مقالاتنادر المتروك

حديث آخر في التحوّل والمتحوّلين: الشروط والمحاذير

نادر المتروك - كاتب صحافي - بيروت
نادر المتروك – كاتب صحافي – بيروت

البحرين اليوم – (خاص)

القراءة المقترحة للتحوّل هنا لا تطلبُ أن تكونَ سبباً للاشتباك، أو الإثارة، أو تأجيج المشاعر. هي اقتراحٌ في فهْم الأمور، ولا يُفترض أن تكون موْرداً للخصومة، أو الاستقطاب، أو رافعة لطرفٍ ضدّ آخر. والاقتراحُ هنا هو استثمار لضرورة النقد، ولا ينبغي أن يُخشى منه حين يرتدّ عليه، أو يواجَه بمثله. إنّما بذات الأدوات التي يجتهد هذا المقترح البناءَ عليها.

الموضوعُ هو تحوّلات البحرانيين، في الأيديولوجيّات وفي المواقف السّياسيّة، وما بينهما من أفكارٍ وآليات وظهورات.
والفكرةُ هي محاولة قراءة نماذج من هذه التّحولات وفق المعايير “المقترحة” في مقالٍ سابق.
وقبل ذلك، نمرّ على بعض الحالات والأمثلة العامة في المجال الدّيني والثقافي.

يتحوّل المرء لأسبابٍ كثيرة. من المفيد الوقوف عند البُعد الشّخصي في هذه التّحولات. هذا البُعد يُتيح تصوّر بعض المغازي وراء هذه التّحولات، ويُعينُ في تشخيصها. والتّشخيص هنا ليس هو “الشّخصنة”، التي تعني إحالة الأمر برمّته إلى طبائع الشّخص ومخلّفاته النفسيّة والمسلكيّة. وهو عبورٌ غير آمن، ومضرّ، في قراءة أيّ تحوّل، لأنه مدعاة للسّقوط في “التّورط الأخلاقويّ”، أي التّصنيف الحادّ والتّوزيع المجاني لنياشين “الإيمان” و”الوطنيّة” و”النّضال”.

تحوّلات الدّينيين: مكابدة.. أو سمسرة

دينيّاً، ثمّة نموذج لتحوّل بحرانيّ متعدّد الحالات. هناك حالة لرجل دين “ذاق حلاوة الاجتهاد”، وتبوّأ منصب “القضاء”، وتربّع على عرْش الخطابة ب”اقتدار”. لكنّه ظنّ أنّ موروثه الدّيني بات محلّ “اختبار نقديّ عسير”، فأحاله إلى التحوّل عنه، وعلى نحوٍ دفعه للخروج التدريجي عن أساسيّات المعتقد.
هذه الحالة أجرت تحوّلاتها بهدوء، ودون ضجيج معلَن على الهواء، واكتفت باجتراح ذلك بين “الكتب” وعبر المطالعة المحصورة داخل “المختبر النقدي”، وحين آل بها الحالُ إلى التحوّل الجذري؛ لم يدفعها “غرور الاكتشاف” لنصْب العداء أو استعداء المجموع الدّيني وارتبطاته داخل المجتمع، ولم يُتِحْ للسّلطة السياسيّة – بوصفها قوّة قمعٍ، ومركزاً للتشطير، وجهازاً لتوظيف التحّولات ضدّ المعارضين – الفرصةَ الجاهزة والكاملة لأنْ تستثمر انتقالها التّحولي لمصلحتها السياسيّة والأمنيّة، وفضّلت الحالةُ المقصودة هنا أن تُمْعِن في هذا النأي بالإنعزال، وخرجت إلى بلدٍ آخر، ولتكفّ عن الظّهور الدّعائي.

هذا المثالُ لم يكن صاحبه يعاني من ضغط “الحرمان” وقلّة المال، وما كان باحثاً عن شهرةٍ أو منصبٍ أو رغبة في الانتقام من الخصوم. والأهمّ من ذلك، فإنه لم يكن قليل العلم، بل كان متوّفراً على تأسيس معرفيّ عريق، وأدوات خطابيّة، وتنبّه ذهني لافت. ولذلك سلِم من الوقوعِ في أهمّ المآخذ التي تتلبّس المتحوّلين بطريقة “القفزة” واقتناص الفرص السّانحة.

هناك منْ خرجَ من عمامته، وانقلبَ على منبره و”نبْض مجتمعه”.. تحت تأثير عاملي الانتقام من تاريخ الحرمان الشّخصي، وبدفْع من الإغراء الذي هطلَ عليه من كلّ الجهات. ومع تلاقي الانتقام والإغراء بضعف التكوين المعرفي؛ يكون ناتج التحوّل مليئاً بالنواقص، والنواقض، فضلاً عن أنّه يكون مرسوماً ومحدّداً وفق المقاس الذي يرغب به “مصدرُ” الإغراء ومنبعُ النعيمِ المتدفق. ولأن هذا المصدر والمنبعُ هو “سلطة حاكمة”، تمتاز بالقمع والمروق، فإنها منْ يرسْم – وحدها – للتحوّل والمتحوِّل الحدودَ والمضامين وبما لا يكون (هذا التّحول والمتحوِّل) إلا تلبيةً لمصلحتها، أي أن يكون أداةً لقمع المعارضين، ووسيلةً لإضفاء “الشرعية” على مروق السلطة وحكّامها.

لهذا السّبب، ظهر المثالُ المشار إليه سيفاً بيد الجلاّدين، وقلماً يكتب المدائحَ الفجّة بحقّ القتلة، ومروّجاً أعمى لتقارير المخابرات، لينتهي تحوّله “الدّيني” (المفترض) لأنْ يُصبح كوميديا شعبيّة، لا تأثير لها، حتّى غاص في النسيان. هذا المثالُ لا يفكّر – أصلاً – في أن يؤثر، أو يُقنِع، أو يستدلّ على صواب مآلاته الجديدة. لقد وصلَ إلى مبتغاه الشّخصي، وانتهى عند هذا الحدّ “مشروعُ التحّول”.

تحوّلات المثقفين: الأصل.. والفصل

في الوسط الثقافي البحراني، هناك أمثلة أخرى تُوضّح هذه الفروق التي يُستحسن التنبّه لها، لكي يتحسّنُ التّمهيد للحديث عن متحوّلي السّياسة بعد قليل.

المتحوّلون المثقفون في البحرين ليسوا سواء أيضاً.
الانتسابُ للثقافة، بما هي تشكيلٌ معرفيّ منفتح، هو انتسابٌ ممزوجٌ بالتّحول. لا يمكن للمثقفِ أن يكون جامداً، أو متصلّباً على محطّةٍ معرفيّة بعينها. المثقفُ متحوّلٌ على الدّوام، وقيمته الأصيلة تكمن في بنية الجدل التي تقضّ فكره طيلة الوقت. يتّصل ذلك، جوهريّاً، بمخزون الأسئلة، والوفرة الإشكاليّة، والرّوح النقديّة، وعدم الارتياح لما هو جاهزٌ أو معمّمٌ (عموميّ).
ولكن المثقف لابدّ أن يكون مؤمناً بقيمٍ كونية، أو إنسانيّة، تجعله “نضاليّاً” أو “عضويّاً”. الدّرجة تختلف، باختلاف التجربة الشّخصيّة، ومرجعيّة القيم، وبتفاوتِ المستوى المعرفي، وبحسبِ بطبيعة المهام النقديّة، أو الكفاحيّة.

في البحرين، وبحكم طبيعة المجتمع المتعدّد، والبيئة الدّينيّة الخاصة، والنّظام السّياسي القمعي، فإنّ المثقف مناط به أن يكون:

– وطنيّاً، أي غير مشغول بالكفاح المذهبي.
– نقديّاً، أي مسكوناً بالسؤال وتفكيك الظّواهر.
– نضالياً، أي معارضاً للقمع والاستبداد والبنية التي يتأسّس عليها (البنيّة القبليّة، الطائفيّة، والاحتلاليّة في نموذج البحرين السياسيّ).

وفق هذا المنظور التفسيريّ، أخفق مثقفون بحرانيّون كُثر في أن يكونوا مثقفين حقيقيين. هناك منْ تجهّز معرفيّاً على أعلى المستويات، واشتبك بآخر منجزات النقد الحديث، ولكنّه انتهى لأن يكون خادِماً لنفسِه، حصْراً، وعاجزاً عن تحويل النّقد إلى البُقع والمناطق والمساحات والموضوعات التي تضرّ راتبه الشّهري والمكافآت الماديّة والرّمزيّة التي يتحصّل عليها، كما أنه لا يكفّ عن “التنظير” لاستبداد النّظامِ وتوظيف عتاده الفكريّ في تلميع أجهزة القمع والاضطهاد التي تحكم البلاد والعباد.

هذه الحال لها أمثلة في الأجيال الثقافيّة كلّها. هناك صاحب نظريّة “اللا حسم” والمهموم بتحوّلات المثقفين العرب، ولكنه بات كاتباً لخطاباتِ “العرش” ومستشاراً له. وهناك ناقد “السّكون المتحرّك”، وشعراء “كلمات” و”كرز”، وخرّيجو سجن “جِدا”، وهناك جيل “البحرين الثقافيّة”، وجُلاّس “مي الخليفة”، وهناك نَقَلة “فوكو” و”دريدا”، وهناك هواة التنّظير التاريخي والمنقبون في الآثار والأزمنة، وهناك الغرقى في تطبيق المفهوميّات على “الحالة البحرانيّة” ساعةَ الرّخاء، لا الشدة. كلّ هؤلاء ابتلوا بثورة البحرين، بعضهم انكسر قبل أن تبدأ أصلا، وبعضهم نأى عنها في الظاهر وغازلها إخفاتاً، والبعض وجد الثورة اختباراً ممكناً، فسارَ معها، وتلبّس ببعض محطّاتها، وحين مُحّصوا بالبلاء.. استرجعوا، وتراجعوا.

كلّ هؤلاء لم يُخفقوا في أن يكون ثوّاراً، فهذا اختبار لا يجوز زجّه في كلّ مكان. لقد أخفقوا في انتسابهم للثقافة، أولاً.. وقبل كلّ شيء.

تحوّل السياسي أو المعارض: مع النّاس.. وضدّهم
أمّا السّياسيّون وتحوّلاتهم، فتلك قصّة أوضح.

موضوع الاختبار هنا هو ثورة البحرين. وهو اختبارٌ بات مكتملاً إلى حدّ كبير، بعد مضيّ نصف عقد عليها، وما صاحبها من مراحل وتغيّرات وظروف ترتبط بالزمن القريب (انطلاق الثورة) والزمن المتوسط (متغيّرات الثورة الداخلية) والزمن البعيد (سياسات القمع وظروف الخارج).

لنجري أولاً الخلاصات التي تمثّل المجموع الكلّي لثورة البحرين وهي تقطفُ ربيعها الخامس:

– النظامُ الحاكم بلغ ذروةَ العداء للشّعب، وفي سجلّه من الموبقات ما يجعله في خانة “العدو” للشّعب. هذا المعنى ينطوي على حقيقةِ أنّ النّظامَ ليس معنيّاً بعد اليوم بإعادة العلاقة مع النّاس، لا بالرّابطِ الدّستوري، ولا بأيّ عقْد اجتماعيّ آخر. كلّ الطّاقم الحاكم أفصحَ عن هذا العِداء الجذري، وكلّ مسؤولٍ في البلادِ يحملُ جُرْماً وجريمةً وسوءاً واعتداءاً، ابتداءاً من نكْثِ العهود، ومرورا بشرعنة القتل بالسلاح، وليس انتهاءاً بإعلان اجتثاث الرؤوس.

– بالنّسبة للنّاسِ، كان الموقفُ بالمثلِ. قطعوا الطّريقَ جذريّاً أمام أي ترميمٍ للعلاقة مع النظام. هناك مخزونٌ لغوي متراكم ومتوارث بين النّاس، يتداولونه في حياتهم الخاصة، وفي تعاملاتهم العامة، وخلاصتُه يسمعها الجميعُ من فضاء التظاهرات اليوميّة التي تعبر الشوارع والطّرقات، حيث يُبدِع النّاسُ في فنون الإفصاح عن “المفاصلة” و”اللا عودة إلى الوراء”، ولو قيْد حوار ومصافحة.

ماذا يجب أن يفعل الناشطُ السياسيّ أو المعارض، أو كلّ منْ يتحدّث في الشأن العام على أرضيّة “الاختلاف” مع النظام؟

السّياسي القريبُ من النّاس، والذي يريد أن يكون معبّراً منهم، عليه أن يكون صادِقاً مع نفسه وهو يُخبرنا عن حقيقة النظام القائم. على هذا النّاشط أو المعارض أن يكون قوْله وفعْله مكافئاً، وزناً ومحتوى، مع طبْع النظام وسيرته. لا مخفِّفاً ولا مجمِّلا، ولا مدافعاً بالطبع. أيّ شيء من هذا القبيل هو تحوّلٌ نحو النّظام، وانشدادٌ له، وتفاعلٌ تسالميّ معه.

للنّاشطِ في السّياسة أن يُغيّر قناعاته، أو يقفز في الهواء، مرةً بعد أخرى، ولكنّ عليه ألا يُحاجج منتقديه بالعودةِ إلى النّاس، وألا يتغطّى برداء الحبّ لهم، والتعاطف معهم.
يمكن للمتحوِّل درجاتٍ عن ماضيه “المعارِض”؛ أن يعْبُر إلى محطّته الجديدة، وأن يُعبّر عن آخر اختراعاته اللّفظيّة في تخفيف “المعاناة عن الناس”، وإيقاعهم في “وقيعة” الواقعيّة التي يرسمها في مخيّلته. ولكن عليه أن يُخفّف أولاً من استعطاف الودِّ والقُربى من النّاس، وأن يُفصِح – ثانياً، ودون خجل – بأنه ما عادَ كما كان، ولا هو يُمانع، أو يتمنّع، عن الذهاب إلى مكان آخر. عليه أن يقفز فقط، وكأنه يزاول لعبةَ الحبْل، أو يتسلّى مع نفسه لتقطيع الوقت، وإلى أنْ تقع الواقعة، ولا يعود من حاجةٍ للحديث لا عن الواقعيّة، ولا شقيقاتها.

حين يتمادى هذا اللّون من المعارضين المتحوّلين في تعنّته، بألا يقرّ بأن خياراته السابقة كانت خائبة، أو متسرِّعة، وألا ينسى “الناسّ” ومعاناتهم، ويكفّ عن الاحتجاج بهم، والاحتجاج عليهم في آن؛ فإنه يكون عُرْضة للتقوّض من الدّاخل. هذا التقوّض إما أن ينتهي إلى الجنون، أو المجون. وفي ذلك أمثلة كثيرة.

ما هو الحلّ؟
التحوّل في السّياسة حقٌّ مشروع. ولكن بذات الحدود التي تُشترط في تحوّل المثقف، ومن غير المحاذير التي وقع فيها المتحوّلون الدّينيون.
وفي ذلك تكملة أخرى…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى