تقارير

:: وجوه الثورة :: عبد الهادي الخواجة.. ما هو أكثر من الحقوقي.. وأقرب إلى الثائر النادر

 

البحرين اليوم – (وجوه الثورة)

لاشك أن عبدالهادي الخواجة هو حقوقي عريق وضليع، وعلى يديه تخرّج جيل كامل من الحقوقيين في البحرين، والخليج. يمكن الرجوع إليه في أية استشارة تتعلق بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وذهنه حاضر لاسترجاع المواد والنصوص المطلوبة. إلا أن الوجه الخاص الذي طبع هذه الشخصية الحقوقية؛ ينتمي إلى حقل آخر يصرّ أبو زينب على أنه جزء لا يتجزأ من العمل الحقوقي الجاد: “الشارع”. يمكن فلسفة هذه الرؤية باستنباط المغزى العميق الذي أراده الخواجة من عمله الحقوقي الذي كلفه، وأهله، أثمانا باهظة من المعاناة الجسدية والمعنوية. يصرّ الخواجة على أن أيّ مطالبة بالحقوق لا تنفكُّ عن توفير أضلاعها في الميدان. من غير أن تنتقل المطالبة إلى الفضاء العام، وبدون أن ترفعها الأيدي والألسن وتدور بها الأكفّ في كل الساحات؛ فإنها تصبح عملا مكتبياً وممارسةً أكاديمية تصلح لكسب الرزق والشهرة، ولكنها لا تفيد في استعادة الحقوق ومحاسبة منتهكيها.

في البدايات الأولى لعمل مركز البحرين لحقوق الإنسان، وفي مقره المؤقت بنادي “العروبة”؛ سُئل الخواجة عمّا يمكن أن يُنجزه نشاط حقوقي محاط ببعض أشخاصٍ و”أجواءٍ عامة” تميل إلى برودة النخبة والأداء البيروقراطي الذي يستأنس بالعمل المكتبي وتعبئة الأوراق. لم يكن آنذاك ثمة ما قد يحفّز المرء على الاندفاع لخلع “البناء السميك” لأبشع انتهاكات حقوق الإنسان السائلة في كل مكان: التمييز والإمتيازات، عدالة توزيع الثروة واستئثار الخليفيين بها، وسيادة القانون العادل وغير ذلك. إلا أن الخواجة قال وقتها إن التعويل لا يجب أن يكون على مكتب المركز أو أي مقرّ قد ينتقل إليه، بل على مدى القدرة على انتقال المركز ونشطائه إلى محيط الناس وأوساطهم، وإقناع الجمهور العريض بأن حقوقه المسلوبة لن تُمنَح له عبر المراسلات، أو المناشدات، أو زيارات المجالس، أو نظام المنح والعطايا، أو حتى عبر لعبة السياسة المقننة بالحُكم المطلق. كان يقول إن الراهن هو النجاح في تحويل عموم الناس إلى نشطاء فاعلين، وإلى ساعين ومبادرين إلى مطالبهم الحقة على أرض الواقع، وبذات العقلية والآليات التي يعمل بها الناشط الحقوقي المحترف.

لهذا السبب، لم يكتف الخواجة بتأسيس المركز، ولم يلتفت إلى المناورات التي أراد النيل منه عبر إثارة ثنائية “السياسي والحقوقي”، وكان نجاحه الحقيقي، والحقوقي، الأبرز هو في تطعيم – وليس تعليم – الناس بالحقوق وآليات المطالبة المتحرِّرة من أنفاس الخضوع ولغة الاستجداء. وبعد ذلك، نزل الخواجة إلى الناس ووفّر، معهم، التجربة الميدانية من خلال فتح الملفات الحقوقية الأكثر حجباً عن وعي الناس: المواطنة والعدالة السياسية والاقتصادية، السواحل العامة ونهب الأراضي، امتيازات العائلة الخليفية، التمييز ضد السكان الأصليين، ملاحقة قتلة الشهداء والجلادين. فتحَ هذه المبادرات، رفقة رموز الممانعة الآخرين، وانخرطَ مع الجميع، من الخاصة والعامة، في تجربةِ نقل هذه المبادرات إلى الخارج، خارج المكاتب والغرف المغلقة.

قسوة العنف الذي واجهه الخواجة منذ ٢٠٠٤ وحتى اليوم؛ ينبيء عن الكثير من الحنق الأسود الذي استولى على آل خليفة من النتائج التي شارك في إتمامها، لتكون المقدمات الموضوعية لثورة ١٤ فبراير. كان ثائرا في جلبابِ حقوقي. وهذا ليس عيباً، ولم يكن يخجل منه الرجلُ الذي قال مرةً – وحين كان يعمل البعض على إثارة الغبار على طريقته في العمل الحقوقي – بأن كل “النشطاء الحقيقيين كانوا ثوّارا صادقين، والذين مرّوا على الثورة أو عاشوا فيها كانوا أفضل تربةٍ نبتت منها خيرةُ النشطاء”. وإذا هناك منْ تراجعوا عن هذا الخيار، ووجدوا أن كلفته فوق ما يستطيعون؛ فإن العملة النادرة التي يمثلها الخواجة هو أنه شقّ الطريق، وسار فيه، واستمرّ فيه حتى النهاية، بلا تراجع عن الرؤية ولا فقدان للأمل. هذا العطاء من أجل حقوق الناس؛ ما كان أن يتواصل لولا بريق الثورة الذي أثبتت الأيام العصيبة أنه أقوى من السياط ومن فنون التعذيب الأقسى. كُسرت أسنان الخواجة في اعتصام الرفاع قبل سنوات الثورة، وكُسرت جمجمة وجهه داخل السجن بعد الثورة، وتحوّل جسمه – الهزيل أصلا – إلى هيكل عظمي على “شفير الموت” بعد سلسلة من الإضرابات الأشهر في تاريخ السجون بالمنطقة، ونُكِّل به مرارا وبعائلته التي نالت الكثير من العسف والانتقام. كلّ ذلك لم يكسر الرؤية التي حدّدتْ مسار العلاقة، مبكرا، مع “العصابة الحاكمة”، وما فلحَ هذا الفتكُ في إبطال مفعول “ثورة الحقوق” التي تُجنّح منها الثورة اليوم وهي تحصد انتصارات هامة في معركة الحقوق ضد آل خليفة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى