرأي العام والشعوب التقارير والتصريحات الصحافية.

أمام ذلك، لا ينبغي للمعارض السياسي أن يتناسى هذا الوجه المركب، وألا يساوره الخلط بينهما، أو الاعتقاد بأن المصالح والقيم معا من الثوابت عند الأمريكيين، وهو أمر قد يأسر بعض السياسيين حينما يغدق عليهم مسؤول أمريكي بكرمٍ الدعوة لحفل معين، أو الزيارة لمجلس رمضاني. ولكن على السياسي أن يتعامل مع كل شأن على حدة. فتصريحات سيبيريل، مثلا، مطلوب فيها ما ذكره البيان المشترك لحركة (حق) وتيار الوفاء الإسلامي، وتقرير الخارجية الأمريكية حول الوضع الحقوقي في البحرين، مثلا، يناسبه الموقف “الحقوقي/السياسي” الذي لخصته الناشطة ابتسام الصائغ في تغريدة لها، عندما حمّلت صراحةً الإدارة الأمريكية مسؤولية ما وقع لها من تعذيب أثناء اعتقالها، حيث كان الجلاد الذي تولى تعذيبها يقول لها بأن هناك ضوءا أخضر من ترامب ليفعل الجلادون ما يريدون. فالناشطة الصائغ لم تبتهج لأن تقرير الخارجية الأمريكية وثّق قضية تعذيبها، وكأن ذلك سيردع النظام عن الاستمرار في سياسة التعذيب، بل أدارت الأمر باتجاه أسباب استمرار التعذيب، أي الدعم الأمريكي خاصة. هذا موقف حقوقي، وسياسي بامتياز أيضا، وهو موقف احترافي بالفعل، ويؤمَّل أن يكون موقف السياسيين تجاه الإدارة الأمريكية يأخذ ذات هذا المنحى وبالروح “التفكيكية” التي انبنى عليها موقف الصائغ.

من اللافت أيضا أن تقرير الخارجية الأمريكية أشار إلى الإشكالات الجدية التي تثيرها المعارضة بشأن الدوائر الانتخابية وعدم عدالتها، وأنها تُشكل – بشكل أو بآخر – سبباً مقنعاً لمقاطعة الانتخابات. ولكن علينا في المقابل أن نتذكر أن الانتخابات في العام ٢٠١٤م حظيت بترشيد وإشادة أمريكية علنية، حيث قام السفير الأمريكي الأسبق توماس كراجيسكي بزيارة مراكز انتخابية وأعطى للنظام شهادة “زور” على نزاهة الانتخابات. كان ذلك، كما هو معروف، في الوقت الذي أعلنت فيه المعارضة مقاطعتها للبرلمان، وهو الموقف الذي تسبب، كما يقول مراقبون، في التعجيل باعتقال الشيخ علي سلمان واحتجازه “رهينة” في السجن حتى اليوم. هذا مثال آخر يفضي إلى تجديد القول بأنه من الخفّة أن يتخلى المرء عن اعتقاده حيال “العقل الشيطاني” الذي يحرّك المصالح الأمريكية، ولكن من غير المنطقي أيضا أن يُهمل المعنيون بالخطاب السياسي اكتشاف “منبع” هذه التهافات في المواقف الأمريكية، والبناء عليها، إنْ عبر منصات العمل الحقوقي، وهي متوفرة بغزارة ولها محترفون كُثر، أو من خلال دوائر العمل السياسي، والتي لا تزال بدائية أو في طور الإحياء من جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى