:: وجوه الثورة :: الشيخ عبدالهادي المخوضر.. الشاعر الذي استوقد الجمْر والجراحات

البحرين اليوم – (وجوه الثورة)

يستعيرُ، ويسْتعِرُ، الشيخُ عبدالهادي المخوضر أكثر عناوين توقّده من الرفقة الخاصة، والطويلة، بالراحل الشيخ عبدالأمير الجمري: “جمرة الغضب من أجل الحق، وانفجار المعاني والكلمات”. بعد تخرّجه من الثانوية العامة؛ وضعَ الشيخ المخوضر قدمه في النجف الأشرف، ولكنه عاد بعد اضطراب العراق في التسعينات، ليضع قدَمه في أوّل قافلةِ “جراحات الهدى السائلة” التي لم تتوقف حتى اليوم. الشاعر الذي عشق الحروف والمكتبة؛ كان يجد في الحوزة والشيخ الجمري بوابةً للعبارتين اللتين اعتاد عليهما: “حلاوة العطاء، وجرعات الألم”.

انشغل الشيخ المخوضر بالأدب والثقافة، وكتبَ الشعر وفاز بالجوائز في كتابته الشعرية على مستوى الخليج، وظلّ حريصا على نشر الثقافة من خلال تأسيس دور النشر، وانتهى عنده تاريخُ “دار أهل البيت” التي أسّسها الراحل علي الشرقي في السبعينات. ديوانه “عليك تبكي السماء”؛ شكّل خلاصة للغة الشعريّة التي كانت مليئة بالحداثة، ولكنها حافظت على رونقها الأصيل، وموضوعاتها التي انفتحت على باب الزهراء وثأر الحسين وترانيم الظهور المخلّص. أمدّ الموكبَ العزائي بالقصائد التي أراد منها أن تُضفي على طقوس العزاء حيويتها “الرجولية” واتزانها الحاسم في سبر الأحداث واختزان الأصول. وهو في كلّ الأحوال والتقلّبات؛ لم يذهب بعيداً عن خُطى الجمرة وحرارتها التي تتفجّر منها أحجارُ الثورة المبعثرة في الطرقات. على مدى عقدين ويزيد، ومنذ التسعينات، تربّص به الجلاوزة. أذاقوه العذابَ وسنوات من القهر، غير أنّ جسمه الهزيل لم يخرّ لهم متوسِّلا، وما سلبوه فيضَ التوقُّدِ والتصبُّر بإطلاق الابتسامة البيضاء.

على ذات الخُطى التي حفرتها قياداتُ الممانعة؛ كان الشيخ المخوضر حاضراً ومؤثرا، في المتن وفي الشروح. ليس من طباعه أن يتقدّم الوجوه الناصعة، ولا أن يعلو فوق المنصّات، ولكن فعله الحيّ، ونقاء بصيرته كان يلوح في كلّ مكان يضج بالممانعة، وفي كل خطاب يؤسّس لإحياء العهد والوفاء مع مدرسة أبي جميل، ومن أولئك الذين يعرف أنّ صدى الراحل لازالت ترسخ في جباههم وتسكنُ في عقولهم وقلبوهم وفي أصواتهم. هكذا كان مع ضحايا التعذيب، ومع ذوي الحاجات. كان مع الأستاذ حسن مشيمع داعياً للسير على نهجه وعدم الرضوخ لإملاءات “منْ عاثَ واستكبرَ”، ويُمسك بمقام الأستاذ في جامع القفول بعد اعتقاله (٢٠٠٦)، ويُذكّر بهديره الذي أرعدَ المتسلطين على الرّقاب والشعائر. وضمَّ الصوتَ إلى الصوت، والقدمَ مع القدم، وأناخ في تيار الأستاذ عبدالوهاب حسين ليُتوِّج الوفاء للجمري في بقيته الصالحة والوفية.

سطعَ نجم ١٤ فبراير والشيخ المخوضر وآخرين في السجن. أحسّ المليءُ بالأحاسيس كيف اهتزّت القضبانُ وغارت أمام طوفان الجيل الجديد الذي ذكّره بجيل الانتفاضة وكرامتها. وقفَ على منصّة دوار اللؤلؤة وهو يتصفّح الوجوه المليئة بالجمر والأمل، واسترجعَ سنوات العذاب الستّ في التسعينات، وأهوالَ السجن في أغسطس ٢٠١٠م، فرأى ما يراه الواثقُ بنصر الله. ثقة لم تنقبض، قيد انكسار، رغم ما حصل له بعد عشرين يوماً، حينما أعادت الذئابُ  تحريكَ دولاب العذاب. وثّق الشيخ المخوضر، وأمام قاضي آل خليفة، ما حصل له وصحبه من فظائع تحترقُ معها الرواسي والقلاع. بلغته التي تبرعُ في وصف الدقائق؛ حكى عن التنكيل الذي اختلط بروائح الموت، وقدّم للتاريخ وثيقةَ الإدانة الكاملة على انتماء هذا النظام وأنيابه إلى زمن الوحوش الأولى. إلا أن خمسة عشر سنة من الحكم الذي بصمَ عليه القاضي الخليفيّ؛ لم يزده إلا توقّداً في توقٍّد، فحرَّك فيه مع بقية الرموز جمرةَ الحقّ، وصدحوا في قاعة المحكمة: “سلمية سلمية، شعبٌ يطلب حرية”، وقال للناس الذين أحبّهم دون ادّعاءٍ وتعالٍ بأنه “خَجِلٌ” أمام تضحيات هذا الشعب العظيم، وأن تأييد الأحكام على الرموز – وكما تفعلُ نفخةُ المعنى في حروف القصائد – هي “رحمة إلهية تجعلنا نتذوق حلاوة العطاء.. وما جرى علينا لا يُجاري لحظة ألمٍ من أمّ فقدت ابنها في سبيل الله والمبدأ”.