تقارير

الجدران الناطقة بالحق: جداريات الثورة وشعاراتها

البحرين اليوم – (خاص)

سمة الصمت هي السمة الملاصقة للجدران، لكن هذه الجدران تتحول إلى ساحة وفضاء للنطق عندما تُطبق آلة الاستبداد فكّها على قنوات التعبير لدى المجتمع، وعندما تخسر آلة القمع كل وسائل الإعلان. الناظر لجدران القرى بالبحرين في ثمانينات القرن الماضي يجدها تنطق بتعابير جنسية وأشكال القلوب المجروحة، وحروف المحبين، وغيرها من الإيحاءات المتصلة بالكبت الجنسي الذي طبع جانب من تلك الفترة الزمنية.

منذ العام ١٩٩٤م تحولت واجهة تلك الجدران إلى لوحات سياسية ناطقة، تناهض الاستبداد والقمع والدكتاتورية، وصارت واجهة الجدران تحمل صور الشهداء وشعارات القوى السياسية والفاعلين النشطين في القرى والمدن. المشهد وقتها – ولا يزال – بات مألوفا، وفي الجزء الأول منه يقوم الشباب برسم الصور وكتابة الشعارات والمطالب السياسية للانتفاضة، أما الجزء الثاني فهو مشاهدة رجال الشغب صباحا بسياراتهم وهم يقومون بمحو تلك الصور والشعارات ودهن الجدران باللون الأبيض الذي يتحول تاليا الى مشهد إعلاني للانتفاضة مجددا، وهكذا تتولى اللعبة بين نطق الشعار وبين محوه.

الشعارات الجدارية تزدهر في الأوضاع السياسية أو الاجتماعية المتوترة، ففي باريس ازدهرت كتابة الشعارات في الستينيات، وتحديداً في سنة ١٩٦٨-سنة الثورة الطلابية- حيث عبر الغرافيتي عن شعارات الشباب المتمرد على النظام الاجتماعي والسياسي. والأمر كذلك كان في الدول العربية التي لا تتجاوز الشعارات -في أغلبها- الكلمات البسيطة، بعيداً عن التقنية الفنية، مما ساعد على اعتبارها عملية تشويهية تخريبية انتشرت في الظروف السياسية والاجتماعية المتوترة. وقد أثرت الثورة الشبابية في باريس على الكثير من الشباب العرب، خصوصاً أنها كانت مواكبة للمد الثوري الفلسطيني.

الكتابة التاريخية تشير إلى أن أول كتابة سياسية على الجدران في البحرين ربما كانت في سنة ١٩٣٨ عندما استفاق الناس على منشور سياسي مكتوب على جدران بيوت العاصمة المنامة، وهكذا استمرت هذه العادة السياسية بالظهور والتطور بتطور الأحداث السياسية في الخمسينات والستينات، ثم في التسعينات وأخيرا في ثورة ١٤ فبراير ٢٠١١م.

في حلقة فنية ضمت مجموعة من الفنانيين والجرافيك البحرانيين؛ كانت الجداريات تعلن عن وجودها في دوار اللؤلؤة في الجهة الغربية منه، حيث خُصصت هذه الحلقة بعض الجدران المحاذية للدوار لمعرض فني وورش عمل تعبر عن تطلعات الثوار في الدوار، وعن مطالبهم المتصلة بالحرية والسلام. هذا المعرض الضخم والعمل الفني العظيم سحقته دبابات الاحتلال السعودي لاحقا عندما احتلت أرض الدوار في ١٨ مارس ٢٠١١، وتم استهداف عدد كبير من هؤلاء الفنانيين بالسجن والتوقيف عن العمل والمضايقات.

في كل المراحل السياسية؛ كانت وظيفة شعارات الجدران والكتابة الجدارية تتمحور حول الإعلام، ولذلك وُصفت الجدران بأنها صحيفة الثورة أو الانتفاضة، ومن أبرز الوظائف التي كانت الكتابة الجدارية تؤديها خدمةً للانتفاضة والثورة. شرعية الكتابة على الجدران مؤسَّسة على شرعية الثورة وبقائها مستمرة في الشوارع والأزقة.

الكتابة على الجدران دائما ما يُنظر إليها بناءاً على محتواها الثقافي والسياسي، فهي بحسب هذا التصور ممثل حقيقي ليس للثقافة بل للعقلية التي تطرح مثل هذه الكتابات التي تعكس مشاكل وإشكاليات مجتمعها. أما الشعار، فيرتبط ظهوره في الفهم السياسي العام بالثورة والانتفاضة التي هي عبارة عن انفجار ناتج عن ضغط سياسي أو اجتماعي، فالشعارات لها زمنها الخاص الذي تطلق فيه، وتتوجه فيه إلى غالبية الناس، وليس إلى طبقة أو فئة محددة.

كانت الجدران معبرا لشرح معاناة الشعب، وما يتعرض له من مظالم على يد القوات المحتلة والقوات الخليفية. صارت الجدران صحيفة يومية متجددة على مدار الساعة، تشرح وقائع وأحداث فترة إعلان الأحكام العرفية وانعقاد المحاكم العسكرية لمجموعة الرموز أو الكادر الطبي والتعليمي، لذلك كانت الجدران تنطق عنهم بصورهم وبطولاتهم وأحقية قضيتهم. أيضا كانت قضية الحرائر واعتقالهن مسالة تؤرق جفون الشباب والغيارى، فتسربت شعارات قوية ومقاوِمة لظلم وفحش السلطة: “فلنمت من أجل اعراضنا”؛ شعار وجد نفسه على كل جدار في كل قرية من قرى البلاد. الجدران الشعاراتية أصبحت تبدو كوسيلة للإعلام والتحشيد في فعاليات القوى الثورية المعارضة، مثل فعاليات: “كلنا راجعين”، أو “حق تقرير المصير”، أو “شعلة حق تقرير المصير”.

الجدران أيضا وسيلة لإبراز مطالب الثورة وشعارها الأبرز: “يسقط حمد”، و”صامدون” و”لن نركع إلا لله”، و”ستعجزون ولن نعجز”. ولدى تعميق النظر في بعض تلك الشعارات نجد أنها نقل حرفي لبعض البيانات والنداءات التي كانت القوى السياسية والشبابية تطلقها، والملفت هنا أنه رغم وجود وسائل التواصل الاجتماعي وهيمنتها، لكنها لم تخفف من قوة حضور الشعارات الجدارية أو تقلل من وظيفتها، لسبب بسيط جدا هو أن تلك الكتابة تتضمن تحديا صريحا للسلطة وإعلامها، فالكتابة هنا وسيلة من وسائل السيطرة على الشارع، ووسيلة لإبقاء الأثر قائما لكل الناظرين، وإلى الذين لا يعرفون ما يجرى في قنوات التواصل الاجتماعي، كالأجانب والغربيين أو حتى الناس غير المبالين بالثورة.

لهذا، وجدت صورة دوار اللؤلؤة نفسها تطبع على الجدران كأيقونة خاصة تتحدى عملية الهدم التي قامت بها السلطة الخليفية، وقال عنها وزير الخارجية في تصريحه المعروف آنذاك: “إن هدم الدوار لأنه يمثل ذكرى سيئة”. نعم هي ذكرى سيئة للاستبداد والظلمة، لكن الدوار دخل حلم التاريخ وصار رمزا للحرية. وبالمثل، فقد وظفت الجدران للإعلان عن بدء الفعاليات والمواسم المختارة، مثل شعار: “بدء مرحلة الدفاع المقدس” أو مرحلة “اسحقوه”، أو حتى مواسم مناهضة “سباق الفورمولا” حيث تم تعميم رسوم الفنان البرازيلي ” ماركوس” على جدران أغلب القرى.

أما المضمون فلا يقل عنه تنوعا وثراء وعمقا، إذ تطرح هذه النصوص من خلال شعاراتها ومطالبها المباشرة والبسيطة قضايا المجتمع العربي الجوهرية، سواء كانت قضايا سياسية (إسقاط الرئيس أو النظام، الحرية، رفض لعبة السياسة…) أو قضايا اجتماعية (الكرامة، العدالة الاجتماعية، حق الشغل، إرادة الحياة…) وحتى القضايا الإعلامية (كذب الإعلام الرسمي، دور الفايسبوك فــــي الثورة…) والقضايا الأخلاقية (الوفاء للمبادئ، كرامة الذات، الالتزام…). لم تغب هذه القضايا عن وعي كتاب الجداريات ورافعي اللافتات. حتى الهتافات والشعارات التقليدية المسجوعة حلت محلها عبارات فيها شيء من كثافة الشعر وإيحائه، مثل عبارات “ارحل”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”، مثل هذه التعبيرات لا ينبغي أن تفهم في دلالتها السطحية، بل في دلالتها الرمزية والعميقة، فالرحيل أو السقوط المطلوبان ليسا رحيل شخص الرئيس أو سقوط رموزه، وإنما هو ترحيل للمؤسسات والمنظومات التي تمثله وإعادة بناء المجتمع من جديد سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

مع تزايد الجداريات والشعارات السياسية على جدران شارع البديع؛ أُنيطت مهمة محو تلك الشعارات لرجال الشغب الخليفيين، ولما وجدوا أنفسهم عاجزين عن ملاحقة هذه الظاهرة؛ ابتكروا بعض الخبث السياسي ووظفوا المجالس البلدية في خطة احتواء الجدران والاستيلاء عليها ومنعها من النطق والحديث، ومنع الطريق عن أي إعلان سياسي يخرق قواعد النشر المتفق عليها لدى الاستبداد. فظهرت فكرة الجداريات العامة على شارع البديع، والتي احتوت بخبث ظاهر على مفردات السلام والبناء والإنسانية، في محاولة لإعادة بوصلة الاستبداد في سرقة شعارات الثورة، كما فعلها حمد عيسى الخليفة مطلع العام ٢٠٠٠م عندما سرق شعارات المعارضة وشعارات الانتفاضة ونسبها لنفسه ولمشروعه التخريبي.

النص الجداري أو الشعاراتي اكتسب قيمة وبُعدا رمزيا لأنه نص ذو مضمون في الواقع، وليس مجرد شعار فارغ، إنه نص احتجاجي نابع من معاناة الناس ومعبر عن تطلعاتهم وملامس للإنسان في جوهر إنسانيته: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى