مقالاتنادر المتروك

ملف الشهداء: مؤشر التّحول والثّبات

nader

نادر المتروك

يشكّل الموقفُ من الشهداءِ عنصراً حاسماً في تأسيس الموقفِ السّياسيّ العام في البحرين. هذا الملف يمثّل حسّاسيةً حقوقية ودينيّة وأخلاقية، ومنه يمكن فرْز المواقف العامة ومحاكمتها. ويتأكد ذلك في خصوص شهداءِ انتفاضة التسعيناتِ وثورة ١٤ فبراير، حيث حظي شهداء هذين الحَدَثين بحضورِ مركزي في الوعي السّياسي والدّيني للمواطنين، ومن اللافت أنّ ثمّة عناية فائقة أبداها أبناءُ هذين الجيلين في استحضار الشهداء والتمثّل بهم، وإعادة تكثيف ترميزهم في تأسيسِ الموقف، وبناءِ الرؤية، والاحتجاجِ مع الخصوم.

العملية هذه تبدو بنكهةٍ خاصةٍ مع المشهد البحراني، ولاسيما بعد أن تعمّق التّمسك بالشهداء باعتبارهم قيماً راسخة ومفهوماً جوهرياً في صُلب الحركة السياسيّة، وأضحى ذلك محاطاً بالحماية شبه الكاملة مع بروز جملة من الأطر المؤسّسيّة التي حملت على عاتقها حمل ملف الشهداء، ومنها اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب (التي تركّز جهدها في البدء – بعد العام ٢٠٠١ م – على شهداءِ الانتفاضة، ولكنها تلاشت في السنوات الأخيرة)، وكذلك رابطة عوائل الشهداء، والتي تكوّنت من رحم ثورة ١٤ فبراير، وشكّلت تحوّلاً نوعيّاً في هذا الشأن، لكونها انبثقت من آباء الشهداء أنفسهم، وتوّلوا مسؤولية المباشرة في الدّفاع عن هذا الملف، وتقديم التضحيات الجمّة في هذا السّبيل، فضلا عن كونهم كانوا حاضرين في الميدان، ولم يتوان بعضهم عن إبداء المواقف العلنيّة الناقدة، ليس في خصوص التّعاطي مع ملف الشّهداء فحسب، ولكن أيضاً في مختلف القضايا العامة وشؤون الثورة، وهو ما منح الرابطة قيمةً إضافية بعد أن تحوّلت إلى ضلع مؤثر في المشهد الثوري والسياسيّ، وهو ما اضطر الفاعلين السياسيين لأخذه في الحسبان دوماً.

على هذا النّحو، لن يجادل أحدٌ في إمكانِ أن يكون ملف الشّهداء معيارا للحساب والقياس، وأداةً للفحص والتمحيص، ومؤشراً على القبول والرفض، وقالباً يتم من خلاله معاينة الثبات والتّحول في المباديء والمواقف.

يمكن تطبيق ذلك على التّحوّل المتكرّر الذي يتنتقل من شخص لآخر، ومن جهة لأخرى، وفي سياقِ التبدّل العام الذي يمارسه البعض حينما يصطدمون بالضغوط المحيطة، ويجدون أنفسَهم غير قادرين على دفْع المزيد من الكلفةِ “الباهظة” لقاء الثباتِ على الموقفِ القديم. في هذه الحال، لن يجد هؤلاء عجْزا في اختراعِ المبررات وتقديمِ الأطروحات المفبركة في إخفاءِ الطابع “الانحرافيّ” للتحوّل، والإيحاء بأنهم “ثابتون” ولم يغيّروا أو يتغيّروا إلا في الشّكلِ والظّاهر، وأنّ مضمونهم وجوهرهم وحقيقتهم لازالت على ما هي عليه!

ما الذي يمثله ملف الشهداء من ناحية قيم الثبات السياسي؟
يتوجّه هذا الملف مباشرةً نحو إدانة المجرم القاتل. هنا، ليس هنالك أدنى فرصة للتساهل في التجريم وما يلحق ذلك من موقف قانوني وأخلاقي تجاه الجهة التي تقف وراء ذلك، وسيكون أيّ شكل من التساهل أو الإهمال أو التراخي في ملاحقة المجرم مؤشراً على التّحوّل السّلبي أو الخضوع للمجرم والتّعاطي الإيجابي معه، بما في ذلك غضّ الطرف عن تسميته و التباطوء في التأكيد على مسؤوليته الكاملة، والتملص من ضرورة ملاحقته وإحاطته بالقطيعة والنبذ إلى حين إقامة القصاص والعدالة.
يندرج تحت مفهوم التراخي المواقف التّالية: إرخاء العلاقة مع القاتل والتقارب منه، وتقليص سقف مطلب العدالة الانتقاليّة عبر حصْر الاتهام بالأشخاص دون المؤسسة الأمنيّة ونظام الحكم بأكمله، وكذلك التردّد في توصيف مقام الشّهداء ونزْع الاعتباريّة الوطنيّة والدّينيّة عنهم، إضافة إلى خطاب التغافل عن الأهداف والشّعارات والظروف الميدانيّة التي تمثّل السياق الموضوعي للشهادة.

من الواضح أنّ الأصناف المتحوِّلة التي تتبنى منهج التسالم مع السلطة القائمة (سلطة الجريمة)، والتي تدعو للحوار والتفاوض واقتراح “مبادرات” التلاقي مع بنيتها القائمة؛ هي تتبنى موقفاً ضمنيّاً ينزع عن هذه السّلطة المسؤوليةَ الكاملة عن إيقاع جريمة القتل وتفاصيلها، وهو موقفٌ يراه المتحوّلون اضطرارياً أو طبيعياً، مستفيدين في ذلك من ذات القاموس المصطنع والحيل الالتفافيّة التي عمِل النظام على استزراعها في إطار الهروب من تحمّل مسؤولية جريمة القتل، من قبيل مرسوم قانون ٥٦، ومقولة “التصرف الشخصي”، ومحاكمة أفراد من الشرطة والضّباط (وتخفيف الأحكام ضدهم)، وإنشاء مؤسسات التحقيق التابعة للنظام، وغير ذلك.

سيكون جليّاً أنّ أيّ تجانس مع هذا المسار الرّسمي هو تحوّلٌ مدان ومريب، ويحمل طبيعةً معادية لملفّ الشهداء، والذي يعني معاداة كلّ القيم والمفاهيم والسياقات التي يمثلها هذا الملف، وهو ما يفضي – في النتيجة – إلى الخروج من فضاء المعارضة، ومن دائرة الثورة، وإلى حيث تتجمّع موبقات النظام ومؤمراته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى