ما وراء الخبر

في أربعينية الشهداء المقاومين: صناعة الأيقونة الحيّة للمقاومة

 

البحرين اليوم – (متابعات)

مرّ أربعون يوما على ذكرى شهداء المقاومة: رضا الغسرة، محمود يوسف، ومصطفى يوسف، وهي مدة كافية لقراءة أبعاد الحدث الذي بدأ فعليا قبل استشهادهم، وتحديدا في الأول من يناير الماضي، حين نجح عشرة من السجناء في تنفيذ “هروب” استثنائي من سجن جو المركزي، وكان بينهم الشهيد المقاوم رضا الغسرة.

لا يقتصر الأمر على عملية “الهروب” من السجن، فقد جرت عمليات مشابهة في أوقات مختلفة من عُمر الثورة في البحرين، ولكن الخصوصية التي تميّزت بها عملية الأول من يناير تعود إلى طبيعة العملية ذاتها والظروف المحيطة بها، والأشخاص الذين كانوا فيها، وردود الفعل الرسمية والشعبية عليها، وصولا إلى النهاية التي سجّلت حكاية مغايرة في “فعل” الشهادة وسط البحر، والمقاومة التي أبداها الغسرة حتى آخر لحظة، وما أعقب ذلك من تداعيات على مستوى التعاطي الرسمي والأثر الشعبي للنهاية التي كانت مفجعةً، ولكنها فتحت آفاقا عميقة في تصوّرات الصراع القائم في البلاد.

قد لا يكون مبالغاً الحديث عن مرحلة جديدة وطّدتها حكاية الشهداء المقاومين، رغم قلة المعلومات المنشورة، إلا أن المعلَن حتى الآن؛ يكفي لتسجيل إطار نوعي، وغير مسبوق، ليس في سياق ثورة ١٤ فبراير، ولكن أيضا في تاريخ النضال الطويل للبحرانيين.

منذ البدء، أي بعد الإعلان عن عملية الأول من يناير؛ احتفى المواطنون بنحو مطّرد بالشهيد الغسرة، وهي نتيجة مهمة لجهة ما سيمثله هذا الاحتفاء من تعلّق بالوعي الثوري الخاص الذي جسّده الشهيد، والذي اتضح أكثر مع حدث الاستشهاد في التاسع من فبراير الماضي، وقبل ذلك مع الرواية التي قدّمها الشهيد في كتاب (زفرات)، حيث ظهر الأخير مقاوِماً لا يُقهر، وعبّر عن قيم راسخة في عدم إمكان الاستسلام والخضوع وقبول الذّل، وعكس ذلك في سلسلةٍ ممتدة من السلوك “المتمرِّد” داخل السجن، حتى أضحى أيقونة في هذا المجال، ويحسب له جلاّدو السجن ألف حساب.

ارتبطت عملية الأول من يناير بالشهيد الشيخ نمر النمر، وهو ارتباط لم يكن “احتفاليا” أو من باب الدعاية الثورية. حرص منفذو العملية على أن تحمل العملية رسالة الوفاء لدماء الشهيد النمر، وكان الشهيد الغسرة أبدى من خلال مواقف صوتية وشعرية تعلّقا بالشيخ النمر، وشغفه بهذه الشخصية التي تعدّ “استثنائية” في محيط علماء الدين بالخليج. وبهذا الارتباط المعنوي والفكري؛ سجّل الشهداء المقاومون الخيط الواصل بالمدرسة الخاصة التي تميّز بها الشهيد النمر، لجهة التحدي الدائم والصريح لآل خليفة وآل سعود، وعدم القبول بأي تراجع أو مسالمة معهم، والتمسُّك بالخيارات الممكنة لإسقاطهم. أخذ هذا الارتباط بُعداً آخر من التكامليّة، أو التمدُّد في الرؤية، وذلك مع تجسيد مقولات الشهيد النمر في المقاومة، وتثميرها باتجاهات “رادعة”، تأخذ شكلاً مختلفاً من أشكال المقاومة الفعلية. وكان هذا التجسيد الحيّ مناطا على وجه الخصوص بالشهيد الغسرة، كونه الأفضل في إتمام النموذج، أو في تحريكه إلى الخارج بوضوح كامل، وأسعفه على ذلك المؤونة المعنويّة والرمزية التي بات يتمتع بفضل سيرته في المقاومة الميدانية، والمقاومة داخل السجن، وإصراره على تحويل هذا المبدأ إلى ممارسات عملية تتحدى كل الظروف الصعبة.

من بين العناصر الهامة التي ساهمت في تعميق هذا النموذج؛ هي الردود التي توالت بعد تنفيذ عملية “الهروب”. على المستوى الرسمي، أعلن النظام الخليفي عن إحالة ثلاثة من قيادات وزارة الداخلية الخليفية إلى التحقيق، وبينهم مدير السجن. ونفّذت بعدها القوات الخليفية، وبدعم من الأجهزة الأجنبية، عمليات واسعة من الحصار والتفتيش في مختلف مناطق البحرين، وتحوّلت البلاد على مدى أسابيع إلى سياجٍ عسكري كبير أثار استياء جميع المواطنين، بما فيهم الموالون الذين أنتجوا تعليقات ساخرة في وسائل التواصل الاجتماعي، أعطت انطباعاً إضافياً على قدرة الغسرة ورفاقه على إحداث “الاهتزاز” في جدران الديكتاتورية، بعد أن كسروا جدران السجن أكثر من مرة.

شعبياً، ورغم التفاوت في استقبال حكاية “الهروب”، إلا أن الناس كانوا في حال عالية من الانشداد بالشهيد الغسرة ومجموعته، وجرت إعادة توسيع الخطاب التعظيمي لتلك الشخصية التي لم تتجاوز الثلاثين عاماً، ولكنها زاحمت العديد من الصّور والتمثلات التي تشغل الوجدان الشعبي والسياسي للمواطنين والنشطاء، وكان هذا الانشداد يتعاظم مع كل يوم يمضي بعد عملية “الهروب”، وبدأت صور الشهيد الغسرة الجديدة تنتشر في كلّ مكان، وأخذ شعور الترقّب يزداد صعودا وبانتظار لحظة الإعلان الأكيد على وصولهم إلى برّ الأمان. في العُمق، شكّلت هذه الفترة الفاصلة بين “الهروب” و”الاستشهاد”؛ محطّة زمنية وشعورية لها أهميتها في بناء المنظومة الذهنية لخيار المقاومة.

السلوك الخليفي بعد الاستشهاد كان له دوره العكسي أيضاً، وأسهم من حيث لا يريد النظام في تعميق أيقونة المقاومة. تداعى المواطنون للخروج في تظاهرة حاشدة رافعين صور الشهيد الغسرة وتم تنصيبه مع رفاقه شهداء للمقاومة. هذا الفعل التلقائي له معناه في صناعة الرسائل الحاسمة إلى النظام، وكان الإصرار الشعبي، الظاهرُ وغير الموارب، على الاحتفاء بالغسرة “استفتاءاً” على النهج الذي اتخذه على مدى حياته النضالية وحتى يوم الشهادة. انطبعَ هذا الاستفتاء ببروز صفّ آخر من أمهات الشهداء المقاومين، وفي المقدمة منهن والدة الشهيد الغسرة، التي أبدت الافتخار بابنها وسط القوات الخليفية، وأعلنت أكثر من مرة بأن رضا لم يمت، وأن “آلافا” منه سيُولدون. وهي إشارة واضحة على ولادة الجيل المؤمن بالمقاومة، وبالطريقة الخاصة التي اختصر بعض أشكالها الغسرة.

اليوم، ومع احتفاء المواطنين بالشهداء المقاومين، وحرْصهم على إحياء ذكراهم في اليوم الأربعين، هناك ٣ حقائق ينبغي أن تكون أمام ناظر كل الذين يجتهدون لقراءة ما ستؤول إليه الأمور في البحرين:

١- نجحت عملية “الهروب” من سجن جو في تحقيق هدفها العملاني أولاً، وهدفها الإستراتيجي المتمثل في تثبت خيارات المقاومة، خارج السجون وداخلها. وهو نجاح يُذكّر بإمكانات “إرادة المقاومة” المفتوحة، وعدم استحالة ردع القوة المادية للعدو، ومهما تعاظمت وتكاثر داعموها.

٢- تأكَّد الفشل الخليفي في تفكيك الاحتضان الشعبي مع البيئة العامة للشهداء المقاومين، وهو الفشلُ المتراكم الذي يُتوقّع أن يُفرز نتائجَ حاسمة في تغيير القابلية العامة لخيار المقاومة، فضلاً عن التسريع في خلق التمديدات العملية للنموذج المقاوم.

٣- أضحى من العصيّ الالتفاف أو التهوين بالنّموذج المقاوم في البحرين، وذلك لكونه تحوّلَ إلى “أيقونة” غير قابلة للتكسُّر والتشكيك، بسبب ارتباطها بالشهداء الخالدين، وهو ما يعني أن “الرّهان” على المناورة السياسيّة على إعاقة هذا الاتصال بالمقاومة والإيمان بها؛ سيكون اصطداما مباشرا مع المعنى العميق الذي يمثله الشهداء في عيون الناس وقلوبهم وعقولهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى