ما وراء الخبر

في ذكرى “الوصية الأساس”: ست سنوات من تحذيرات “أستاذ البصيرة”.. ماذا بعد؟

البحرين اليوم – متابعات

في مثل هذا اليوم، ٢٣ فبراير، من العام ٢٠١١م، وقف الأستاذ عبد الوهاب حسين على منصّة ميدان الشهداء (دوّار اللّؤلؤة)، وألقى كلمته الشهيرة التي باتت معروفة في أدبيات الثورة باسم “الوصية الأساس”، وقد أكد فيها على خيار إسقاط النظام الخليفي، وهو الخيار الذي لازال يمثل الهدف الأساس للثورة في البحرين وهي تنهي عامها السادس.

هناك منْ لا يجد فائدة، وبعد كلّ ما جرى، لاستعادة تلك “الوصية” أو التذكير بها اليوم. فصاحبها محكوم بالمؤبد، والسّاحة خالية من القيادات السياسية أو تكاد، والشارع يتجه لأن يكون الحاكم على نفسه. هناك بعضُ الخصوم السياسيين الذين يرون في كلمة الأستاذ ما يُشبه “العنفوان” المؤقت الذي انتهى مع وقوع “الكارثة” في مارس (٢٠١١م) وبدء “المكارثية” الخليفية/السعودية، المستمرة حتى اليوم. بشيءٍ من الخفوت، ثمّة منْ يجادل بأن ما ذكره الأستاذ كان محاولةً – مبكِّرة – لإغلاق الطريق على الجمعيات السياسيّة، حيث كانت الأخيرة مزهوَّةً في حينه بفتح النظام الباب لها – بعد الإكفهرار الذي أبداه منذ شهر أغسطس ٢٠١٠ وما تلاه – وكان يساور الجميعَ قلقٌ من أن تتورّط الجمعيات – كما حصل سابقاً – في صرْف الثورة العارمة بلا حكمة ومن غير حساب دقيق للأرباح والخسائر.

السؤال اليوم: هل لا تزال كلمة الأستاذ تصلح لأن تكون “الوصية الأساس”؟ ألم تغيّر السنواتُ السّت الماضية الكثيرَ من الوقائع والحقائق؟ كما أنها غيّرت الكثير من الشخصيات و”الإستراتيجيات” وطبائع النظر إلى الأمور؟

في البداية، لنتذكر أهم ما جاء في كلمة الأستاذ، ومن المفيد أيضا استذكار الظرف الذي أُلقيت فيه. في ذلك اليوم، أُفرج عن مجموعة من المعتقلين المتهمين في القضية المعروفة بشبكة أغسطس (٢٠١٠م)، وبينهم علماء ونشطاء ورموز بارزون. احتفى الأستاذ بهذا الحدث، وجعله منطلقا للكلمة المحور الذي كان يشغل تفكيره منذ وقت. من النافع التنويه هنا بهذا الاحتفاء الذي سجّله الأستاذ وثبّته ودعا إلى التمسك به. كان لافتا التأكيد على تحرير السجناء باعتباره سمة دامغة في ثورة البحرين، وعنواناً لتميّزها عن بقية الثورات، كما كان التأكيد من الأستاذ على المضي بملف السجناء وتحريرهم حتّى النهاية، وعدم تقديم أيّ ملف آخر عليه.

ينطوي هذا الانتباه على موقف سياسي وأخلاقي في الوقت نفسه، فلا يمكن إضفاء أيّ انتصار أو تقدّم من غير إنجاز ملف تحرير المعتلقين، جزئيا أو تدريجيا، كما أن تجاوز معالجة هذا الملف – في أيّ وقت من الأوقات – والتعجيل بالتفاوض السياسي والجلوس في طاولة “الحوار” مع النظام؛ هو خطأ سياسيّ وسلوك متعجّل ينطوي على القبول بالمساومة على حقّ لا مساومة عليه ولا يجوز الابتزاز به. ومن الجدير التشبُّع بهذا التنويه ونحن في هذه الأيام، حيث تتكدّس السجون، بكل الفئات والمستويات والأعمار، وترتسم على جدرانها تفاصيل مؤلمة من المعاناة، ما يجعل أيّ امريء – في ظلّ ذلك – يلوك لغة الحوار ويتحدث عن التفاوض البارد (يجعله) عرضةً للإساءة لنفسه وإحاطتها بسوء الدراية، وربما سوء النوايا.

إسقاط النظام في غاية الإمكان

شرعَ الأستاذ في استعراض “رأيه” بوضوح، حيث رجّح مطلب إسقاط النظام على المطلب الآخر للسياسيين، وهو “الملكية الدستورية”. هذا جوهر الموضوع الذي طرحه الأستاذ في لحظةٍ تجمّعت فيها العديد من التعقيدات، المحلية والإقليمية، ولم يكن يُعرَف إلى أين يمكن أن تتجه الأحداث، فجأةً.

قال الأستاذ “أنا أعتقد بأن إسقاط النظام هو أمرٌ في غاية الإمكان”. وقد دافع، في البدء، عن هذا الاعتقاد من خلال المقابلة (وبعدها المساكَنة) بينه وبين الشعار المنافس له، وباستعمال خطابٍ جداليّ يوجّه الأنظار إلى المخاطر العملية المحدقة في حال التخلي عن شعار “الإسقاط” لصالح “الملكية الدستورية”، حيث إن التفاوض من أجل المطلب الأخير سيتغرق وقتاً طويلا، ما يعني السماح لزخم الثورة بالتلاشي، ليجد المفاوضون أنفسهم بلا حاضنة شعبيةٍ تُمسك بقوة في الميدان، وليُسخِّر النظامُ بعدها قوّته الفائضة من جيوش القمع وأدوات الهيمنة ووسائل الإغراء والموالاة وإمدادات العون الإقليمي.. لخفْض مطالب المفاوضين، وتقليصها شيئا فشيئا، لتذهب “الملكية الدستورية” في مهبّ الرّيح، وليكتفي النظام في نهاية المطاف بتقديم فتاتٍ من “الإصلاحات السطحية”.

هنا يتقدّم الأستاذ عبد الوهاب خطوةً أخرى في الإقناع الخطابيّ، ويتوجّه إلى الجموع الثائرة وسط الميدان، وإلى السياسيين المؤمنين بـ”الملكية الدستورية”، طارحاً معادلةً دقيقةً يمكن أن تجمع بين “السقفين” – اللذين يبدوان متناقضين في الظاهر، ولكن هناك خطّا ملحميّا يجمع بينهما. يقول الأستاذ وهو يستعمل ما يمكن وصفه بالمساكنة بين التناقضات: “إذا عملتم على إسقاط النظام بأساليب سلمية حضارية، فسوف تجدون ذلك واقعا قائما أمامكم، وإذا تخليتم عن مطلب إسقاط النظام؛ فلن تتحقق لكم الملكية الدستورية”.

ما معنى ذلك؟ يقول الأستاذ بأن إسقاط النظام “ممكن” في اعتقاده، وهو إمكان ثوري وواقعي في الوقت نفسه. ولكنه يقدّم “وصفة” إضافية للسياسيين، مراهنا إياهم بأن استقبال مطلب إسقاط النظام، والتعايش معه، والعمل عليه من خلال “أساليب سلمية حضارية”؛ سوف يُمكّنهم من رؤية النظام وهو يتساقط، وهي الأرضية التي تُتيح بعد ذلك بناء أية صيغة للدولة الجديدة، ولتكن “الملكية الدستورية” على سبيل الجدل مثلا. في المقابل، فإن التخلي عن مطلب الإسقاط، وبالنظر إلى االمخاطر المحدقة وراء ذلك؛ يعني تطيير “الملكية الدستورية” ومحوها من الأساس. في العُمق، فإن “ثورية” مطلب “الملكية الدستورية” يقتضي تحرُّكا ثوريا يزيح من طريق هذا المطلب أيّ عائق بنيوي، أو سلطوي، وهذا التحرُّك يستمدّ قوّته من زخم شعار “إسقاط النظام”، وليس من مكانٍ آخر.

لا تقتصر مخاطر التخلي عن إسقاط النظام على تفريغ الميدان من الشعب القوي، وتسكين القوة الشعبية والتنازل عنها، ولكن أيضا سيؤدي هذا الاندفاع لتعزيز الانقسام بين الناس وبين السياسيين أنفسهم، وتعريض المفاوضين لاحقاً للاحتراق السياسي، وأكثر من ذلك – وأهم – فإن ذلك سيعني الاضطرار إلى “تقديم تضحيات مادية ومعنوية وبشرية ضخمة”، كما هي عبارة الأستاذ بالحرف.
ماذا يعني ذلك؟ يضيف الأستاذ إن ذلك يعني بأنه “قد لا تأتينا فرصة أخرى للتغيير”. هي عبارة قد تبدو “مُفزِعة” بشكل مبالغ فيه، ولكنها كذلك في الواقع، ولذلك حرص الأستاذ على تشبيع كلمته في ذلك اليوم بعبارات الخطاب التحذيري، من قبيل “إذا كنت حيا سأذكركم..”، واختتامها بذكر عبارة “اللهم اشهد إني قد بلغت” ٣ مرات.

٦ سنوات: ما بعد “الوصية”

لا يحتاج المرء لاستحضار المشاهد والصور والأحداث المريرة التي جرت خلال الأعوام الستة الماضية؛ لكي يُثبت أن ما قاله الأستاذ عبد الوهاب حسين – أو الكثير منه على الأقل – يبدو شاخصا أمام الأعين. اختار السياسون الدخول في دوّار من التفاوض والحوار المنقوص/ المنقوض، وكانت النتائج “المزيد من الأصفار” والانقسام بين الناس. لم يتحول هذا الانقسام إلى انكسار عميق وشروخ كاملة كما كان يُمني الخليفيون أنفسهم دائما، فقد كان النظام يعود – من غير أن يرغب – لتوحيد الجميع مع تعميمه الظلم عليهم وإنزال الانتقام على السواء، وبدون استثتاء. ولكن التضحيات بلغت أوجها، والدماء اليوم غزيرة، وتلاشي السياسيين المتدرّج كان موازياً لتدرُّج قاسٍ في انخفاض المطالب، وتبخُّر “الملكية الدستورية”. وذلك الوجه الآخر من المشهد المُفزع الذي حذّرت منه “الوصية”.

دروب السياسيين اليوم ليست على ما يُرام بشهادة القاصي والداني. ولكن شوارع الثورة وميادينها مازالت بخير، ولم تنلها السيوفُ من جهة، ولا معركة “السقوف” من جهة أخرى. وهذا يعني أن “وصية” الأستاذ استطاعت أن تُنجز هدفا غير معلَن فيها، وهو شحْذ همّة القابضين على الثّورة، وإغراء السياسيين بضرورة التسريع في الالتحاق بها، والاستفادة من أي إخفاق لمراجعة الأفكار والمواقف، وإلحاق ذلك بنفْض الخطاب من الاستماتة غير المبرَّرة في إرضاء النظام وترضيته، مع التيقّن بأن آل خليفة كانوا – وقبل انطلاق الثورة حتّى – في وارد التعجيل بالشعب، والإجهاز عليه، وأنّ ما يفعلونه اليوم من استهدافٍ لوجوده، وتقويض لهويته، وامتحان لكلّ رموزه؛ هو مخطّط مدفون فيهم، وظنّوا أنّ أوانه قد حان. فكيف يكون الردّ على منْ يريد حزّ الرقاب وتحويل السكان الأصليين إلى عبيد لا كرامة لهم أو حقوق؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى