مقالات

دموع على موكب علماء البحرين ليلة العاشر

 

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: كريم العرادي

كاتب من البحرين

 

هل هناك فرصة أخرى للمناورة مع يزيد البحرين، حمد عيسى الخليفة؟ أنا شخصيا متعاطف جدا مع كل الشخصيات، الدينية والسياسية، التي تحاول أن “تحفر” في الهواء من أجل “إنهاء الأزمة”، وتلجأ – رغما عن رغبتها ربما – إلى خطابات أقل ما يُقال عنها بأنها “فارغة من المعنى”، من أجل أن “تشجّع” آل خليفة على التعجيل بإنهاء الأزمة، ولو من خلال تقديم معالجة أمنية وحقوقية “مرضية” تبرّد الأجواء الساخنة.

في كل مرة يقدّم الخليفيون الدليل تلو الدليل، على أنهم “أحقر” من أن يقدموا أي خطوة “إيجابية” تُفرح أصحاب “خطابات التهدئة”. بل هم في وضعية “البشاعة الأخيرة” التي تجعلهم لا يكفون عن إهانة حتى أولئك الذين يتمنون عليهم “مبادرات المصالحة” والقبول بها.

ما يحصل في عاشوراء هذا العام هو دليل واضح على ذلك: اعتقال الخطباء ومسؤولي المآتم، جنبا إلى جنب تخريب المضائف وإنزال الأعلام الحسينية. مع وقاحات لا تنتهي بإعلان النظام عن مشاريع لدعم المواكب، وتقديم مساعدات للمآتم، فضلا عن استقبال مسؤولين عن بعض هذه المآتم والمواكب في قصور الطغاة، مع زيادة أن بعض هؤلاء المسؤولين/ المتسولين فتح مأتمه لاستقبال السفير الأمريكي، الذي يعتبره الناس العقلَ المدبر لكل ما يعانون منه، وهو ما دفعهم للدوس على علم بلده في مسيرات يوم العاشر.

ولكن السؤال المهم، هو: ماذا ينتظر أصحاب خطابات المصالحة مع النظام بعد كل ذلك؟ السؤال طبعا موجه إلى المحسوبين على الناس، وممن لم يتلوثوا، علنا وكاملا، بأرجاس الخليفيين، كما هو التافهين الذين يزورن مجالس حمد وخليفة، وأولئك الذين يفتحون مجالسهم ومآتمهم لأحقر خلق الله، وأشبههم خُلقا بيزيد وقتلة الحسين.

هذا السؤال في الحقيقة يحير كثيرين، وأكاد أجزم بأن المعنيين به هم أنفسهم حائرون في أمرهم، ولا يعرفون ماذا يفعلون، وهو ما يفسر عجزهم الكبير، ولجوءهم إلى تكرار الخطابات الرمادية، والتغيّب الاضطراري عن تسجيل الموقف في القضايا والملفات التي تتصل بأصل الدين والهوية.

طبعا، أنا متعاطف مع أسباب هذا العجز، لأن القمع والترهيب لا يتحمله كثيرون، وقد رأينا سقوط وانهيار شخصيات “كبيرة” عبر التاريخ. ولكن الأمر يثير فيّ العَبرات..

عندما شاهدت موكب علماء البحرين في المنامة ليلة العاشر، انهمرت من عيني الدموع. ليس على مصاب أبي عبدالله الحسين، ولكن رثاءا وتعاطفا مع العلماء.

لقد وجدت على وجوه علمائنا ثقلَ المعاناة، وقلة الحيلة، وانسداد القدرة على إقناع الخليفيين بالتجاوب معهم ومع “تنازلاتهم” المتكررة لصالح المصالحة، ولو بأقل السقوف. أحزنني أن أرى علماء البحرين وهم مهددون بالاعتقال والإهانة العلنية في الصحف، فلا يستطيعون أن يصدروا بيانا مشتركا، كما كانوا يفعلون في السابق، رغم اعتقال الخطباء، وانتهاك الشعائر، ووقوع المنكرات في السجون.

آلمني أن الشيخ عيسى قاسم ليس بينهم، وتذكرت المرحوم السيد جواد الوداعي وهو يسير معهم في نفس الموكب وهو على كرسيه المتحرك.

كانت دموعي ممزوجة بمشاعر مخلوطة من الألم ومن التعجب. لقد رأيت شالا على رقاب بعض العلماء، وفيه شعار عاشوراء الذي اختاره علماء البحرين لهذا الموسم “آخذ بقولك”. كما كان الشعار مطبوعا على “البيرق” الذي تقدم الموكب. أقنعني هذا المشهد بما يقوله صاحبي من أن العلماء الكبار أوكلوا أمر المواقف “الجذرية” إلى هذا المجموع “السري” الذي اسمه “علماء البحرين”، والذين داوموا على إصدار بيانات رائعة، في الغالب، وفي أكثر المحطات التي تمر بالبلاد. ولكني قلت لصاحبي: هل هذه آخر الحال.. أنْ يعمل كبار العلماء “تحت الأرض” وآخرون مؤيدون منهم في العلن، ولكن من غير أسماء؟ هل من المعقول أن تكون نتيجة كل هذه التضحيات؛ أن تصبح النخبة مضطرة لأن تكون في مستوى “أدنى” من مستويات الآخرين؟”

ربما تكون في هذه الأسئلة  جراءة على السادة العلماء. ولكنها اللوعة التي انتابتني وسط المنامة حين كان يمر أمامي موكب العلماء العزائي، فتحركت في خاطري الصور من كل الجهات، صورة الشيخ قاسم في لندن وهو يحيي ذكرى عاشوراء بين أحبابه وأبنائه، وصورة قادة الثورة في السجون الذين لا يجدون كتابا أو طعاما أو دواءا أو حتى لقاءا بالأهل. عندما رأيت العلماء في الموكب، تذكرت السيد محمد باقر الصدر، والإمام الخميني. لا أدري ما السبب، ولكن ذهني وقلبي في وقتها كانا في عالم مليء بالهواجس والصور المتناقضة.

أنا على يقين بأن شعور العجز، وخاصة في ظل سلطة حقيرة ونظام باغ، هو أسوأ شعور يسيطر على الإنسان. وأسوأ أنواع العجز هو حين تكون غير قادر – خشية من القمع والعسف – أن تُصرّح بما تؤمن به، وأن تعلن للملأ مواقفك ضد الظلم والظالمين، وخاصة الظلم الذي ينال من دينك وعقيدتك وهويتك. أنا متأكد أن هذا العجز القهري ينهش – مثل كثير من الناس والنخب – في علمائنا، ويؤلمهم جدا، ويُتعب كثيرا نفسياتهم، وخاصة إذا قوبلوا بانتقادات عنيفة من الناس.

أحاول ألا أسمح لهذا التعاطف أن يستولي عليّ، وخاصة عندما يكون الظرف هو إحياء ذكرى عاشوراء، وتمجيد ثورة الإمام الحسين بن علي، وترديد شعاراته المعروفة في مواجهة الظلم ورفض الذلة. ولكن ليس باليد حيلة، فلابد أن نراعي أن البشر والعلماء مستويات، وهم طبائع وقدرات مختلفة، ولا يمكن أن نطلب من الجميع أن يكونوا مثل الصدر أو الخميني، فلكل إنسان وسعه وسعته وطاقته.

الشيء الذي أخرجني من الألم ليلة العاشر، وأنا أتابع موكب العلماء وهو يختفي داخل زقاق في العاصمة، هو حقيقة أن الظلمة المجرمين حينما تقترب نهايتهم الحتمية فإنهم لا يضعفون في الظاهر، بل يكونون في أوج وأحقر جرائمهم واستبدادهم. أن يشتد آل خليفة في إجرامهم وإهانتهم للعلماء والرموز.. فإني واثق بأن نهايتهم قريبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى