تقارير

مبادرة السيد عبدالله الغريفي: دراسة في الرسائل والمواقف (١-٢)

البحرين اليوم – (خاص)

 

يكاد يتفق جميع منْ أطلع على مبادرة العلامة السيد عبدالله الغريفي التي طرحها مساء الخميس ٢٨ ديسمبر ٢٠١٧ بأنها محكومة بسياق سياسي معقد، ويصعب التكهن بمجاراته لتلك المبادرة. ليس معنى هذا أنها مبادرة وُلدت ميتة، بقدر ما إن الجدار السميك والحائط الشاهق الذي تواجهه مبادرة السيد الغريفي أقوى من مضمونها، ولو أثار البعض حولها ملاحظات تبدو وجيهة في كلّ الأحوال.

تحاول هذه الدراسة المصغّرة معالجة مبادرة السيد الغريفي وفقا لإطار تحليلي “مؤسسي” لمعرفة مدى توافر المبادرة على فرص النجاح أو الفشل، وستكون الدراسة على عدة أقسام مرتقبة، تتوزع بالشكل التالي: يعالج القسم الأول تموضع المبادرة في السياقات المحلية والدولية، في حين سيعالج القسم الثاني المبادرة على ضوء المواقف الداخلية لقوى المعارضة، أما القسم الثالث فسيسعى لقراءة داخلية لمضمون المبادرة على ضوء التجارب السابقة المشابهة.

 

القسم الأول: السياقات المحلية والدولية

أولا: السياقات المحلية

منذ تفجر الأوضاع في البحرين في فبراير ٢٠١١ اختارت النخبة الحاكمة مواجهة ما وُصفت بـ”الأزمة” من خلال طريقين:

– الأول: رفع منسوب القمع والمواجهة الأمنية مع الحراك الميداني الداخلي، وقد تمثل ذلك في فرض الأحكام العرفية لمدة ثلاثة أشهر، واعتقال ما يزيد عن عشرة آلاف من المشاركين في الاحتجاجات، بقي منهم حاليا ما يقارب أربعة آلاف بين موقوف ومحكوم. وقد استمر هذا القمع إلى حين إطلاق السيد الغريفي مبادرته، فقد سبق المبادرة إعلانُ المحكمة العسكرية عن صدور أحكام بالإعدام لستة من المدنيين، الأمر الذي رفع حالات الإعدام السياسي لحوالي ١٩ حالة، وهي سابقة فريدة في تاريخ البحرين السياسي، فطوال عقود الاستقلال وما قبلها لم تُسجَّل إلا حالة إعدام واحدة على خليفة سياسية هي حالة الشهيد عيسى قمبر في العام ١٩٩٦م.

الأمر “الخطير” في هذا السياق لا ينحصر في الانتهاكات والممارسات القمعية، بل إن خطورته تكمن في حجم وكمية الآثار التي تركتها تلك الممارسات، خصوصا وأن هناك أكثر من ١٥٠ شهيدا كانوا ضحية تلك الانتهاكات بسبب سياسة الإفلات من العقاب التي أقرها النظام منذ ٢٠٠١ عبر مرسوم رقم (٥٦)، وبالتالي فإن مسار العدالة الانتقالية أصبح أولوية أساسية، وقبل الأولويات الأخرى، بما فيها التوصل لحلول سياسية متفق عليها.

– الثاني: تدويل الأزمة إقليميا ورهْن التدابير الداخلية برغبات وتوجهات الدول الإقليمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى انخراط النظام في البحرين في أحلاف عسكرية موازية. تجلى هذا الخيار في فتح حدود البحرين لدخول قوات الأمن الوطني السعودية تحت عنوان قوات “درع الجزيرة العربية”، والسماح لقوات إماراتية أخرى بالتواجد في محيط الاشتباكات الداخلية، مما أدى لمقتل أحد الضباط الاماراتيين في حادث غامض في مارس ٢٠١٤. وبالرغم من انعدام مبررات تواجد القوات السعودية والاماراتية، بحكم نتائج لجنة تقصي الحقائق المستقلة (بسيوني) التي انتهت إلى عدم وجود صلة مباشرة لإيران بالاحتجاجات التي انطلقت مع تفجر ما عُرف بالربيع العربي ٢٠١١، إلا أن النظام في البحرين عمل دون توقف على ربط الأحداث الجارية بتدخلات إيرانية مزعومة.

في كل الأحوال، تحول هذا التواجد العسكري الخليجي في البحرين من وجود داعم أو وجود حامٍ لوجود مهيمن، وإلى سالبٍ للسيادة الداخلية والخارجية للبحرين. وبعبارة أدق، تحول هذا التواجد العسكري والأمني إلى قوة سياسية ذات تأثير واسع – إن لم يكن وحيدا – في صياغة مخارج الخروج من الأزمة، حيث باتت هذه القوى تتحكم في التدابير السياسية الداخلية. وتبعاً لذلك؛ أضحى من الصعب جدا على النظام في البحرين أخذ زمام المبادرة دون أن تكون هناك موافقة من قبل عواصم خليجية، هي الرياض وابوظبي تحديدا. بل يمكن القول أن كلا من الرياض وابوظبي ينظران إلى البحرين بوصفها حديقة خلفية لهما، وسوف نتعرض لذلك لاحقا.

النتيجة التي رافقت هذا المسار هي أن قضية البحرين لم تعد قضية محلية داخلية يمكن للأطراف المشتبكة أن تتفاوض بشأنها دون أن يكون هناك اتفاق بين دول الإقليم، وبالتالي فإن توازي حجم الانتهاكات وترسُّخ العدالة الانتقالية من جهة، وارتهان القرار السيادي لدول خارجية من جهة أخرى؛ يجعل من السياقات المحلية أشبه ما تكون بسياقات “طرد” لأي حلول ممكنة، ما لم تتضمن تلك الحلول انفكاكا فعليا وحقيقيا عن تداعيات هذه السياقات.

وفي الواقع؛ فإن كل المبادرات السياسية تستهدف أساسا تجاوز أوضاع معقدة قد تكون أعقد من الأوضاع المحلية في البحرين. والمجتمعات التي تجاوزت سياقاتها الداخلية المضطربة نجحت في ذلك عندما توفرت لديها ظروف أكثر نضجا ساعدتها على تخطي سياقها المحلي. ووفقا للمعطيات الحالية؛ لا يبدو أن الظروف المحلية قد وصلت إلى مرحلة النضج على النحو الذي “تتعقله” المجموعة الحاكمة في البحرين، وتتخذ بشأنها قرارات حاسمة تُعيد السيادة الداخلية لموقعها الطبيعي، وتالياً تُبدي مرونة في قبول مبدأ العدالة الانتقالية.

 

ثانيا السياقات الدولية

حظيت أزمة البحرين باهتمام دولي منذ أن تفجرت “الأزمة” السياسية في فبراير ٢٠١١. وقد وصل الأمر إلى أن طرح الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مسألة البحرين في سبتمبر ٢٠١١ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتخصيصه فقرة عن البحرين، في خطوة هي الأولى من نوعها، ودعا من خلالها الحكومة وكبرى كتل المعارضة، جمعية الوفاق (المغلقة حاليا)، إلى السعي نحو حوار ذي مغزى. وقال أوباما: “في البحرين، اتخذت خطوات نحو الإصلاح والمساءلة، ولكن المطلوب أكثر من ذلك”. كما رعت بريطانيا العديد من مشاريع “الحوار” بين المعارضة السياسية والحكومة الخليفية، رغم انحياز بريطانيا الواضح ناحية النظام الحاكم في البحرين، وحماية لندن لآل خليفة من أي إدانات دولية في مجلس حقوق الإنسان. في المقابل، كان الاتحاد الأوربي وعبر رئيسته كاثرين اشتون؛ يؤكد مرارا على أهمية أن يكون هناك حوار جاد وحقيقي في البحرين. في كل الأحوال؛ فإن المظلة الدولية تقاعست عن ممارسة ضغوط حقيقية وفاعلة على النظام الخليفي في البحرين، وحثّه على الانخراط في حلول واقعية تلبي “الحد الأدنى” من الديمقراطية في البلاد، وهي حرية الناس في اختيار حكومتهم المنتخبة. رغم ذلك، فإن العنصر الدولي كان عنصرا مساعدا في استمرار الازمة ووصولها إلى منعطفات خطيرة فيما يخص الانتهاكات والتعديات التي تمارسها الأجهزة الخليفية الأمنية والعسكرية.

وفي الواقع، فإن الموقف الدولي – وبالأخص الدول الكبرى ذات الصلة بالبحرين – كانت محكومة في مواقفها ونوعية الضغوط التي تمارسها؛ بعنصرين أساسين، وهما:

– الأول صفقات الأسلحة والتبادل التجاري بين هذه الدول ومنظومة الخليج، وهذا ما يمكن ملاحظته في الارتفاع الهائل في حجم صفقات الأسلحة التي بيعت لدول الخليج العربية خلال السبع السنوات الماضية، والتي تُقدَّر بمئات المليارات، فضلا عن زيادة حجم التبادل التجاري بين بريطانيا وأمريكا وفرنسا من جهة ودول الخليج من جهة أخرى. وبمقتضى نظام الاقتصاد العالمي؛ فإن هذه الصفقات تعكس حجم الحماية التي توفرها الدول العظمي للأنظمة السياسية في الخليج، ومدى التراخي معها فيما يخص الإصلاح وحقوق الإنسان، وبالتالي فإن الصفقة المعلَنة تقابلها صفقة أخرى غير معلنة، وهي سكوت تلك الدول عن كل ما من شأنه أن يجعل الدول الخليجية في محيط الإصلاح الدستوري أو الحقوقي، وهو ما يُفسّر ارتفاع حالات أحكام الإعدام السياسي في البحرين والسعودية بوتيرة متصاعدة وغير مسبوقة، كما ارتفعت حالات سحب الجنسية في البحرين إلى أكثر من ٥٠٠ حالة حتى الآن، فضلا عن الاحكام القاسية التي تصدر بالمؤبد والأحكام الطويلة على خلفية حوادث سياسية. والبحث عن تجليات هذا الأمر في السياسات الدولية؛ لا يعد جديدا، ويكفي هنا معرفة الدور السعودي والاماراتي في الضغط الاقتصادي والسياسي على الدول الأوربية، مثل السويد والدنمارك، من أجل تخفيف مواقف هذه الدول اتجاه البحرين.

– الثاني تزعُّم المملكة المتحدة لملف الدفاع عن النظام في البحرين، وتوليها تدابير الإصلاح المزعوم في البلاد. وقد جعل ذلك بقية الدول الأوربية والدول الأخرى؛ غير قادرة على ممارسة أي ضغط فاعل على حكومة البحرين في ظل تبني بريطانيا لملف “الإصلاح” في البحرين. فمن وجهة النظر البريطانية؛ فإن ملف الإصلاح البنيوي في البحرين يسير بشكل “مرضٍ ومتكامل”، وأنه لا حاجة لمزيد من الضغوط أو جرعات الإصلاح الدستوري. وهذا الموقف البريطاني المنحاز يتجلى دائما في إجابات الحكومة البريطانية على الأسئلة البرلمانية الموجهة للحكومة البريطانية في مجلسي العموم واللوردات البريطاني، حيث تأتي الإجابات منمطة وبصيغة واحدة تقريبا، حتى مع اختلاف الأسئلة. وكانت بريطانيا تقف موقفا مؤآزرا ومتصلبا في الدفاع عن النظام الخليفي في جلسات مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وتمنع الدول الاوربية الأخرى من إصدار بيانات شديدة اللهجة حيال ما يجري من انتهاكات.

وقد عبر وزير العدل الخليفي ذات مرة في ٢٠١٤ أن موقف حكومته بات أقوى من الفترات السابقة، وأن الموقف الدولي الغربي لم يعد يخيف حكومته. وهذا جعل من حكومة آل خليفة تحتمي بمخرجات هذا السياق الأوربي والغربي، وأن تصبح غير مبالية نهائيا بأي مناشدات حقوقية دولية، ووصل الأمر بوزير الخارجية الخليفي إلى أن يصف مفوض مجلس حقوق الإنسان بأنه عديم الفائدة وأن حكومته غير معنية بما يقوله أو يندد به. كما بلغت “وقاحة” الحكومة الخليفية – واستنادا للحماية السعودية والإماراتية المباشرة – أن ترفض المطالب الأمريكية وأن تطرد أحد مبعوثي الولايات المتحدة الأمريكية.

في المقابل، كانت السياقات الدولية في الشرق الأوسط مختلفة أيضا عن السياقات الأوربية والغربية، فبعد سنوات مريرة من الصراع والحرب بالوكالة؛ حُسمت كثير من الملفات لصالح ما يُعرف بمحور المقاومة، وانكسار المحور السعودي، وذلك في أكثر من موقع، كما في انسحاب السعودية من ملف سوريا والعراق، ومن ملف ولبنان إلى حد ما، واكتفاء السعودية والإمارات وقطر بالتحرك السياسي المتفق عليه بين الدول بعد أن كانت هذه الدول منخرطة بقوة في تمويل عسكري ومالي هائل في بؤر التوتر الإقليمي. إضافة إلى هذا الانكسار للمحور السعودي الذي ترتبط به البحرين بقوة؛ شكلت الأزمة القطرية عنصرا إضافيا وقويا في تفكُّك منظومة مجلس التعاون الخليجي، وبروز انقسام حاد في المنظومة الخليجية.

خلاصة السياق الدولي، أن هناك تفرّدا بريطانيا في قيادة ملف البحرين، وانكفاء واضح من الدول الأوربية والغربية، أن ثمة انكسارا سياسيا وعسكريا للمحور السعودي الخليجي في ملفات الشرق الأوسط، وبالتالي فإن الجهة الأكثر اتصالا والأكثر تأثيرا على البحرين تنحصر في الوقت الراهن في بريطانيا.

بعد كل هذا الاستطراد؛ يمكن أن نقارب مبادرة السيد الغريفي مع هذه المعطيات، وفيما إذا كانت هذه المبادرة تستوفي شرائط هذه السياقات المعقدة والمتداخلة.

من الواضح أن مضمون مبادرة السيد الغريفي لم تتعرض لمجمل السياقات التي تحكم الأزمة في البحرين، مع أن خطاب السيد لاحظ – وبعمق – مستوى واحد من ضمن مستويات السياقات المحلية، وهو ارتفاع منسوب القمع وأحكام الإعدام التي باتت مؤشرا على مرحلة جديدة في تحول نظام الحكم الخليفي إلى الحكم العسكري، أو ما يعرف بتوجهات عسكرية في إدارة الدولة، بدلا من التوجهات المدنية.

وبعبارة أوضح؛ فإن أي مبادرة للحل في البحرين من المهم أن تُدرس وفقا لمخرجات السياق المحلي والدولي، وهي مخرجات باتت أكثر تأثيرا وتعقيدا من أي قرار نخبوي أو شخصي، وأبرز تلك المخرجات:

  • ضمان الحصول على ضوء أخضر أو عدم ممانعة من الدول الإقليمية ذات الهيمنة على البحرين، وهما السعودية والإمارات.
  • وجود إطار واضح لمسار العدالة الانتقالية.
  • توفر ضغط بريطاني واضح وغير منحاز ناحية الدفع بالإصلاح الدستوري على نحو أساس.
  • توافر قدر متكافئ من التوافق بين أطراف المعارضة وقواها الحية.
  • النظر بعناية لمخرجات الصراع في الشرق الأوسط والانكسار السياسي للمحور السعودي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى